كان الوضع في مصر عندما بدأ التتار في اجتياح الشام والاقتراب من الديار المصرية متأزماً جداً.. فالوضع السياسي الداخلي كان يموج بالاضطرابات العاصفة، والأزمات الشديدة.. وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على كرسي الحكم –وخاصة في السنوات العشر الأخيرة- عنيفة ومتكررة.. نعم استقرت الأوضاع نسبياً عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك، وذلك لفترة سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتل الملك المعز ثم شجرة الدر، ثم ولاية الطفل نور الدين علي، ثم خلعه بواسطة سيف الدين قطز -رحمه الله.. وإن كان قطز الآن قد استقر على كرسي الحكم لكن لا شك أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك أيضاً أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصياً، ومن المؤكد أن هؤلاء وهؤلاء سوف يتحركون ـ أو يحاولون التحرك ـ لإقصاء قطز عن العرش، أو قتله إذا لزم الأمر... كما اعتاد كثير من المماليك أن يفعلوا..
الوضع العسكري
ولا ننسى أن الفتنة ما زالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية الذين كانوا يؤيدون شجر الدرّ والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز، وقد فرّ كثير من المماليك البحرية إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب.. وهذا الانقسام – بلا شك - أضعف القوة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا أساس الجيش المصري في ذلك الوقت. الوضع السياسي الخارجي
إذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فإن الوضع السياسي الخارجي كان يحمل مشكلات أخرى كبيرة.. ذلك أن العلاقات كانت ممزقة تماماً بين مصر وبين كل جيرانها بلا استثناء.. فالعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تماماً، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الطرفين، كما لم يكن لمصر أي سند من دول الشمال الأفريقي أو السودان.. ومعنى هذا أن هذه العزلة المقيتة ستسهّل جداً على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر كما فعل بأشياعها من قبل..
الوضع الاقتصادي
ولم يكن الوضع الاقتصادي في مصر بأحسن حالاً من الوضع السياسي أو السياسي أو الاجتماعي؛ فهناك أزمة اقتصادية طاحنة تمر بالبلاد من جراء الحملات الصليبية المتكررة، ومن جراء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جراء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي.. كما أن الناس انشغلوا بأنفسهم وبالفتن الداخلية والخارجية فتردّى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردي، وباتت البلاد على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة..
كل هذا وأعداء الأمة قد اجتمعوا عليها، وبضراوة شديدة، فهناك الغرب الصليبي الحاقد جداً والذي مُني بهزائم قاسية مخزية في مصر منذ عشر سنوات تقريباً في المنصورة وفارسكور، ولاشك أن الصليبيين يريدون الثأر والانتقام، وقد يجدون أن الاضطرابات الأخيرة في مصر فرصة سانحة لرد الاعتبار، ولتحقيق أحلام الغزو..
وهناك الإمارات الصليبية المزروعة في فلسطين منذ عشرات السنين.. وفوق كل ذلك هناك الهم الكبير القادم من الشرق.. وهو التتار..
قطز والإعداد لمعركة عين جالوت
هكذا استلم قطز رحمه الله هذه التركة المثقلة بالهموم والمشاكل..
فكيف تصرف الملك المظفر قطز رحمه الله مع هذا الوضع شديد التأزم؟!
وما هي خطواته التي خطاها من أجل الإصلاح والتغيير؟!
وما هو الإعداد الذي قام به لمواجهة الهجمة المغولية التترية الشرسة؟!!
التوحد أمام الأزمة
الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز -رحمه الله- هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، وقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه؛ لأن الطامع في الكرسي لن تهدأ له نفس أو تستقر له حال حتى يجلس على الكرسي الذي يريد، فكيف تصرف في هذا الموقف رحمه الله؟!
إنه لم يقطع أطماعهم عن طريق التهديد والوعيد، فهذا - على العكس - يزيد الفتن اشتعالاً، ويؤجج نيران الحقد والحسد والغل، ولم يقطعها بتزوير إرادة الشعب وإيهام الجميع أن الشعب يريده هو بذاته، ولم يقطعها بالخداع والغش والمؤامرات والتحايل، ولكن قطز رحمه الله ارتفع "بأخلاق" المنافسين إلى درجة لم يتعودوا عليها في الفترة الأخيرة في مصر..
لقد جمع قطز -رحمه الله- الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وكل هؤلاء من المحركين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، وقال لهم في وضوح:
"إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطة من شئتم"..
فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك..
الجهاد طريق الوحدة
لقد حرص قطز -رحمه الله- على إبراز خطورة العدو القادم، وعلى إظهار الغاية النبيلة التي من أجلها صعد إلى كرسي الحكم.. ومن المعروف أن الأزمات الشديدة التي تمرّ بالأمة يمكن أن تكون أزمات مجمّعة إذا أحسن القائد استغلالها.. ومن أفضل الأمور لتجميع الناس وتوحيد الصف: "الجهاد".. ولهذا فالقائد الذي لا يجمع شعبه على قضية جهادية يفقد عادة حب شعبه، ويفقد ولاءهم له، بل وقد تكثر الفتن والقلاقل لأن الناس سيعانون من حياة الدعة والركون، وسينشغلون بسفاسف الأمور... وعلى الناحية الأخرى ما رفع قائد مسلم ـ في كل تاريخ المسلمين ـ راية الجهاد بصدق إلا استقرت بلاده، وسار خلفه شعبه بكل حب وصدق ووفاء..
وفوق ذلك فقطز يعلن بوضوح أنه سيجعل الأمر في الناس يختارون من يشاءون دون التقيد بعائلة معينة أو مماليك بذاتهم..
رد شبهة المستشرقين عن قطز
ولا يستقيم هنا أن نفعل مثلما يفعل المحللون الغربيون أو بعض المحللين المسلمين الذين يعتمدون في تحليلاتهم على المدارس الغربية في التحليل والنقد ويقولون: إنما قال قطز ذلك ليقمع المناوئين له، وليثبت نفسه في كرسيه مستغلاً حب المسلمين للجهاد.. لا يستقيم أن نطعن في نية قطز -رحمه الله- من وراء هذه الكلمات، وأن نفترض أن وراء الكلمات مراميَ أخرى.. ففوق أن إحسان الظن بالمؤمنين أمر مطلوب شرعاً، فإن الكلمات والأفعال تقيّم وتحسب دائماً في ضوء سيرة الشخص وحياته، وقد رأينا بعد ذلك سيرة قطز بعد أن تولى الملك، ورأينا سيرته في أثناء تحركاته إلى عين جالوت، ورأينا سيرته خلال موقعة عين جالوت وبعدها.. رأينا في كل ذلك ما يثبت أن كلامه كان صادقاً، وأن رغبته في قتال التتار والانتصار لهذا الدين كانت أعلى بكثير من رغبته في الملك.. وقد جعل الله
نصر الأمة على يديه كما سنرى، وليس من سنة الله أن يكتب نصر الأمة على يد المنافقين والفاسدين.. {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81].
وليس من الطبيعي أن يخلد تاريخ المسلمين رجلاً اختلطت في قلبه النوايا، ولعبت به الأهواء، ولذلك فإن قطز رحمه الله رجل نحسبه على خير، ولا نزكي على الله أحداً، وقد أجمع علماء الأمة على عدالته وفضله وتقواه..
وإذا كان من الممكن قبول عذر المستشرقين والمحللين الغربيين في أن قطز كان يقصد الملك وليس الجهاد لأنهم في سياستهم وحياتهم لا يرون إلا هذه الأمثلة، فإن عذر المحللين المسلمين غير مقبول، لأن هذا المثال المخلص الذي لا يريد شيئاً لنفسه، وإنما يهب حياته لربه ودينه وشعبه ولقضايا أمته.. هذا المثال الراقي كثير جداً في أمتنا، ومتكرر جداً في تاريخنا.. وسبق قطز رحمه الله على هذا الطريق كثيرٌ من أبطالنا، ولحق به آخرون كثير.. وسيظل الخير في أمة رسول الله
إلى يوم القيامة..
ومع أن قطز رحمه الله قد استخدم الأخلاق العالية، والأهداف النبيلة في تجميع القواد والعلماء حوله، إلا أنه لم يتخل عن حزمه في الإدارة، وعن أخذه بأسباب السيطرة على الأمور.. فعزل الوزير "ابن بنت الأعز" المعروف بولائه الشديد لشجرة الدر، وولّى بدلاً منه وزيراً آخر يثق في ولائه وقدراته، وهو "زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع"، وفي ذات الوقت فإنه أقرّ قائد الجيش في مكانه وهو "فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي" (مع أنه من المماليك البحرية الصالحية ( إلا أنه وجد فيه كفاءة عسكرية وقدرة قيادية وأمانة وصدق، وهي مؤهلات ضرورية لأي إمارة.. (وطبعاً "فارس الدين أقطاي الصغير" هذا غير "فارس الدين أقطاي" زعيم المماليك البحرية السابق، والذي قتل في سنة 652هـ قبل هذه الأحداث بست سنوات..).
وبذلك فإن قطز رحمه الله قد حفظ الأمانة، ووسد الأمر لأهله، وبصرف النظر عن كونهم من المماليك البحرية أو المعزية.. وهذا تجرد واضح من قطز رحمه الله.. كما أنه ذكاء سياسي واضح أيضاً.. فهو بهذا يستميل قلوب المماليك البحرية الذين فروا في أنحاء الشام وتركيا، ويبث الاطمئنان في نفوسهم، وهذا - ولا شك - سيؤدي إلى استقرار الأوضاع في مصر، كما أنه سيجعل البلاد تستفيد من الخبرات العسكرية الفذة للمماليك البحرية..
كما قام قطز أيضاً بالقبض على بعض رءوس الفتنة الذين حاولوا أن يخرجوا على سلطته وحكمه، وبذلك هدأت الأمور نسبياً في مصر..
وعلم قطز رحمه الله أن الناس إن لم يُشغلوا بالجهاد شُغلوا بأنفسهم، ولذلك فبمجرد أن اعتلى عرش مصر أمر وزيره زين الدين، وكذلك قائد الجيش فارس الدين أقطاي الصغير أن يجهزا الجيش، ويعدا العدة، وينظما الصفوف.. فانشغل الناس بهذه الغاية النبيلة، والمهمة الخطيرة: "الجهاد في سبيل الله"..
إذن الخطوة الأولى في سياسة قطز -رحمه الله- في إعداده لموقعة عين جالوت كانت السيطرة على الوضع الداخلي للبلاد، وشغل الناس بالقضايا المجمعة للأمة، وإبراز الهدف الحقيقي من السلطان، وهو إقامة الشرع والدفاع عن البلاد، والقيام بشئون الرعية، وحماية مصالح العباد، وليس مجرد جمع المال، وضمان توريث الكرسي للأبناء، بل وأبناء الأبناء..
وبذلك استقرت الأحوال المحلية في مصر، وتوحد الصف الداخلي، وهذه خطوة عظيمة جداً في بناء الأمم..