قد يكون من المفيد أن نخص معركة بدر ببعض ما تستحقه من إفاضة الحديث لما لها من الأثر الحاسم في تاريخ المسلمين العسكري، ولا أستطيع أن أصف المعركة في بدر دون أن أشير إلى الحالة العسكرية في الجزيرة قبل بدر، وما صارت إليه بعد بدر.
لقد كان العرب على علم تام بضروب القتال كما هي الحال في العالم في ذلك العصر، فكانوا يعرفون فنونه وأدواته كما تعرفها الأمم المحيطة بهم، وكانت قريش بين العرب ممتازة بالثروة والرحلة والإحاطة بما يحدث في العالم أكثر من غيرها من القبائل العربية، كما كانت تتمتع بالسيادة الدينية في الجزيرة، وتتمتع بتجمع قواها في مكة، مما يمكنها دائماً من سرعة الحشد والتعبئة. لكل ذلك آلت إليها القيادة العسكرية، كما آلت إليها القيادة الدينية، فكانت مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم انتزاع هذه السيطرة من قريش، لينتزعها من الجزيرة كلها. ولم يكن من الممكن بعد تجربة دامت ثلاث عشرة سنة يدعو فيها إلى دينه بالوسائل السلمية، دون أن يصل إلى حرية العقيدة بسبب سطوة قريش ونفوذها في العرب، ألا ينازعها هذه السيطرة. فغزوة بدر لم تكن أمراً عرضياً، ولا كان كل المقصود بها في الواقع مجرد الاستيلاء على عير قريش، بل كان المقصود كذلك ضرب قريش في قوتها الحربية.
وقد أدرك الرسول أن أصحابه أصبحوا من النظام الذي بثه فيهم، والروح المعنوي الذي سرى في نفوسهم، من اجتماع الكلمة والفناء في سبيل الحق، بحيث يستطيع أن يلقى بهم سادة الجزيرة العربية في أول معركة منظمة. ولو لم يكن يعلم هذا، وكان يخشى لقاء قريش مجتمعة، لذهب إلى طريق الشام يلقى عيرها، ولكان ذلك أهون عليه، لأنه يلقاها في مكان أبعد عن مكة من المكان الذي لقيها فيه، فهو أذن لم يقصد قافلة التجارة لذاتها، ولكنه أحب أن يلقي معها جيش قريش.
تقدم الرسول إلى بدر بكتيبة ليس لها من معدات الجيوش ما لقريش، فقد كانت الخيالة فيها لا تزيد على فارسين في رواية، وثلاثة فرسان في رواية أخرى، ولم تكن لها دروع ولا سلاح غير السيوف، بل لم يكن لها ما يكفي من الإبل لحمل العتاد والرحال. هذا على حين كان لقريش العدد والعدة، فكان عدد فرسانها مائة فارس، وكان مشاتها ثلاثة أضعاف المشاة من أصحاب الرسول، وكان معها من الإبل ما يكفي لأن يذبحوا لطعامهم عشرة كل يوم، وكان كل ما يعرف من أنواع السلاح إذ ذاك متوافراً لها بسبب ثرائها، واستعدادها الدائم للحرب وخصوصاً هذه المعركة، ولكن شيئاً آخر عظيماً كان متوافراً لأصحاب الرسول، فاستعاضوا به عما كان ينقصهم من العدد والعدة؛ أما هذا الشيء العظيم فهو أمور ثلاثة:
الأول: النظام، فإن التربية المحمدية سواء أكانت في صورة العبادة، أم تلقين عقيدة التوحيد، أم إرجاع الأمر إلى الله مع حسن العمل، أم الإيمان بالمساواة في عمل الدنيا والآخرة، أم إيثار الشهادة في سبيل العقيدة على الحياة وما يتعلق بها من أحوال الأهل والعشيرة، وكذلك انطباع نفوسهم بطاعة الرسول وأولى الأمر منهم ـ أن هذه التربية أحدثت فيهم قوة جديدة لم يكن العرب يعرفونها من قبل؛ تلك هي قوة النظام التي رجحت بها كتيبة المؤمنين على جيش المشركين.
والثاني: القوة المعنوية التي ملأ بها الإسلام نفوسهم، فإنهم دون مشركي العرب كانوا يؤمنون بالبعث، فهم لذلك لا يرون في الموت فناء مطلقاً، بل يرون أن وراءه ـ مع إدراك فضل الشهادة ـ حياة أبقى وأسعد من هذه الحياة.
من أمثلة ذلك أن شاباً في السادسة عشرة من عمره كان في كتيبة المؤمنين، فلما سمع الرسول يحرض المؤمنين على القتال ويعدهم الجنة قال: إذن ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التمرات؟ وهي تمرات كان يأكلها، فقذفها، وحمل بسيفه على المشركين، فلم يزل يقاتل مستبسلاً حتى لقي الموت الذي يريده.
والثالث: وحدة القيادة، فقد كان المسلمون ممتازين بها، يتفانون في الإخلاص والطاعة لقائدهم، وذلك من الأمور التي ضاعفت قواهم.
ولنذكر لذلك ما حدث في أثناء المعركة، إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقوم الصف، رجلاً خارجاً عن رفاقه في الصف، فوكزه، فقال الرجل: أوجعتني يا رسول الله، فأقدني منك، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: اقتص لنفسك، فقبل الرجل بطن النبي: فقال النبي: ولم أذن؟ قال أردت أن يكون هذا آخر عهدي بالحياة.
تلك أهم الأسباب التي استعاض بها المؤمنون عما كان في جيشهم من نقص العدة والعدد، ولا تظنوا أن قريشاً كانت خائرة فاقدة للنظام والقوة المعنوية، فقد كان لديها أكمل نظام يعرفه العرب، ولها من عزتها، ومن حب المحافظة على سيطرتها العسكرية، ومن الرغبة في الانتقام لحادثة نخلة وقتل ابن الحضرمي، ومن العزم على الاحتفاظ بحرية التجارة وسلامة الطرق الموصلة لهذه التجارة، ما جعلها تقاتل مستبسلة، حتى أن رجلا منها أقسم أن يرد حوضاً وسط جيش محمد، فلما قطعت رجله قبل أن يصل إليه دفع نفسه إلى الحوض، وهدم جزءاً منه برجلة الأخرى، ولما جرح أبو جهل مر به رجل من المسلمين وهو في حشرجة الموت، فوضع قدمه على عنقه، وقال: أرأيت كيف أخزاك الله؟ قال وبم أخزاني؟ أعارٌ أن أقتل؟
من هذا تدركون عظم مهمة الجيش الإسلامي في سبيل انتزاع السيطرة العسكرية التي كانت لقريش.
أما كيف وقعت المعركة نفسها، فقد تقدم الجيش الإسلامي من الشمال إلى الجنوب، فلما وصل إلى ساحة بدر كانت ميمنته سلسلة من التلال المرتفعة، وكذلك على ميسرته سلسلة أخرى أقل ارتفاعاً.
وتقدم جيش المشركين، وكان أمامه كثبان من الرمل تقع غرب وادي بدر، وعلى ميسرته أرض صخرية قليلة الارتفاع.
في السهل الذي بين هذه الجبال وهذه الكثبان وقع أول تصادم بين القوتين، وكانت الليلة التي سبقت المعركة شاتية، فهطل مطر غزير في ناحية قريش، وكان أقل غزارة في ناحية المسلمين، جعل مهمة قريش في التقدم إلى ساحة بدر أشق من مهمة المسلمين، ولما تقدموا في الصباح استقبلت المشركين الشمس من المشرق، وهم متجهون إليها، فكانت من العوامل الطبيعية المؤذية لهم.
نشبت المعركة كما تنشب المعارك في ذلك العصر، بفرسان يتقدمون الصفوف ويتصارعون، فتقدم ثلاثة من بني هاشم، ولقيهم ثلاثة من صناديد المشركين، وفي دقائق معدودة فتك المسلمون بأندادهم، فكان هذا استفتاحاً حسناً للقتال، وهنا أمر رسول الله بذلك الأمر الحكيم، أمر الكتيبة الإسلامية أن تتراص وألا تتحرك من مكانها، وأن تصد بالنبال خيل العدو وهي تأتيها من جوانبها. فرأت قريش لأول مرة كيف تثبت الراجلة أمام حملات الخيالة غير هيابة ولا مرتبطة، وللخيالة كما قدمنا هيبة عظيمة في هجومها، يعرفها الذين مارسوا الحرب وشاهدوها. حمي الوطيس ورسول الله يدعو ويحرض على القتال، والمشركون على عديدهم وعدتهم واستبسالهم، يحاربون قوماً قد امتنعوا بسيوفهم، وآثروا الموت على الحياة. انتهى الأمر بهزيمة المشركين، فانطلق المسلمون في أثرهم، وأثخنوا فيهم، لا يلتفتون إلى نهب ولا سلب، كعادة العرب في ذلك العصر، حتى انقلبت الرجعة القرشية فراراً مخزياً، وانكساراً غير مسبوق لقريش.
كانت قتلى قريش في هذه المعركة خمسة أمثال قتلى المسلمين، وكان أسراهم مثل قتلاهم، ولكن ليس المهم في بدر عدد من دفنت من القتلى، ولا عدد الأسرى، ولا مقدار الغنائم، وإنما المهم هو أن قريشاً دفنت في وادي بدر سيادتها على الجزيرة العربية. وليس الأمر الخطير هو أن محمداً صلى الله عليه وسلم رجع بأعدائه مكبلين إلى يثرب، وإنما هو أنه رجع بالسيطرة العسكرية وقد انتقلت من مكة إلى المدينة.
رجع النبي إلى المدينة وقد ثبت أن النظام العسكري الذي استحدثه هو نظام يفوق ما يعلمه أهل العصر، فوضع في بدر قواعد الجيش الإسلامي، وكانت هذه الكتيبة نواة له.
ومنذ بدر والإسلام ينتشر، وجيوشه تسير إلى المشرق والمغرب، تطوي الممالك، وتثل العروش، وتتغلب على العقبات بأمرين: حب النظام، واحتقار الموت؛ ولا يزال هذان الأمران دعامتي النصر، ولن ترجع للمسلمين سيادتهم الأولى حتى يقيموا حياتهم وجيوشهم على الأساسين اللذين وضعهما رسول الله، واللذين مكنا له في بدر بالرغم العدة والعدد والبسالة التي كانت لخصومه.
وقفنا عند بيان قصد الرسول من حركاته العسكرية، ووقعاته مع المشركين، وقلنا: إن الأساس هو الوصول إلى حرية الدعوة، بل إليها وإلى حرية العقيدة للاديان السماوية جميعاً، وقلنا: أنه ليس أدل على هذا القصد من هدنة الحديبية بل ليس أدل عليها من القرآن نفسه؛ انظروا إلى هذه الآيات:
" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله" فالإذن بالقتال معلل باضطهاد العقيدة، ومصادرة حرية الناس في أن يقولوا ربنا الله، وتلك هي الآية التي شرع بها القتال، ثم هذه الآية " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير" ففيها أيضاً الأمر بالقتال معللاً بمنع الفتنة، وهي الإكراه على تغيير العقيدة، فإن انتهى الأعداء عن هذا الإكراه ترك أمرهم إلى الله، وكذلك قوله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا" فالقتال هنا مبرر بالدفاع عن الحرية، على أن لا يتجاوزها إلى العدوان. ثم انظروا إلى الآية الآتية كيف جعلت القتال مبرراً بالدفاع عن حرية الأديان السماوية جميعاً، وجعلت الغاية منه أن يتمكن المسلمون من إقامة الصلاة، والبر بالمساكين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".
واضح من كل هذه الآيات غرض الإسلام من القتال، وهو منع الفتنة واضطهاد الناس، وردهم عن عقائدهم قسراً.
تلك الفتنة التي هي أكبر من القتل، وأسوأ عاقبة من الحرب: " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل قتال فيه كبير. وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، والفتنة أكبر من القتل، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا".
فغرض النبي كما هو جلي من القرآن، هو الدفاع عن حرية العقيدة، وقتال المشركين حتى يسلموا باحترام هذه الحرية. ولما استقر لمحمد الأمر في المدينة، وصفت أحوالها، وخلصت له، وأدرك أعداؤه أن لا أمل لهم في مهاجمتها، ورجحت قوى الدولة على ما حول يثرب من المشركين واليهود، كما استقرت هيبته في نفوس القبائل، وسار بحديثه الركبان في جزيرة العرب كلها، وأصبح تام السلطة على الطرق إلى مكة، فحصرها وقضى على حرية تجارتها، وصار بذلك قريباً من وضع السيف في غمده؛ لحظ بثاقب نظره أن الساعة قد أتت لهدنة مع مكة، فسار في جيش من الأنصار والمهاجرين وحلفائهم وساق الهدى، وأعلن أنه يريد الحج ولا يريد قتالاً.
سمعت به قريش فخرجت لتصده عن البيت، واستعظمت أن يدخل عليها هذا الدخول، وأبت أن يتحدث العرب بأن محمداً طاف بالبيت، وجاء مكة في منعة من قوته، فتحالفوا وتعاهدوا على ألا يدخلها عليهم أبداً، وكان جيش محمد على تمام الاستعداد لاقتحام ديار المشركين إذا منعوه في الشهر الحرام، من حق لجميع العرب، وهو حج البيت ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يرغب في شيء آخر، فقد عقد العزيمة منذ خرج من المدينة على ألا يقاتل، وجعل السلم نصب عينيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يرده عن عزمه شيء، ولا يحوله عن مقصده أحد، قد اجتمعت له العزيمة الصادقة والحكمة والأناة.
تلقى عنت قريش بالصبر، فسلك طريقاً وعراً بأصحابه حتى لا يصطدم بأعدائه، وحتى يعطيهم فرصة للتفكير فيما هم مقدمون عليه، وقال: لا تدعوني قريش اليوم لخطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا عطيتهم إياها. فلما نزل الحديبية في حرم مكة بالغت قريش في عنادها، وأبوا إلا أن يرجع بالهدى وقد ساقه وألا يطوف بالبيت وقد أحرم للحج والعمرة.
ولما أرسل من يؤكد لهم حسن قصده، عقروا بعيره، وهموا بقتله، فاستمر في إيفاد الرسل، والنصح لهم فما ازدادوا إلا طغياناً وكبراً، وبعثوا رجالاً، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر محمد ليصيبوا لهم من أصحابه، فأخذوا أخذاً، وأتى بهم إلى رسول الله، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم.
أنتج هذا الصبر المحمدي نتيجته سريعاً، فعلمت العرب أنه لا يريد قتالاً، ولا يضمر شراً، وأخذ أحسن حلفاء قريش ينفضون أيديهم من إثمها، وأعلن زعيم الأحابيش أنه لا يرضى عن صد الناس عن البيت، وأنهم لم يحالفوا قريشاً على شيء من هذا، ونصح لهم أخوانهم من ثقيف بعدم التعرض لمحمد، وأرهبوهم من بأس المؤمنين معه ودنت بذلك الغاية التي أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم وسلم، وهي المهادنة وإحلال السلم محل القتال، فجاءه سهيل بن عمرو مفوضاً من قريش، ليصالحه على أن يرجع عامه هذا، ثم يأتي في العام القابل، فيحج ويقيم في مكة ثلاثة أيام، بعد أن تخليها له قريش.
شق على المسلمين أن يرجعوا، ولكن الرسول قبل ذلك، وجرت المفاوضات على هدنة لعشر سنين، فاشترطت قريش أن من يلجأ في أثنائها إلى محمد من غير إذن وليه يرده إلى قريش ومعاهديها، وألا ترد قريش وحلفاؤها من يلجأ إليها من أصحاب محمد.
فلما قبل الرسول هذا الشرط وثب عمر بن الخطاب، فأتى النبي، فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا!؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني.
كاد الناس يهلكون مما دخل عليهم من أمر هذا الصلح وشروطه، ورجوعهم عن زيارة البيت، ولكن التربية المحمدية، والعزيمة القوية التي أظهرها الرسول بإصراره على إقامة السلم، أقرت الأمور في نصابها. فلما جلسوا لكتابة العقد، تجلى صبره مرة أخرى، فإنه على بن أبي طالب، وقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مفوض قريش سهيل بن عمرو: أمسك، لا أعرف الرحمن الرحيم، بل اكتب باسمك اللهم. قال رسول الله: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال سهيل: أمسك، لو شهدت أنك رسول الله ما قاتلتك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، قال رسول الله: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، وهنا يظهر إنصاف محمد وسعة صدره، ويتجلى سر من أسرار عظمته، وهو قصده دائماً إلى الجوهري من الأمر، واستصغاره للأشكال والمرسومات.
عقدت الهدنة، ورجع المسلمون وهم كارهون، ووسوس الشيطان في نفوس بعض الناس لما قبل الرسول شرط تسليم من لجأ إليه على ألا يطلب من لجأ إلى عدوه، وأن يرجع عن الحج كما أرادت قريش بعد أن أحرم له، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشغله شيء إلا الوصول إلى حرية الدعوة في ظلال السلم، ويعلم أن ذلك هو الفوز.
وبينما هم في الطريق نزلت سورة الفتح، فسمى القرآن هذا الصلح الذي فزع له بعض المسلمين أو الأمر فتحاً مبيناً " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطاً مستقيماً".
وقد تحقق بعد صدق نظر الرسول، ووعد الله، فدخل الناس في دينه أفواجاً، ولم يمض سنتان على صلح الحديبية حتى دخل في دين الله أضعاف من دخلوا في السنوات العشرين السابقة فكانت هذه الهدنة التي أرادها الرسول على رغم أنف أصحابه، ورغم أنف قريش وعنادها وعنتها، بركة على الإسلام، لم ير قبلها فتحاً أعظم منها. وقد انقلب حتى ذلك الشرط البغيض من تسليم اللاجئ المؤمن إلى الكفار يؤذونه ويفتنونه إلى الخير؛ فكانت قريش بعد سنة من الصلح تحاول التخلص منه وأن يقبل محمد صلى الله عليه وسلم الغاءه، وذلك أن بعض المستضعفين من المسلمين كانوا يلجأون إلى النبي فيسلمهم، وفاء بعهده، فلما سلم أبا بصير فر إلى جهة في ساحل البحر، وصار يفر إليه أمثاله ممن لا يستطيعون الالتجاء إلى المدينة، حتى تكاثروا، وقطعوا الطريق على تجارة مكة، وعاد إليها البلاء وضجت، واستجارت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وسألته بصلة الرحم أن يؤوي أبا بصير وأخوانه، وأن يعفيها من ذلك الشرط، ويدخل من يلجأ إليه في عهده، فقبل، وكانت هذه آية من آيات السياسة المحمدية، وفضلاً من الله على أخلص عباده.
قبل النبي رجاء أعدائه، فأمن لهم تجارتهم، وأثبت أنه لا يريد بالحرب إلا تقرير حرية الدعوة وحرية العقيدة وأنه لا يريد نهب تجارة مكة، ولا الانتقام منها كما يظن بعض كتاب الملل الأخرى.
فهو الذي كبح جماح جيشه ليقبل شرطاً بغيضاً في سبيل السلم عشر سنين، في الوقت الذي تمت سيطرته على طرق المواصلات التجارية لمكة في الشمال، بل كان في مكنته أن يتعرض لطريق الجنوب بين مكة والطائف. واستدعاء أبي بصير وصحبه، وهو غير مسئول عنهم، ممتعاً بالسلم الذي أراد، يبين فساد ما ذهب إليه هؤلاء الكتاب.
ولما اطمأن إلى صلح يكفل له الأمن من ناحية قريش، اتجه إلى مكاتبة الملوك والعظماء في أنحاء العالم، يدعوهم إلى دينه، ووجه حركاته العسكرية إلى الروم، الذين أخذوا يقاتلون دعاة الإسلام، ويضطهدون الدعوة المحمدية، فكان صلى الله عليه وسلم بارعاً، بعيد النظر في اغتنام أول فرصة لنقل ميدان الكفاح العسكري بسرعة من قلب الجزيرة إلى أطرافها فاستشعر العرب سمو مطلبه، وبعد غايته، وبذلك جمعهم تحت لواء التوحيد، فكانوا عدة صالحة لدعوته العالية.
سارع إلى العمل، وقد أدرك بثاقب بصره أن الدولة الرومانية لن تصبر على ظهور دولة للعرب بالمدينة، وأنها سائرة إليه في النهاية، وأنه ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فنقل الميدان بسرعة مدهشة، تدل على فطنة في السياسة، ودراية في الحرب منقطعة النظير.
ومنذ أن غزا الروم في مؤتة، وسهام العرب، وآمالها تتجه إلى غاية أسمى من الثأر والانتقام والنهب، وحالتهم المعنوية تسمو من درك التناحر الأهلي إلى مقام الكفاح العالمي، لغرض أعلى من متاع الدنيا.
وهكذا تدرج محمد صلى الله عليه وسلم من الشعيرة، إلى الوطن، إلى الدولة العالمية، فاتخذ لهذه الدولة العالمية العرب، ونفخ فيهم من روحه، وبعثهم بالرسالة للأكاسرة والقياصرة، فحملوها عليها، وقامت دولة الإسلام، لا تعرف عصبية ولا عنصرية، ولا لوناً خاصاً، ولا شيئاً غير التقوى يمتاز الناس بها. ومنذ أن انصرف إلى الشمال بعد صلح الحديبية أدرك كل رجل ذي بصيرة من خصومه سواء أكان في قلب الجزيرة أم في أطرافها، أن واجبه أن ينضوي تحت اللواء الذي رفعه محمد صلى الله عليه وسلم للأمة المشتتة المتناحرة المحتقرة في نظر جيرانها من الروم والفرس، فسارع إلى هذا اللواء خالد بن الوليد، وعمرو ابن العاص بطلا قريش، وبطلا الإسلام فيما بعد، وسيدا مخزوم وسهم، أشد بطون قريش عداوة لمحمد ودعوته، فكان هذا فاتح العراق وبطل المشرق، وذلك فاتح مصر وبطل المغرب.
نقضت قريش لقصر نظرها، عهد الحديبية لما ظنت أنه تورط في قتال الروم، فنصرت بكراً على خزاعة حلفاء النبي، فسارع كما هي عادته بصدق عزيمة، وحسن فراسة، إلى قبول نكثها للعهد، ورفض تجديد العقد وعبأ قواه، وكتم سره وتحرك في عشرة آلاف إلى مكة، فدخلها بغير حرب.
وأقول بغير حرب لأن المقاومة الضعيفة التي أبداها عكرمة، وصفوان وسهيل في الجهة التي دخل منها خالد، لا تدل على شيء غير استسلام مكة، وعجز قريش التام.
وبفتح مكة توجت سياسة الرسول الحسنة، وحكمته في تصريف الأمور بأعظم جزاء من الله، واستقرت الدولة المحمدية في جزيرة العرب على أقوى الدعائم، وأمتن الأسس، ورجع البيت كما كان على عهد إبراهيم مقراً للتوحيد، منزهاً عن الشرك، قبلة للعاكفين والقائمين والركع السجود لله وحده.
تكلما في الفصول السابقة عن حسن سياسته صلى الله عليه وسلم وحكمته في تصريف الأمور، فتناولنا بعض دعائم هذه السياسة، وخططها الرئيسية، لنتبين عظم هذه الناحية في ذات بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم.
والآن نريد أن نسوق بعض الأمثلة من تصرفاته في بعض المواقف والحوادث الطارئة، لتتجلى صورة الكياسة، وسلامة الذوق، وحسن التقدير، ونكون بذلك قد أثبتنا على قدر جهدنا شيئاً من صفاته وأخلاقه، يقرب إلى الأذهان مثله الكامل.
وهاكم موقفه مع عبد الله بن أبي بن سلوك زعيم المنافقين، وسيد الخزرج عقب وقعة بني المصطلق(1).
كان قوم عبد الله حين جاء النبي إلى يثرب مهاجراً، ينظمون له الخرز ليتوجوه، فلما عظم شأن الرسول تداعى سلطان عبد الله، وأضمر الشر، وظهر ما في نفسه يوم بني المصطلق، والرسول في شغل بعدوه، فكاد عبد الله يرسلها فتنة تحرم المسلمين ثمار نصرهم، بل تذهب بريحهم.
ذلك أن أجيراً لعمر بن الخطاب ازدحم على ماء مع رجل من حلفاء الأنصار، فاقتتلا، فصرخ الأجير: يا معشر المهاجرين! وصرخ الآخر: يا معشر الأنصار! فغضب عبد الله بن أبي، وقال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدنا وجلابيب(2) قريش هذه إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم.. والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم، لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن الأرقم، فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد ابن بشر فليقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا، ولكن أذن بالرحيل، فارتحل الناس في ساعة مبكرة، ما كان الرسول يروح فيها، فمشى رسول الله بالناس يومهم ذلك حتى أمسوا، وليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يوم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض، فوقعوا نياماً، وهكذا نهك أبدانهم بالسير، ليصرفهم عن الحديث في الفتنة، فلما بلغ المدينة جاء عبد الله ابن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتلأبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه! فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني! وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر، فأدخل النار. فقال صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا. وجعل بعد ذلك إذا حدث الحدث من عبد الله كان قومه هم الذين يعاتبونه ويعنفونه. فقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: قد والله علمت لأمر رسول الله أعظم بركة من أمري.
في هذه القصة الصغيرة ترون كيف توسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والأناة في أحرج الأوقات، وترون حزمه في كبح جماح الفتنة بالسير ليل نهار، حتى صرف الجيش بالنصب عن أن يلج فيها، وفي هذه القصة صورة موفقة من الرفق في السياسة والحزم فيها.
ثم هاكم مثلاً آخر: كان رسول الله يوزع العطايا بعد حنين فوقف عليه رجل من تميم، فقال: يا محمد، قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله: أجل، فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت.. فغضب النبي، وقال: ويحك! إذا لم يكن العدل عندي، فعند من يكون؟ فقال عمر: يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال: لا، دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين، حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية.
وقد كانت الخوارج المتشددة بعد ذلك في تميم.
ولما أعطي النبي قريشاً وقبائل العرب، ولم يعط الأنصار شيئاً كثرت من الأنصار القالة حتى قال بعضهم: لقي والله الرسول قومه! فجمعهم النبي، ثم قال: يا معشر الأنصار، ما قاله بلغتني، وجدة وجدتموها على في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل. ثم قال: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيب؟ لله ورسوله المن والفضل. قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار من لعاعة(1) من الدنيا، تألفت بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فو الذي نفس محمد بيده! لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. الله ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار! فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً!
هذه العبارة الآخذة بالقلوب، والصاعدة بالنفوس البشرية إلى درجة الملائكة، والقاتلة للفتنة، والمنعشة للأرواح، تفسر لنا كيف كان رسول الله يجمع الناس على غرض واحد بوسائل شتى. لقد أتى بسعة الصدر، وحسن التصرف بما يشبه المستحيل، فجمع أمة لم تكن لتجمع إلا على مثل التربية والتدبير المحمدي.
جاءه وفد من بني الحارث بن كعب، وكان قد بعث فيهم خالد بن الوليد، فقال: لو أن خالداً لم يكتب إلى أنكم أسلمتم ولم تقاتلوا، لألقيت رءوسكم تحت أقدامكم. فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك، وما حمدنا خالداً.. قال فمن حمدتم؟ قالوا: حمدنا الله عز وجل الذي هدانا بك. قال: صدقتم، ثم قال: بم كنم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟ قالوا: لم نكن نغلب أحداً، قال: بلى، قد كنتم تغلبون من قاتلكم، قالوا كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله أنا كنا نجتمع ولا نتفرق، ولا نبدأ أحداً بظلم، قال: صدقتم.
انظروا إلى رده: " فمن حمدتم" ؟ لتتصوروا الأناة وسعة الصدر، وهما من أسس السياسة المحمدية.
وكان من دواعي النجاح في سياسة الرسول زيادة على أخذ الأمور بالرفق، وحسن المعاملة، فراسته التي لا تخيب في الرجال، وتطلعه إلى غائب الأمر بحسن الاستخبار، فقد كان أعرف الناس بالناس، وأعرف العرب بحسنات العرب وسيئاتهم ولهجاتهم وما يحبون وما يكرهون، فهو يستقصى دائماً الأخبار، ويكتم ما يكره ذيوعه منها، ففراسته في سهيل بن عمرو مثلاً وهو أسير، قد تحققت بعد سبع سنين، لما همت مكة بالردة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فعندما فدت قريش أسرى بدر، وكان عمر يعارض في الفداء، فاستأذن رسول الله في أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو ليدلع لسانه، كي لا يقوم على الرسول خطيباً بعدها في موطن أبداً، أبى الرسول، وقال: لا أمثل به، فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، وعسى أن يقوم مقاماً لا تذمه. فلما ارتدت العرب وهم أكثر أهل مكة بالرجوع عن الإسلام وخافهم عتاب بن أسيد عامل النبي على مكة فتوارى، قام سهيل بن عمرو، فحمد الله، وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربناً عنقه، فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، وظهر عتاب، واستقرت الأمور.
ذلك هو المقام الذي أراده رسول الله في رده على عمر بن الخطاب، وتلك هي فراسة الرسول في الرجال، تحققت بعد سبع سنين.
ولما أخذ الخمس من غنائم هوازن وزعه بين أعدائه بالأمس فأعطى أبا سفيان وابنه معاوية، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، والحارث بن هشام، وكثيراً غيرهم، ولم يدع لأحد من المؤلفة قلوبهم حاجة إلا قضاها، وبذل للشعراء مثل ابن مرداس حتى أرضاهم. فلم يكن عنصر الجود والبذل عنصراً مفقوداً في سياسته صلى الله عليه وسلم.
جاء نفر إلى الرسول، فقالوا: إنا بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فوعدهم أن يأتيهم بعد أن يرجع من غزوة تبوك، وكان قد عزم عليها، فلما رجع علم أنهم يتآمرون فيه على الشر والفتنة، فأمر به أن يحرق، فأحرق وفر من فيه. وهو مسجد الضرار الذي يقول فيه القرآن: " والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين".
وكذلك بلغه أن ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله والخروج معه لغزو الروم، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل، وتفرق من في البيت.
في هذين المثلين ترون محمداً الواسع الصدر اللين العريكة المتسامح يحرق مسجداً وبيتاً للفتنة والتآمر، ذلك لأن محمداً رجل دولة حاذق، يداوي كل حالة بما يناسبها من الرفق أو الشدة.
وكان يكره العجب والتظاهر، وليس في كل حياته شيء منه، ولكنه أمر به حين دخل إلى مكة بعد هدنة الحديبية، وقد تحدثت قريش أن محمداً وأصحابه في عسر وضعف، فصفوا له عند دار الندوة، لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله المسجد اضطبع بردائه، وأخرج عضد يده اليمنى، ثم قال: رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة، ثم استلم الركن، وخرج يهرول، ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم، واستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الأسود، ثم هرول لذلك ثلاثة أطواف، ومشى سائرها، وقد صنع ذلك لما بلغه من قولهم عن ضعفه وضعف أصحابه.
ولما حاصر الأحزاب المدينة، ونقض بنو قريظة عهدهم، وانتهى إلى النبي وأصحابه الخبر، بعث سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ومن معهم ليحققوا له الخبر، وقال لهم: إن كان حقاً ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فالحنوا لي لحناً أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كان الوفاء بيننا وبينهم، فاجهروا به للناس. فلما رجعوا سلموا على الرسول، ولمحوا إليه بأن قريظة غدرت بعهده، فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين.
فأنتم ترون في هاتين القصتين حكمة القائد الأعلى في بث الرعب في نفس العدو بالتظاهر بالقوة، والمحافظة على الروح المعنوية عند الأنصار، بالتظاهر بعدم الاكتراث، والتصغير من شأن العدو.
كان صلى الله عليه وسلم حسن الاستخبار، حسن التكتم للأسرار، وكان من بعض ما يلجأ إليه من اخفاء حركاته العسكرية أن يكتب للقائد كتاباً يأمره فيه ألا يفضه إلا بعد أن يصل إلى مكان معين، أو بعد أن يسير زمناً معيناً.
كان ثابت الرأي، صادق العزيمة، ما دخله عجب ولا زهو، ذهب بسياسة اللين إلى منتهى حكمته، ولجأ إلى القتال لما لم يبق إلا القتال دفاعاً عن النفس والعقيدة، فأظهر في الصبر واللين آيات السياسة، وفي الجهاد والقتال غايات البراعة اتسع صدره للرجال والحوادث، فأثر بشخصه وقوله وعمله في جميع من حوله، ومن اتصل به، فكان مدرسة الرجال، أخرجت من فتحوا الأرض، ونظموا الممالك ممن لم يشتغلوا في مكيدة، ولا استعجزوا في شدة.
(1) بنو المصطلق: من خزاعة؛ وقد غزاهم النبي بالمريسيع في شعبان سنة ست.
(2) جلابيب قريش: هو لقب لمن كان أسلم من المهاجرين، لقبهم بذلك المشركون. وأصل الجلابيب الغلاظ، وأحدها جلباب، وكانوا يلتحفون بها، فلقبوهم بذلك ( من شرح أبي ذر على السيرة).
(1) اللعاعة: واحدة اللعاع، وهو النبات الأخضر قليل البقاء ومنه قولهم: ما بقي في الدنيا إلا لعاعة أي بقية يسيرة، ومنه الحديث " أوجدتم ..." اللسان.
هذا الموضوع لا يلم أطرافه إلا مجلدات، ولذلك عزمت على حصره في دائرة يسمح بها هذا الفصل الموجز، فلا أتعرض إلا للآثار الخالدة للدعوة المحمدية، الآثار التي لا يحدها مكان ولا زمان، وأن أتخير منها ما هو واضح، وما هو موضع إعجاب الناس كافة، مهما اختلفت عقائدهم أو مذاهبهم، ولعلي بهذا أوضح صورة أخرى لبطل الأبطال صلى الله عليه وسلم تكمل تلك النواحي البارزة في حياته الخالدة.
1 ـ في المجتـمــع
وأول ما خطر أن أوجه التفكير إليه، هو أثر هذه الدعوة من الناحية الاجتماعية، في شعب لم يكن يصلح لشيء، فأصبح في بضع سنين صالحاً لحمل الرسالة التي وصلت إلى أطراف المشرق، في سنين معدودة، هي أقل من عشرين سنة.
كان الأثر البارز السريع لهذه الدعوة تغيير أمة تغيراً شاملاً حاسماً، بحيث أصبحت شيئاً آخر، تلك الأمة التي نشأت فيها الدعوة: الأمة العربية.
كان العرب قوماً فوضى، في قفر من الأرض، موضع احتقار المتمدينين من الفرس والرومان، وآخر أمة يرجى فيها خير وينتظر لها أمر. كان العرب في جاهليتهم قبائل متنازعة على الحياة، متنافسة في السؤدد، يتنازعون على مواقع الغيث ومنابت العشب، كل قبيلة تعتز بقوتها، وتفتخر بأنسابها ومآثرها، وما فخرها وعزها إلا في أنها أغارت فغلبت ونهبت، وأنها ظلمت وأفسدت، فالظلم والنهب عندها محمدة وهو من أغراض الحياة.
بغاة ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا
وقول زهير:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وانظروا قول القطامي، وهو شاعر إسلامي يصف بقية الجاهلية في القبائل الإسلامية:
فمن تكن الحضارة أعجبته
فأي رجال بادية ترانا
ومن ربط الجحاش فإن فينا
قناً سلباً وأفراساً حسانا
وكن إذا أغرن على جناب
وأعوزهن نهب حيث كانا
أغرن من الضباب على حلول
وضبة إنه من حان حانا
وأحياناً على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
هذا الشعر يصور لنا الحالة العقلية التي كانت عليها القبائل العربية، ويدلنا على عظم الدعوة التي جعلت من قوم يفخرون بنهب أخيهم، قوماً يعتزون بنشر السلام والقانون، والعدل بين الأبيض والأسود في آسيا وأفريقية، هؤلاء الجفاة المتنابذون قد أصبحوا في جيل واحد رسل الحضارة والنظام. كان الرجل منهم لا يعترف إلا بقبيلته، فإذا تنازعت لا يعترف إلا بالبطن الذي ينتسب إليه، وينكر على غير عشيرته حق الحياة. وكان أفراد العشيرة لا يتعاونون، ولا يتكاتفون على خير عام، بل لا يفهمونه، لأنهم ينكرون وجود الأمة العربية إنكارهم للبشرية.
ويرون الحياة قائمة على الخصومة والعداء لكل أحد خارج عن نطاق العشيرة، فكانت العشيرة على هذا الاعتبار عصابة متكافلة على حماية نفسها، وإتيان الشر ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، والاعتزاز بالقدرة عليه، وإنها تأتيه دائماً، فجاءت الدعوة المحمدية تنقض كل ما يتمسك به العربي من هذه المواريث، فحلت هذه العصابة الموجهة للشر باسم العشيرة، وأحلت محلها الأمة، وأقامت الحقوق البشرية، وجعلت التعاون على البر، والتكافل على النظام العام، والاتحاد على الفكر السامي والعقيدة الطاهرة مكان علاقة الدم التي تربط بين الناس في سفك الدم، ونهب ما بأيديهم، فقلبت بذلك نظرة العرب إل نقيضها، وجعلتها نظرة إنسانية إلهية، بعد أن كانت بهيمية وحشية، أحلت سلطان الشريعة فوق كل سلطان، وجعلت هيمنة الدولة للخير العام فوق كل هيمنة، وذهب القصاص الظالم، وقام القصاص العادل، وصارت المسئولية الفردية للعشيرة، مكان المسئولية الاجتماعية لها: " ولا تزر وازرة وزر أخرى" " كل نفس بما كسبت رهينة". " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
وصارت العزة للشرع القاهر، والسلطان القائم عليه، وحرمت دعوى الجاهلية: يا لفلان، وأصبح كل داع فللشرع دعوته، وبالقانون انتصاره، وبالعدل اعتصامه.
برزت المسئولية الشخصية، فما يغني عن أحد دعوى الجاهلية، ولا يغني عن أحد في ميدان العمل نسبه ولا حسبه ولا جاهه ولا ماله " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره". " إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله".
وأصبح الناس بالدعوة المحمدية سواء، لا شريف ولا وضيع، خيرهم أحسنهم عملاً، وسيدهم أنفعهم، وأكرمهم أتقاهم " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" انظروا إلى محمد صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، يعلن هذه المساواة للعرب على أنها للبشر كافة " أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
تلك هي الكلمة الخالدة التي كانت دستور الحكم فيما فتح العرب من الأرض، فجعلت الفتح العربي بعيداً من رفعه قوم على قوم أو جنس، فلم يصبه ما أصاب غيره من الفتوح، وبقيت آثاره خالدة في المشرق والمغرب.
قضت الدعوة المحمدية على التنافس والغلب بالكيفية التي سقتها، وأحلت هذه التنافس والغلب لإقرار الحق، وبسط الخير، ولم يبق في الشرع الذي قبله العرب إلا تنافس في الأعمال الصالحة " فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون".
وهكذا حلت الأمة محل القبيلة، والعدل مقام الغلبة، والمساواة مكان التفاضل والعمل الصالح مكان الفخر بالآباء، وملئت القلوب حباً وسلاماً، بعد أن كانت مملوءة بغضاً ونزاعاً " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... إلى قوله: لعلكم تتقون(1)".
كان قلب العربي موزعاً بين آلهة شتى، قد التبست عليه صفاتها وأفعالها، يفزع إليها حيناً، وينفر منها حيناً، ويلتمس منها الخير، فإن لم يظفر به هجرها وسبها، كما يفعل الآن زنوج السودان مع " كجورهم" يسألونه المطر، ويصبرون عليه، فإذا يئسوا من الرحمة قتلوا " الكجور" وهو معبودهم.
لم تكن أمام العربي سبيل واضحة للعمل في هذه الحياة، كما لم تكن له خطة بينة لمعاملة الناس، فلقنته الدعوة المحمدية الإيمان بإله واحد، وهدته إلى الحلال والحرام في كل صغيرة وكبيرة، فصار على بينة من ربه وعلى بينة من نفسه، وعلى بينة من عمله.
وعقيدة المسلم علمته التوحيد في كل شيء، علمته أن الله واحد، وأن أصل البشر واحد، وأن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الأمم جميعاً سواء، وأن الأديان التي جاء بها الرسل واحدة، لا تختلف في حقائقها ومقاصدها " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى..." الخ. ووحدت له الخطة التي يعمل عليها في خاصة نفسه ومعاملة الناس.
وحدت الدعوة المحمدية نفس العربي، ثم وحدت العرب جميعاً، وصاغت منهم أمة واحدة، وحملتهم رسالة التوحيد إلى الناس كافة، ليجعلوهم أمة واحدة.
فهذه الأمة الواحدة المؤلفة من أرقى الموحدين هي التي انبعثت بسبب هذه الدعوة، فلم يقف في سبيلها شيء، لا كثرة العدد، ولا قوة السلاح، ولا العقائد الموروثة، ولا عظمة الملوك، ولا تجبر الرؤساء، بل كانت قدراً من الله بلغ غايته، ومن ذا يرد على الله القدر؟!
هذا التوحيد هو عندي أظهر معجزات الدعوة المحمدية.
وليدرك الناس وجه الإعجاز، يجب أن ينظروا الآن إلى جزيرة العرب نفسها وقد شملها الإسلام قروناً، ثم عادت فيها سيرة الجاهلية بحالة أخف كثيراً، بل أهون مائة مرة مما كانت عليه قبل ظهرو رسالة التوحيد فيها، وليقدر كم يلقى الذي يريد أن يبعث هذه الأمة مرة أخرى من عنت؟ أن كثيراً من المصلحين ليتحطمون على عتبة الإصلاح قبل أن يصلوا إلى شيء مما وصلت إليه الدعوة المحمدية في بضع سنين. إذا تصورتم الحالة الحاضرة، وقستموها على الحالة وقت ظهور الدعوة يمكنكم أن تتصوروا أثر الدعوة المحمدية وقوتها وفضلها على هذه الأمة، وعلى الناس كافة.
جاءت الدعوة المحمدية مع رسالة التوحيد هذه برسالة أخرى، وهي رسالة التحرير، وتركت في هذه أثرها الخالد في الأمة العربية وجميع الأمم كما تركت في الأولى؛ فصرخ مؤذن هذه الرسالة: الله أكبر! وتضاءلت بهذه الصرخة كل عظمة، وكل سيطرة أمام عظمة الله وسيطرته، وتحررت النفوس من الأوهام الباطلة، والعقائد الكاذبة، وصارت العبودية خالصة لله، يتساوى الناس فيها، ويتحررون بذلك من سواها.
وهذا الذي انفرد بالسلطان والسيادة وحق العبودية هو الله " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً" هو الله " والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" هو " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات".
بهذه المعاني السامية، والعبارات القوية، بهذه الآيات الكريمة وأمثالها تحررت النفوس من العبودية لغير خالقها البر الرحيم بها، هاديها إلى النور وإلى صراط مستقيم.
وكان الناس قبل الدعوة المحمدية عبيداً للملوك والزعماء، عبيداً للرؤساء الدينيين، عبيداً للأوهام والخرافات، عبيداً لملاك الأرض وملاك الثروة فتحرروا بهذه الدعوة المحمدية، تحرروا في أبدانهم، وأعظم من ذلك أن تحررت نفوسهم بما وهبت لها الدعوة من عقيدة الخلود وعزته، وأن عملها ليس أثراً بائداً بل مسجلاً خالداً خلود قوانين الله في خليقته.
علمت الدعوة المحمدية الناس أن النفع والضر بيد الله وحده، وأن لا واسطة بين الإنسان وربه، وأن ربه أقرب إليه من حبل الوريد(1)، وأنه معه حيثما كان، وأن ليس لأحد سلطان على قلبه، وليس للرسول نفسه إلا التبليغ والتعليم" فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، " فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً".
بهذا أدرك الإنسان مكانته، ونال حريته في عقله وقلبه وفكره وعمله، وبقي للدعوة المحمدية أثرها الخالد في توحيد الناس تحريرهم.
وليس أجمع لدرجات نمو النفس المسلمة من وصف محمد لنفسه، وهو كما رواه علي: "المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة".
***
2 ـ في الفــــرد
ولكي نستعين على تصور هذا الأثر في الفرد لنستحضر أمامنا مثلا عمر بن الخطاب.
كان عمر في جاهليته فتى من فتيان قريش، يغشى مجالس السوء، وبؤر الشر، وكانت مكة في ذلك العصر ممتازة بين حواضر الجزيرة بترفها ومنكرها، تجذب طلاب الطرب واللهو، ولم يكن عمر في هذه المدينة شاذاً، بل كان معلماً بالفتوة والغلظة، معروفاً بالقسوة والشراسة، مستعداً في كل الحالات للتسلط بالأذى على من يخالفه، ولإثارة الفتنة والشغب فيما جل أو صغر؛ لذلك كان من أخطر فتيان مكة على الدعوة المحمدية، وأنشطهم في أذى أتباعها، فلم يسلموا من لسانه الجارح، ويده الباطشة.
ولما رأته ليلى بنت أبي حنتمة وله رقة لم تكن تراها، ذكرت ذلك لرجل من المسلمين، فقال لها: أطمعت في إسلامه؟
أنه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب... هذا الذي لم يكن تلاميذ محمد يطمعون في هدايته أكثر من طمعهم في هداية الحمار، هو الذي جذبته الدعوة، فلما هذبته وصقلته، أخرجت منه عمر أمير المؤمنين، قاهر الفرس والروم، وجعلت منه المثل الكامل، في الرفق والإنصاف، والعدل، وأكبر القضاة والسياسيين والملوك في تاريخ البشر.
فعلت الدعوة المحمدية فعلها في الفرد، ثم شمل سحرها الجماعة، فبدلت الناس غير الناس، والأرض غير الأرض.
خلصت الفرد من سلطان العقائد الباطلة، وأصلحت قلبه وفكره بالعقائد الصحيحة، وهذبت نفسه بالشرائع القويمة، والسنن الصالحة، والقدوة الحسنة التي وجدها في المثل الأعلى، في محمد صلى الله عليه وسلم: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة".
أقرت الدعوة المحمدية في نفوس أصحاب محمد حب العدل وحب الإنصاف، في بيئة لا تعرف الحق إلا للقوة ولا تدين بالإنصاف إلا للسيف، فوطأت النفوس للحق. انظروا إلى عمر بعد أن هذبته الدعوة، تعترضه امرأة وهو أمير المؤمنين يخطب الناس، فيمسك من فوره، ويقول: أصابت امرأة وأخطأ عمر! وانظروا إليه وقد شج رأس أخته في الجاهلية يبكي وهو أمير المؤمنين لرؤية بائس، ويخشى أن يلقي الله وفي الناس بائس.
تلك آثار الدعوة في نفوس جفاة العرب، قد جعلت من رعاة الإبل والشاء وصغار التجار في مكة، والفلاحين في المدينة، رجالاً، كلما احتاج تاريخها إلى واحد منهم وجده مهيأ للإمارة على الناس من كل الأجناس، كأنما نشأ فيها، ودرج لها. رجالاً قوامين بالقسط، كما أراد القرآن: " يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون". "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس".
وليس نجاح الفتح العربي، وانتشار الدعوة إلا أثراً لسحرها في تغيير النفوس وتوجيهها للخير، ولو لا رجال أعدتهم المدرسة المحمدية للمثل العليا، أعدتهم لإرشاد البشر وقيادته وحكمه، لما تجاوز الفتح الإسلامي الجزيرة العربية، ولذهب آثاره بموت الرسول وارتداد الأعراب، ولكن الشباب الذين طبعتهم الدعوة بطابعها استمروا يفيضون على جيلهم ما أودعوا من فيض الرسول ثلاثين سنة بعد وفاته؛ فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الخلفاء الراشدون؛ لم يكونوا إلا شباب الرسالة وقت أن أسرها ثم جهر بها محمد للناس.
وليتبين لنا واضحاً أثر الدعوة المحمدية في نفوس الشباب الذين هاجروا للحبشة، وخالفوا آباءهم وكبراءهم في سبيل عقائدهم، نذكر لكم موقف جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي فهو موقف يدل على امتلاك الدعوة المحمدية لنفوس من اجتذبتهم، كما يبين لنا موضوع الدعوة نفسها، كما فهمها المهاجرون والمهاجرات، بل كما فهمها أنصارها في ذلك العصر.
خرج أولئك السابقون لتلبية الرسول ومعهم من الفتيان والفتيات من ينتسبون لمختلف البطون في قريش، ويتصلون بالقرابة لأعاظم رجال مكة، وأشد خصوم الدعوة، وفيهم أبناء وبنات لأمثال المغيرة، وسهيل بن عمرو، وأمية بن خلف، فبعثت مكة في أثرهم رجلين من دهاتها: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة. ومعهم هدايا مما يستطرف النجاشي من متاع مكة، له ولكل بطريق(1) منه بطارقته، وأوصوهما أن يدفعا لكل بطريق بهديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم يسلما النجاشي هديته، ويسألاه تسليم اللاجئين.
فلما وزعا الهدايا لكل بطريق منهم: قالا قد أوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فاشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهم: نعم. ثم سلما للنجاشي هداياه، وقالا له مثل الذي قالا للبطارقة، فأشار البطارقة بتسليمهم، ولكن النجاشي أبى أن يأمر بذلك حتى يسمع قول المهاجرين، فدعاهم وسألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحد من هذه الملل؟ فقال جعفر، وكان اللاجئون قد اختاروه، واتفقوا على أن يقول ما علموا، وما أمر به النبي، كائناً في ذلك ما هو كائن. فقال: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسئ الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا، وضيقوا علينا الخناق، فخرجنا إلى بلادك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال جعفر: نعم، قال النجاشي: فاقرأه فقرأ صدراً من "كهيعص"، فبكى النجاشي، ثم قال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
هذه هي الدعوة كما فهمها شباب ذلك العصر، بل كما فهمها أشد الناس تعلقاً بها، وهذا هو أثرها منطبعاً في نفوس ذلك الشاب القرشي، يحدث عنها ملكاً من الملوك بثقة وقوة.
إنكم لتلمسون في كلمات جعفر الموجزة صورة كاملة للدعوة المحمدية، والمجتمع الذي نشأ عنها، فقد بدلت الدعوة وجهة نظر الفرد للحياة تبديلاً تاماً، كما قلبت أوضاع الاجتماع العربي إلى عكس ما اصطلح الناس عليه، وابتدعت كما يقول رسل قريش جديداً لم تعرفه العرب، ولا غير العرب.
ذلك الجديد هو الرسالة المحمدية، وأثرها هو الانقلاب الذي شمل العرب وجيرانهم ولا زلنا ولا يزال الناس في آثاره حتى آخر الدهر.
ظفرت الدعوة وطأطأت كما يقول " هيل" أمة لإرادة رجل واحد، لأنه نفخ فيها من روحه إيماناً قوياً سامياً وأحل في قلبها الفضيلة خالصة نقية، ووجهها على جادة العظمة والفتح العالمي. ولقد كان الاتحاد والتعاون منكراً لا يعرفه العرب إلا في حدود العشيرة، وكان الكبر والفخر والجاه والمال أسمى ما يتطلع الناس إليه، فلما نجحت الدعوة المحمدية قامت وحدة العرب على تضامن الأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء، فأصبحت المواساة حقاً مفروضاً على الأغنياء، عليه يقوم تكافل المجتمع وعليه تقوم الدولة التي ولدتها الدعوة الجديدة.
تبدلت نظرة الفرد للحياة تبدلاً تاماً، وانقلب النظام الاجتماعي بما سن الإسلام من الأصول، وما وضع من الشرائع.
وقد عبر العلامة " هيل" في كتابه " حضارة العرب" عن أثر الدعوة المحمدية بهذه الكلمة القوية.
" إن جميع الدعوات الدينية قد تركت أثراً في تاريخ البشر، وكل رجال الدعوة والأنبياء قد أثروا تأثيراً عميقاً في حضارة عصرهم وأقوامهم، ولكنا لا نعرف في تاريخ البشر أن ديناً انتشر بهذه السرعة، وغير العالم بأثره المباشر، كما فعل الإسلام؛ ولا نعرف في التاريخ دعوة كان صاحبها سيداً مالكاً لزمانه ولقومه كما كان محمد.
لقد أخرج أمة إلى الوجود، ومكن لعبادة الله في الأرض، وفتحها لرسالة الطهر والفضيلة، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية بين المؤمنين، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى".
تلك بعض آثار الدعوة المحمدية في الفرد وفي الجماعة ألممنا بها إجمالاً في هذا الفصل من هذا الكتاب، وقد فصلنا هذا الإجمال في ( الرسالة الخالدة).
(1) حبل الوريد: عرق: في العنق. أي نحن أعلم بحاله ممن كان أقرب إليه من حبل الوريد تجوز بقرب الذات لقرب العلم، لأنه موجبه، وحبل الوريد مثل في القرب. ( انظر تفسير البيضاوي).