كتـــــــــاب بطـل الأبطـــــال / بقلم عبدالرحمن عزام سنة 1373هجري-1954ميلادي
هذا الكتـاب يحتوي على ستة عشر موضوعا (16) يتحدث عن سيد بني آدم حبيبنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلآن اليكم الموضوع الأول وباقي المواضيع تتبع إن شاء الله 0
بحثه عن الحق وثباته عليه ( 1 )
أن ذكرى الأبطال، والتحدث عنهم، لمن أحب الذكريات، وأطيب الأحاديث؛ ذلك لأنهم أعلام الهدى في تاريخ البشرية وأنهم المنارات في آفاق الظلمات.
ومن هؤلاء الأبطال من امتازوا باتساع دائرة تأثيرهم وسلطانهم، فلم تقم في وجوههم عقبات العصبية، ولا عقبات الزمن.
أولئك هم المبرزون في تاريخ الإنسانية، وأولئك هم الذين كان لإصلاحهم الخلود والأثر الباقي. وأعظم هؤلاء هو محمد صلى الله عليه وسلم، بإجماع المفكرين.
يقول فيه ـ كرلايل ـ كان مولده مبعثاً للنور من الظلمات. ويقول السير موير: لم يكن الإصلاح أعسر، ولا أبعد منالاً منه وقت ظهور محمد، ولا نعلم نجاحاً وإصلاحاً تم، كالذي تركه عند وفاته. ويقول ليونارد: إن كان رجل على هذه الأرض قد عرف الله، وأن كان رجل على هذه الأرض قد أخلص له، وفنى في خدمته بقصد شريف، ودافع عظيم، فإن هذا الرجل بلا ريب هو محمد نبي العرب. وفي دائرة المعارف البريطانية: لقد صادف محمد النجاح، الذي لم ينل مثله نبي ولا مصلح ديني في زمن الأزمنة ويقول بوزورث اسمث: أن محمداً بلا نزاع أعظم المصلحين على الإطلاق.
فمحمد الذي هو في نظر المسلمين خاتم الأنبياء والرسل ومعلم الأبطال، هو في نظر المفكرين من أهل الملل الأخرى، أكبر المصلحين على الإطلاق، فلا يحق لنا أن نتحدث عن البطولة دون أن نشرف حديثنا به أولا.
في سنة 1928 ميلادية وقفت لأول مرة على قبر محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم مأخوذاً مأسوراً لهذه البطولة، فكنت أجد أمام الضريح طيب المقام، كما أجد في تلك الحضرة التي توحي أعظم ذكرى، ريح الخلود.
هنا روح لا يزال يشرق من غيابه الماضي! هنا الرجل! هنا بطل الأبطال! وأي الناس لا يجد في أحد الأبطال مثله الأعلى؟ ذلك ما سأحاول الكشف عنه في أحاديثي.
كانت ناحية الرجولة تهز مشاعري، وستهز مشاعر الناس مدى الدهر، سواء آمنوا أم كفروا. فلو لم يكن محمد هذا الرسول الكريم معداً بالفطرة للرسالة العظيمة التي قام بها، لما كان رسولاً. ولو لم يكن ذلك الروح المشرق أهلاً للاتصال بالقوى الإلهية، اتصالاً فوق العادة، لما أمكن أن تلقي إليه كلمة الله. وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله: " الله أعلم حيث يجعل رسالته(1)".
فمحمد خلق عظيماً قبل أن يوحى إليه، وقبل أن يكون رسولاً.
نفر منذ صباه من عبادة الأوثان، وهي آلهة آبائه، ومصدر عزتهم في جزيرة العرب كلها. وكان منذ صباه الصادق الوفي، المحبوب المبجل في قومه، فسماه قومه الأمين.
وكان فضله ظاهراً منذ شبابه، فدعته امرأة من صواحب الثروة الواسعة في قريش ومن أعلاها نسباً، إلى التزوج بها مع علمها بفقره.
ولما وقف لأول مرة على الصفا يدعو عشيرته إلى دينه قال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا ما جربنا عليك كذباً. قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
كان قبل الرسالة أشد الناس نفوراً من الظلم، وهضم حقوق الضعفاء؛ فما تحمس لعمل في الجاهلية تحمسه لحلف الفضول، وهو أشرف حلف في العرب. وسببه أن رجلاً من زبيد، من أهل اليمن، باع سلعة من العاص بن وائل السهمي، فظلمه في الثمن، فذكر ظلامته في قصيدة مطلعها:
يا آل فِهْرٍ لمظلومٍ بِضَاعُتهُ
ببطْنِ مَكَّةَ نائى الدار والنَّفَر
فلما سمع بنو هاشم ذلك دعوا إلى تعاقد وتعاهد سمي حلف الفضول، فلا يجدون بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم، ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد عليه مظلمته.
وفي هذا الحلف يقول محمد صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعمر، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت". فنصرة الفقير والضعيف، هي أحب الأمور إلى نفسه.
ولد محمد صلى الله عليه وسلم كامل الخلق والمروءة، وعاش ولم يكن للبيئة سلطان على نفسه، بل كان طلب الحق والثبات عليه، أبين صفاته الحميدة.
وسنضرب بعض الأمثال على تلك الصفة البارزة في حياة بطل الإسلام الأعظم، صلى الله عليه وسلم.
انظروا إليه وقد ولد في بيت رياسة متوارثة، عن هاشم عن عبد مناف عن قصي؛ قصي الذي دانت له الرقاب، واستأثر في مكة بالسلطان، وانفرد قومه قريش بالقيام على دين العرب، ورعاية أصنامها، وسدانة كعبتها، والسقاية والرفادة، وما إلى ذلك من المناصب، التي ترفع الذكر في طول البلاد وعرضها.
فهل منع هذا الميراث محمداً من طلب الحق والثبات عليه؟ كلا! لقد سفه أحلام آبائه، ودعا إلى هدم النظام الديني، الذي كان به فخر عشيرته وسلطانها.
وانظروا كذلك إليه في بني عبد مناف، وبين بني هاشم والمطلب، يلقى رعاية لم ينلها أحد من صبية هذا البيت. فهو الوحيد من البنين والحفدة، الذي كان يجلس على فراش جده سيد القوم.
كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه هذا، حتى يخرج إليه، ولا يجلس عليه أحد من بنيه، إجلالاً له، فكان رسول الله يأتي وهو غلام، فيجلس عليه، فيأخذه أعمامه، ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأناً، ثم يجلسه معه عليه، ويمسح ظهره، ويسر بما يراه يصنع.
وتهيأ عمه أبو طالب للرحيل إلى الشام في تجارة، فلما أجمع المسير ضبب(1) به محمد صلى الله عليه وسلم فرق له، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني أبداً. فخرج به معه، يحمله في ذلك السفر الشاق الطويل.
هذا التدليل والبر الذي حباه إياه جده وعمه، كان جديراً أن يصرفه إلى دين آبائه، ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم لم تسكن إلى غير الحق، فلما وجده ثبت عليه في وجه قومه المدللين له، والبررة به.
فأي مثل في طلب الحق أعظم من ذلك الذي ضربه محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولما أوفدت قريش زعماءها إلى أبي طالب تنذره، وتطلب إليه أن يكف ابن أخيه عنها، أو تنازله حتى يهلك أحد الفريقين، عظم الأمر على أبي طالب، وخشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، فبعث إلى محمد: أن قومك قد أنذروني، فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. 0000000يتبع
فأجاب محمد: يا عمي، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته! وبكى وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب: أقبل يا بن أخي، فأقبل، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
فبكاء محمد في طفولته ألزم أبا طالب أن يحمله إلى الشام، وبكاؤه في كهولته جعله يعرض نفسه وأهله للهلاك.
فلو لم يكن الحق الذي دان به محمد قد ملك قلبه، فلا يرى سواه، لكان وفاء عمه له هذا الوفاء، كافياً لصده عما هو فيه، أو كان كافياً على الأقل لقبوله هدنة يفرج بها عن عمه وأهله كربهم. فأي ثبات على العقيدة أعظم من هذا الثبات، وأي امتحان للإيمان أكثر من هذا الامتحان؟.
هذا المقام وأبو طالب مهدد بالهلاك، منذر من قريش، ومن ورائها دهماء العرب، يستعطف رسول الله لينزل عن رأيه، فلا يجد إلا الاباء والبكاء. هذا المقام، والأعاصير تعصف بالرجلين، وأضعفهما يريد هدم دين الآخر.. هذا المقام صورة من أبدع الصور، تبقى أبد الدهر مثلاً لسعة الصدر، وحرية الرأي، والتكافل، والوفاء، والصبر، يقوم فيه رسول الله صورة صادقة لحب الحق، والثبات على العقيدة.
ثم انظروا صورة أخرى، هي مثل في الكرامة والوفاء، وحرية الرأي. انظروا إلى رجل من آل عبد المطلب كان مولعاً بالصيد، يخرج كل يوم للقنص، فإذا ما رجع طاف بالكعبة، ثم مر بأندية قريش يسلم على أهلها، ويتحدث، وكان أعز فتى فيهم، وأبعدهم عن دين محمد، هو حمزة بن عبد المطلب. رجع يوماً من قنصه، وطاف بالأوثان كعادته، فقالت له جارية: أن أبا الحكم بن هشام ( أبا جهل)، وجد محمداً هاهنا جالساً، فسبه ونال منه ما يكره، وانصرف عنه، ولم يكلمه محمد، فغضب حمزة وثار، وقصد إلى أبي جهل في مجمع قريش، وضربه بالقوس، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول!
انظروا هذه الصورة: أعز فتى في قريش يتقرب إلى أصنامها، ويأنس بأنديتها، يخرج على القوم ودينهم، غضباً لكرامة ابن أخيه، وتحدياً للذين تعرضوا لحريته.
هل هناك أعظم من هذا الوفاء والبر بمحمد؟
ثم انظروا إليه صلى الله عليه وسلم يشهد هذا الوفاء، ويرى بني عبد المطلب في فم الأسد، ولا يتزحزح عن مقامه، بل يهزأ بالدنيا، ويقول: " لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر أو أهلك دونه".
أرأيتم كيف يعشق الحق؟ وكيف يكون الثبات عليه؟ تلكم أظهر صفات محمد صلى الله عليه وسلم.
انظروا إليه كذلك في صورة أخرى: يفاوضه عن قومه عتبة بن ربيعة بجانب الكعبة، فيقول له: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب؛ وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم؛ فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل بعضها.
فقال محمد: قل يا أبا الوليد. قال عتبة: إن كنت انما تريد بما جئت به مالاً، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالاً؛ وإن كنت تريد به شرفاً، سودناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً، ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه.
فلما فرغ قال له محمد: استمع مني يا أبا الوليد " بسم الله الرحمن الرحيم: حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون. بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون".
ومضى يتلو عليه، وكان ذلك كل جوابه لما عرضت قريش. فلو لم يكن الحق الذي ملأ نفسه هو مطلبه الأسمى، لوجد في رفق قومه المخاصمين له ما يطفئ من حماسته، ويسكن من ثورته على دينهم وآلهتهم.
ثم انظروا إلى محمد في بيته بين خديجة وبناتها وخدمها قريراً منعماً. فهي من أغنى قريش، وأوسطهم نسباً، نما مالها بين يديه، فخلا من هموم الدنيا، ومطالبها الملحة، وهاكم دليلاً على طيب المعاشرة والمحبة في بيت محمد، قصة زيد بن حارثة.
هذا رجل من العرب استرق، فاشترته خديجة، ووهبته لمحمد عبداً مملوكاً. فأعتقه وعاش في بيته، فاستدل عليه أبوه، وجاء ليفديه، فقال محمد لأبيه: أنه حر فليختر ما يشاء. فآثر زيد محمداً على أبيه.
ومثل آخر يدل على حاله في نظر أعرف الناس به، وهي زوجه. لما جاءه الوحي لأول مرة، ورجع إليها خائفاً وجلا، تلقته بهذه الكلمة: كلا. والله ما يخزيك الله أبداً، أنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ففي قولها وفعلها كل الدليل على ما كان في بيت محمد من الهناءة المنزلية. فما الذي أخرجه أذن من دعة هذا البيت وسكونه، إلى الثورة على دين مكة، يلقى فيها الأذى والاضطهاد؟
لاشك أن الذي أخرجه هو شيء أعز عليه من زوجه وبنيه، وعشيرته التي تؤويه، ذلك هو الإيمان بالحق الذي دعا إليه، والذي لا يبقى غيره، ولا يعيش إلا له.
تلكم نفس محمد؛ خلقها المتجلي في كل صورة من صورها، حب الحق والثبات عليه.
لقد سألت مرة ـ ونحن في قطار في لندن ـ أحد كبار العلماء المستشرفين: هل تظن أن محمداً كان يقول قولاً لا يؤمن به؟ فقال: لا! إن أمراً واحداً لا ريب فيه، وهو أنه كان صادقاً مؤمناً إيماناً كاملاً بما يقول، وبما يدعو إليه.
تلك هي الصفة التي لا ينكرها على محمد عدو ولا صديق.
فالحق في ذاته هو الغاية التي دأب وراءها، وخاصم وابتلى وهاجر وقاتل لها. والناس جميعاً يجب أن يكونوا طلاباً للحق، وقد ضرب لهم محمد المثل الأعلى.
ولا يزال رسول الله في ميدان البطولة، تمر بين يديه أبطال العرب وغير العرب، كما تمر مئات السنين، وهو المثل الأعلى للثبات على الحق، والدعوة إلى أن يكون الناس كافة لله عبيداً، وفيما بينهم أخواناً.
حديثنا هنا يرمي إلى تصوير الشجاعة التي انطوت عليها نفس محمد صلى الله عليه وسلم، تلك الشجاعة المنقطعة النظير. وقد آثرت أن صور حالة المجتمع العربي وقت ظهور الدعوة، ومقدار نفور القوم منها، ليدرك الناس مدى الكفاح الذي كافحه محمد، ومقدار ما يلزم لمثل هذا الكفاح من الشجاعة. كما آثرت سوق أمثلة من مواقفه صلى الله عليه وسلم، تبين بسالته محارباً، وشجاعته النفسية مصلحاً دينياً، وسياسياً، واجتماعياً.
جاء محمد لقومه بدعوة، في قبولها قلب حياتهم رأساً على عقب. لم تكن تلك الدعوة تتناول دينهم وحده، بل شملت حياتهم في جميع مظاهرها: في السياسة، وفي الاجتماع، وفي المال، وفي البيت. ولم يكن طبيعياً ولا مألوفاً أن ينكروا ما وجدوا عليه آباءهم وبلادهم طواعية؛ فكان إذن لابد لهم من رد هذه الدعوة، وقهر صاحبها؛ ليرجع إلى الصف الذي خرج عنه، فيعظم حرماتهم التي يعظمون.
كانت مكة للعرب محط الرحال، ومصدر الهدى، إليها يحج الناس خاشعين، وفيها قريش سدنة الكعبة، وحماة البيت، أتاحت لها تلك المكانة الممتازة أن ترحل في الصيف إلى الشام والعراق، وفي الشتاء إلى اليمن، آمنة على نفسها وأموالها وتجارتها، فأثرت واعتزت، وأمتن الله عليها بقوله: " لإيلاف قريش إيلافهم. رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف" فقريش الآمنة، العزيزة الجانب المثرية، لاشك تعادي من يريد لدينها تبديلاً، ولنظامها تغييراً؛ ومحمد يدعو أولاً إلى التوحيد، وينذر ثانياً بالبعث، فلا هي راضية بإله غير آلهتها، ولا هي واجدة في البعث والحساب الذي ينذرها به ما تعقله أو ترضاه.
وعبادة الأوثان، وإن بانت لنا الآن بعد مئات السنين من قبول التوحيد غريبة منكرة، لم تكن كذلك في عهد محمد، بل كانت اليهودية والنصرانية محل سخرية العرب ومقتهم، وكانت الوثنية مستقرة في نفوس القوم.
ولا ندري كيف يتقبل العقل البشري هذه الوثنية!! لقد ارتد إليها بنو إسرائيل سراعاً في غيبة موسى، وقالوا: " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة".
وعبد المصريون القدماء آلاف السنين أنواعاً من الأوثان والكواكب والحيوان؛ وعز على قريش أن تفارق ما عبده آباؤها جيلاً بعد جيل مفضلة التقليد الأعمى على سلوك سبيل الرشاد ( انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون).
ولو أن محمداً قصر دعوته على التوحيد، وتسفيه أحلام القوم، لكفى بذلك أعناتاً، ولكنه دعا كما قلت إلى الإيمان بالبعث، فاستغربوا ذلك، واستبعدوه كل الاستبعاد، وقالوا:
" أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون".
سخروا من هذه الفكرة، واستدلوا بها على ضعف رأي صاحب الدعوة. مشى إليه يوماً أبي بن خلف بعظم بال، فقال: يا محمد، أنت تزعم أن الله يبعث هذا! ثم فته بيده، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله. فرد القرآن على ذلك بقوله: " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم".
صدمت الدعوة إلى التوحيد والبعث دين قريش وعقلها فسخرت من الداعي. ثم هبت إلى الإيذاء والعدوان.
لم يكتف محمد بدعواه هذه الغريبة في رأي القوم، بل زاد عليها أن دعا إلى تحريم الخمر، والزنا، والميسر، والربا. وقريش لا تستغني عن هذه الأربعة؛ ففيها متعهم، وفيها تفاخرهم، وفيها غناهم وثروتهم.
فربا قريش كان في القبائل كلها، ومحمد يريد أن يحرم عليها ما تعده من طيبات الحياة، ومصادر الثروة، فأنى لها أن تستطيع على ذلك صبراً؟.
ولكي نتصور تمكن الخمر والزنا والربا من نفوس القوم، أسوق لكم مثلاً، تعلمون منه كيف كانت الرذيلة سلاحاً في يد قريش، تنفر به العرب من دعوة محمد: جاء أعشى قيس إلى مكة يريد الإسلام، ويمدح الرسول بقصيدة يقول فيها:
فلما كان بمكة، أو قريباً منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فقال له: يا أبا بصير(1)، أنه يحرم الزنا، فقال الأعشى: والله أن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال له: يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر، فقال الأعشى: أما هذه فوالله أن في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف، فأتروى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسلم، فانصرف، فمات في عام ذاك.
لم يكتف محمد بالتوحيد والبعث، وتحريم بعض ما طاب لنفوس القوم، بل دعا كذلك إلى أمر غريب مستنكر لديهم، ذلك هو حق المساواة، وهم الذين قضوا أعمارهم في التفاخر بالأحساب والأنساب. فما بال محمد يخرج عليهم بالمساواة بين السادة والعبيد، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط؟ إنها للكبيرة التي لن ترضى قريش أن تقره عليها، قريش التي أنفت أن تسوى بالناس، فحرفت لذلك دينها، وأنفت أن تقف على عرفة، وأن تفيض منه كما يقف الناس ويفيضون، وهي تعلم أن ذلك من مشاعر إبراهيم وفرائض الحج.. قريش التي ألزمت العرب ألا يطوفوا بالبيت في أثواب جاءوا بها من البدو، فطافوا عراة.. قريش التي كانت تختص بأنواع الامتياز التي جعلتها لنفسها كما تشاء، كيف ترضى لمحمد أن يدعو للمساواة المطلقة، وأن يقوم لعشيرته: يا بني هاشم لا يجئني الناس بأعمالهم وتجيئوني بأنسابكم...
بل من الغريب أن محمداً، وهو في بيت الرياسة من قريش، وفي طليعة الممتازين، رفض في الجاهلية ضروب هذا الامتياز، وسوى نفسه ببقية الأمة قبل أن يكون رسولاً يوحي إليه.
لم تستطع قريش صبراً على الدعوة إلى المساواة، فبطشت بالعبيد، وقست على المستضعفين الذين وجدوا في قول محمد إنصافاً.
ولم يكتف بأن عاب أوثانها، وأنذرها ببعث وحساب شديد، وقوض جاهها وسلطانها، وحرمها شهواتها والاتجار بالربا، وسوى بينها وبين العبيد والمستضعفين بل قام يطلب لهؤلاء العبيد والفقراء وأبناء السبيل حقاً في أموال الأغنياء:
" والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"
يؤخذ منهم قسراً، ويضرب عليهم ضريبة، وما كان أبغض إلى نفوس القوم من ضريبة يؤدونها مفروضة! فلما مات الرسول كانت تلك الضريبة أول ما عصوا عليه، وارتدوا من أجله.
ذلك مجمل من القول يصور لكم حالة المجتمع الذي قام فيه محمد داعياً إلى الله، وإلى نظام سياسي واجتماعي بغيض إلى القوم. وقد صور ذلك القرآن في أبدع إيجاز بهذه الآية: " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا".
إذا تصورتم ذلك كله، أدركتم ما ينبغي لمثل هذا الكفاح من الشجاعة والصبر، والشجاعة والصبر هما عماد البشرية، يمسكانها على الأرض كما تمسكها الجبال أن تميد بمن عليها. وقد ضرب الأبطال والشهداء للناس أمثلة في الشجاعة هي النور في تاريخ الحياة، يهدي إلى الحق وإلى صراع مستقيم. وقد امتحنت شجاعة معلم الأبطال صلى الله عليه وسلم طول حياته، فما تطرق إليها وهن. هذه الشجاعة لازمته منذ الصبا، فهو فيها المجلي في الجاهلية والإسلام.
استخلف مرة وهو صبي باللات والعزى، فقال: لا تسألني بهما شيئاً، فوالله ما بغضت شيئاً بغضي لهما.
هذا الصبي يتحدث بهذه الجرأة عن آلهة القوم، لا يخشى بطشاً، وهو المشهور بالحياء، حتى قيل فيه: أنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها.
خرج إلى اليمن في قافلة مع عميه، وكان في السابعة عشرة من عمره، فرأوا في واد فحلا من الإبل، قد توحش وجمح؛ فتعرض له محمد وكبح جماحه.
وفي حرب الفجار وهو دون العشرين كان ينبل على أعمامه.
واعترض القافلة واد ملئ ماء، فهابته الجماعة، فتقدم وقال: اتبعوني، اتبعوني.
هذه أمثلة من جرأة الصبا، ولكن الأمثلة التي نريدها، والتي ينحني لها أبطال العالم اكباراً وإجلالاً، هي تلك التي ضربها بعد الرسالة، وبعد أن جهر بالدعوة وقال الله له: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين".
قال على: كنا إذا حمى البأس، واحمرت الحدق؛ اتقينا برسول الله؛ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه.
وهاكم حادثتين، هما عندي المثل الأعلى في شجاعة المحارب:
فزع أهل المدينة ليلة، فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعاً، وقد سبقهم إلى ذلك الصوت، واستبرأ الخبر على فرس عري، والسيف في عنقه، وهو يقول: لن تراعوا.
ويوم حنين وقف على بغلته، والناس يفرون عنه، وهو يقول:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
فما رأى أحد يومئذ كان أثبت منه، ولا أقرب للعدو. ولقد اخترت هاتين الحادثتين من تاريخ طويل؛ لأن الأولى منهما هب فيها رسول الله إلى مكان الخطر، قبل أن يتحرك الناس، وفي الثانية ثبت في مكان الخطر وقد فر الناس. والذين لهم علم بالحرب يعرفون بهذين الموقفين تمتحن الشجاعة، فليس أصعب على النفس من السبق إلى الخطر، ولا من الصبر عليه وقد استولى الخوف، وغلب الرعب.
هذه الشجاعة التي امتاز بها أبطال الأمم، والتي كان لمحمد فيها النصيب الأوفر، ليست عندي الشجاعة التي اختص بها رسول الله، والتي هي أعلى صفات البطولة. ولكن شجاعته حين خرج على قومه مفاجئاً بالدعوة التي كرهوها، وشجاعته وهو يصابر على الأذى والسخرية؛ وشجاعته وقد تعاهدت قريش في صحيفة علقت بالكعبة على مقاطعة عمه أبي طالب، ومن تبعه من بيت هاشم والمطلب، لحمايتهم له، فبقوا في الشدة ثلاث سنين، وهو على هذا، دائب على أن يصلي في البيت ويجهر بالقرآن؛ وشجاعته وقد بعث أنصاره إلى الحبشة فراراً من الأذى والموت، وصبره هو بعدهم وحيداً يتعرض للأذى والموت؛ وشجاعته وقد مات عمه أبو طالب وزوجه خديجة في أيام متتابعات، وكان في عمه وزوجه النصير والوزير، ثم يبقى بعد ذلك قائماً بمكة، تمر الحادثات عليه كأنها الأعاصير تعصف في ذروة الطود الراسخ؛ وثباته في الموقف وحيداً إذ يعرض نفسه على القبائل، ويلقي السخرية وأشنع الرد بالقول والفعل حتى إذا ما انصرف كل أنصاره مهاجرين ليثرب، جاء البيت يوماً بعد يوم يقيم صلاته ونسكه جهراً، ويتلو القرآن جهراً.
تلك صور لو رسمت وعرضت، لكانت أبهج ما تنشرح له صدور الأبطال في كل جيل وأمة، ولجعلت إمامته في الشجاعة النفسية مرضية للأجناس والأديان: سوداً وبيضاً، موحدين ومشركين.
تلك الشجاعة النفسية أو الأدبية التي لا تهن للسخرية، ولا تذل للوعيد، ولا تطيش للوعد، والتي أمسكت الخلق المحمدي، فكانت سنده الذي لا يتزلزل، هي شجاعة مقطوعة النظير في تاريخ البشر.
انظروا إليه وقد سلطوا عليه سلاح السخرية، وهي أفتك ما يكون بالعزيمة، وأقتل ما يكون لحماس الرجال، هي أفتك من الأذى والاضطهاد.
وقف مرة على الصفا ينادي قريشاً، فلما جاءوا يستمعون أنذرهم حساب الله فتركوه وانصرفوا، ولم يزد أبو لهب على أن قال: تباً لك! ألهذا دعوتنا...؟
كانوا يتواصون فيما بينهم:
" لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون".
فهم كانوا يعلمون أن سلاح الهزء والسخرية أنكى على الدعوة من الاضطهاد والأذى؛ فلم يغفلوا عن هذه السخرية، فلما أشار القرآن إلى شجرة الزقوم تخويفاً لهم، ازدادوا بها طغياناً، وقال بعضهم مستهزئاً: يا معشر قريش، أتدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ إنها عجوة يثرب بالزبد، والله لئن استمسكنا بها لنتزقمنها تزقماً..
ولما أشار القرآن إلى جهنم، وأن عليها تسعة عشر من الزبانية. قال أبو جهل وهو يهزأ برسول الله: يا معشر قريش، يزعم محمد أن جنود الله الذين يعذبونكم في النار، ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم أكثر عدداً، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم؟
فنزل القرآن: " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا".
كان الرسول إذا جلس مجلساً يعظ الناس خلفه في مجلسه " النضر بن الحارث" وكان قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث الفرس، وأحاديث رستم واستفنديار، فيقول: يا معشر قريش. أنا والله أحسن من محمد حديثاً، فهلموا إلىّ، فأنا أحدثكم، وأنزل مثل ما أنزل الله، ثم يحدثهم عن رستم واسفنديار وملوك الفرس.
انظروا أيضاً إلى هذه السخرية بمحمد واتباعه:
ذهب خباب بن الأرت أحد المستضعفين من أصحاب رسول الله، وكان صانعاً للسيوف، ذهب يتقاضى من العاص بن وائل، أحد عظماء مكة، أجر ما صنع، فقال له: يا خباب أليس يزعم محمد صاحبكم أن في الجنة ما ابتغي أهلها؟ قال خباب: بلى، قال: فانظرني إلى يوم القيامة يا خباب، حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنالك حقك، فوالله لا تكونن أنت وأصحابك يا خباب آثرعند الله مني ولا أعظم حظاً.
وكان الوليد بن المغيرة قد انفرد بالرياسة في مكة، وأبو عروة بن مسعود الثقفي قد انفرد بالرياسة في الطائف، فكانوا يقولون تهكماً:
" لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"
تصغيراً من شأن محمد، وزراية به.
لم تزدهم هذه السخرية على اضرارها بالدعوة إلا غفلة، ولا زادته إلا صبراً واستبسالاً، فمرت السنون على هذا التهكم والأذى، والشجاعة النفسية تسنده وتعلو به، وتقر هيبته، وتلقى الرعب في نفوس أعدائه.
فلما تحطمت أسلحة السخرية والأذى على جنبات النفس الأبية، وتآمر المشركون على قتله، خرج مستخفياً مهاجراً، فكان وهو في الغار يقول لصاحبه:
" لا تحزن إن الله معنا".
وابتدأ بذلك دور الصراع، الذي لمع فيه السلاح، كما لمعت النفس التي صقلتها الشجاعة، فعرف رسول الله كيف يصبر ويرضى، وكيف يثور ويغضب، وبقي خالداً تنطوي صفحات الأبطال؛ وصفحته منشورة تقرأ فيها آيات الشجاعة والصبر، ويظل بها رسول الله المثل الأعلى.
نتحدث هنا في وفاء بطل الأبطال محمد صلى الله عليه وسلم، وفائه لأعدائه، ووفائه لأصدقائه.
والوفاء هو القوام لمكارم الأخلاق، به تستقيم الحياة، وهو ميزان المروءة، ومقياس الفضل في الأفراد والأمم، ولو دان به الناس لوجدوا السعادة كاملة.
يحدث الوفاء في نفس الوفى من الغبطة مالا حد له، وفي نفس الموفى له الرغبة في البر والمروءة، واصطناع المعروف عند الناس. والأمم الوفية تبتغى صداقتها، ويرغب في معاهدتها، ويوفى لها بذمتها.
انظروا إلى العالم المضطرب الذي نعيش فيه، أليس عدم الوفاء قوام هذا الاضطراب؟ إذا كان الحليف لا يأمن عهد حليفه، فأنى لأحدهما أن يستقر إلى ضمان من هذا العهد، يقيه مظنة السوء، ويكفيه شر الخوف، ويوفر عليه نفقات الاستعداد ليوم الغدر.
لو أن العهود والمواثيق كان لها من الحرمة ما أراد بطل الأبطال صلى الله عليه وسلم، لما هبط العالم إلى حياة الدس والكيد، والذمم المخفورة، والجوار المنتهك. ولو سار المسلمون على النهج الذي نهجه، واقتدى بهم غيرهم، لو ضعت العلاقات الدولية على أثبت القواعد التي تكفل السلم، وتضمن الانصاف، وتستبقى الكرامة للناس جميعاً. انظروا إلى هذه الأمثال نسوقها، لتروا صوراً من الوفاء، هي أروع ما ينظر إليه الناس.
قبل سنة من هدنة الحديبية، كانت قريش تحاصر المدينة، وقد جمعت لذلك الأحزاب من أهل القرى والأعراب، فنقض بنو قريظة عهدهم مع رسول الله، واشتد بذلك الكرب، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً، ولكن الله نصر عبده، وأعز جنده، وألقى الرعب في قلوب المشركين، ولم تمض إلا فترة وجيزة حتى كان جيش الإسلام بقيادة رسول الله يزحف إلى مكة، فنزل الحديبية، وبعثت قريش رسلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وها هو ذا عروة بن مسعود الثقفي رسولها يعود إليها، يصف حال محمد وجنده بهذه العبارة: أني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وأني والله ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه.
كان محمد في منعة وقوة، ولكنه كان يعلن أنه لا يريد الحرب، ويقول: لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها. فلما جاءه سهيل بن عمرو مفوضاً من قريش لعقد هدنة، يرجع بها محمد وجيشه عن دخول مكة، كان من شروط هذه الهدنة شرط ظاهر الغبن، وهو أن محمداً يسلم إلى قريش من لجأ إليه من المسلمين بغير إذن وليه، ولا يطلب تسليم من لجأ إلى قريش من أتباعه.
ذلك الشرط هاج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أن عمر رضي الله عنه كان يذهب تارة إلى أبي بكر، وأخرى إلى الرسول، ويقول: ألسنا المسلمين! أليسوا المشركين! ألست رسول الله! فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فيقول محمد: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضعني؛ ويقول أبو بكر: أشهد أنه رسول الله. فقبول المسلمين هذا الشرط هو استسلام منهم لأمر لم يدركوا سره، وكان ذلك أعظم بلاء وامتحان لصبرهم. وبينما هم على هذه المضاضة، وقد فرغ الرسول من الجدل مع مفوض قريش " سهيل بن عمرو"، ولم يكتب العقد، ولم يمض، جاءهم أبو جندل مستصرخاً يرسف في قيوده.
وأبو جندل هذا هو ابن سهيل بن عمرو نفسه، وقد انفلت إلى المسلمين من أيدي المشركين، فلما رأى سهيل ابنه قام إليه، وأخذ بتلابيبه، وقال: يا محمد، قد لجت القضية بيني وبينك ( أي فرغنا من المناقشة) قبل أن يأتيك هذا. قال محمد: صدقت. وأبو جندل ينادي: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟
تصوروا ذلكم المقام، مقام محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الشجاع الذي حدثتكم عن شجاعته المقطوعة النظير، وهو القوي الذي خرج من المدينة زاحفاً بجيش سمعتم الآن وصف عروة بن مسعود له، تصوروه وهو يرى أقرب أصحابه يكاد يجنح إلى العصيان، ثم تصوروا لاجئاً يرسف في القيود، وهو من أبناء الأعزة في قريش، يرسف فيها ثم انظروا إليه صلى الله عليه وسلم لا يحتال ولا يتردد، ولما يكتب، ولما يمض، يقول لسهيل: صدقت، لقد لجت القضية، ويرد صاحبه باكياً إلى أعدائه! تصوروا كل ذلك، ثم ليكتب إليّ من شاء بمثل واحد في تاريخ البشر كله كهذا المثل، يضربه محمد في رعاية الكلمة التي قالها، ولما تكتب، ولما تمض.
ذلك هو أعلى الأمثال في الوفاء بعهد العدو.
بل أرسل الله محمداً بشريعة في الوفاء، تجعل حق الميثاق فوق حق الدين نفسه، فقد جعل الدية للمشرك من قوم بينهم وبين المسلمين عهد، ولم يجعل دية للمسلم من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد.
وكذلك حرم نصرة المسلم للمسلم على من بيدهم ميثاق المسلمين من أهل الملل الأخرى، فقد جاء القرآن: " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق".
ذلك هو التقديس للعقود والمواثيق، الذي يبقى أبد الدهر فيه الهدى للناس جميعاً.
هذا وفاؤه لأعدائه إذا عاهدهم. والآن انظروا معي إلى وفائه لعدو قد قتل في حربه:
كان مطعم بن عدي من أشرف قريش، وكان رسول الله حين رجع من الطائف، ولقي من ثقيف منكر القول والفعل، طلب جوار بعض رؤساء مكة، ليدخلها آمناً على حياته، فأبوا، وقبل مطعم يدخلها في حمايته، فلما كانت وقعة "بدر" بعد ذلك، ودارت الدائرة على قريش، وقتل نفر من صناديدها، كان بين القتلى مطعم بن عدي، فقال فيه حسان بن ثابت، شاعر رسول الله:
أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي
بدمع، وإن أنزفته فاسكبي الدما
وبكى عظيم المشعرين كليهما
على الناس معروف له ما تكتما
فلو كان مجد يخلد الدهر واحداً
من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا
عبيدك ما لبى مهل وأحرما
فلو سئلت عنه معد بأسرها
وقحطان أو باقي بقية جرهما
لقالوا هو الموفي بجيرة جاره
وذمته يوماً إذا ما تذمما
قما تطلع الشمس المنيرة فوقهم
على مثله فيهم أعز وأعظما
ذلكم رثاء حسان لرجل من المشركين، مات يحارب محمداً وصحبه، يستمع إليه صاحب الدعوة، ويسره أن يرى المسلمين برددونه.
أرأيتم وفاء كهذا وسعة صدر؟ أرأيتم بطل الأبطال يسمو إلى أعلى ما تصل إليه الرجولة والإنسانية الكاملة، فيبكي المروءة في عدو هو أحد صرعاه في القتال؟ ذلكم هو الوفاء الذي علا فوق كل شيء.
ثم انظروا إلى وفائه للمشركين أيضاً: كان بين شروط هدنه الحديبية أن من شاء دخل في عقد محمد وعهده، ومن شاء دخل في عقد قريش وعهدها، فدخلت خزاعة على شركها في عهد محمد. فلما نقضت قريش عهدها معه، ونصرت حليفتها بكراً عليها؛ ذهب عمرو بن سالم الخزاعي يطالب بالعهد، ويطلب نصر حلفائه، فوقف على رسول الله، وهو في المسجد ينشده ويقول:
يا رب إني ناشد محمداً
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا
وادع عباد الله ياتوا مددا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
* ونقضوا ميثاقك المؤكدا *
فكان ذلك الاعتداء على المشركين من حلفاء المسلمين، سبباً في الاتجاه إلى فتح مكة، فأسرع رسول الله بالتجهز والزحف عليها.
هذه أمثلة سقناها من وفاء بطل الإسلام صلى الله عليه وسلم لأعداء الملة، وقد عاهدهم، أو ذكر لهم صنيعاً، أو قبل محالفتهم على غيرهم.
ووفاؤه لأصدقائه هو الذي نستنفد فيه القراطيس ولا ننتهي، فحياته منذ الصبا هي البر والوفاء.
يقول عبد الله بن أبي الحماء: بايعت(1) محمداً، ووعدته أن آتيه في مكانه، فنسيت، فذكرته بعد ثلاثة أيام، فإذا هو في مكانه، فلما رآني لم يزد على أن قال: لقد شققت عليّ، أنا هنا منذ ثلاثة أيام أنتظرك، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يبعث محمد.
وروت عائشة: أن عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: من أنت؟ فقالت: جثامة المزنية، فقال: أنت حسانة؟ كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير، بأبي أنت وأمي. فلما خرجت قلت: يا رسول تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال! قال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
وبعد وقعة حنين، وفيها كادت هوازن تقضي على الإسلام لو لا ثباته صلى الله عليه وسلم، جاءه وفد منها، وهي الباغية المستكبرة، تطلب العفو عن أسراها، فماذا وجدت لتحرك به رحمته، وتستثير شفقته؟ لا شيء، فليس أشد سواداً من ماضيها معه، ولكنها وجدت في وفائه ملجأها ومنتهاها، فقال رجل منهم: يا محمد، إن في الحظائر مرضعاتك وحواضنك، ولو أنا ملحنا(2) للنعمان بن المنذر، أو الحارث بن أبي شمر الغساني، ثم نزل منا مثل الذي نزلت، رجونا عطفه وعائدته علينا. فقال عليه السلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله. وبذلك رد على هوازن آلاف الأسرى. تلك هي النفس الوفية، التي تكرم أمة ظالمة مغلوبة وفاء للبن الذي رضعته فيها، فهل للناس وقد عفا فيهم أثر المعروف أن يتذكروا؟
ثم إليكم هذه الحادثة، فقلبوا تاريخ القادة في العالم أحياء وأمواتاً، ثم اذكروا محمداً وصلوا عليه:
كان يتجهز في المدينة لفتح مكة، وكان يخفي أمره، حتى عن أبي بكر وعائشة، فلما أعلن العزم، سارع حاطب بن أبي بلتعة إلى امرأة استأجرها، وكتب لها كتاباً إلى قريش، وضعته في شعرها، وفتلت عليه قرونها، فعلم رسول الله، وأخذت المرأة في الطريق، فلما سأل حاطباً ما حمله على فعله؟ قال: يا رسول الله، أما والله أني لمؤمن، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق! فقال رسول الله، وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم! فانزل الله في حاطب: " يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة".
تأملوا في هذا، أن وفاء محمد لأصحابه الذين نصره الله بهم في بدر، جعله يرجو أن يكون الله قد غفر لحاطب حتى هذه الفعلة.
ثم كان رسول الله في مرض الموت، فلما اشتد به خرج إلى أصحابه، فصعد على المنبر، وقال: يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون، وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد، وأنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى مسحنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم.
ثم انظروا أخيراً إلى مقام الوفاء من نفسه، وهو يقول يوم أحد حين أمر بدفن القتلى: انظروا إلى عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو بن حرام، فإنهما كانا متصافيين في الدنيا، فاجعلوهما في قبر واحد.
ذلك هو الوفاء الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ولن يستقيم أمر العالم حتى يتذوقه الناس، وحتى يؤمنوا به إيمان محمد وأصحابه.