وهكذا حوصر جيش النصارى بين الجيش الأندلسي من الأمام، وجيش المرابطين من الخلف، وبالفعل بدأ الاضطراب والتراجع في صفوف النصارى، وقد التفَّ جنود النصارى حول ألفونسو السادس يحمونه، ثم حدثت خلخلة عظيمة في جيشهم.
يقول الحميري: «فبادر إليه يوسف، وصدمهم بجمعه، فردَّهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، ووجد ريح الظفر، وتباشر بالنصر، ثم صدقوا جميعًا الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبرًا عظيمًا، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة نزل معها النصر، وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين فصدقوا الحملة»
[32].
انتصار المسلمين
تزداد شراسة الموقعة حتى قُبيل المغربِ، ثم ومن بعيدٍ يُشير يوسف بن تاشفين إلى أربعة آلاف فارسٍ من رجال السودان المهرة، وهم حرسه الخاص فيترجلون عن خيولهم، ليقتحموا –فيما يشبه المهمة الخاصة- قلب جيش النصارى وينفذون إلى ملكهم، وبالفعل نفذ أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة
[33].
يصف صاحب الحلل الموشية هذه اللحظات من المعركة بقوله: «واشتدت الكَرَّات، وعظمت الهجمات، والحروب تدور على اللعين، وتطحن رءوس رجاله، ومشاهير أبطاله، وتقذف بخيلهم عن يمينه وشماله، وتداعى الأجناد والحشم والعبيد للنزال، والترجُّل عن ظهور الخيل، ودخول المعترك فأمدَّ الله المسلمين بنصره... وفي أثناء ذلك، تلاقى بالطاغية أذفنش غلام أسود بيده خنجر يدعوه البرابر بالأفطس، قطع جرز درعه، وطعنه في فخذه مع مدار سرجه، فكان أذفنش يقول بعد ذلك: التحق بي غلام أسود فضربني في الفخذ بمنجل أراق دمي. فتخيل له الأفطس أنه منجل لكونه رآه معوجًا»
[34].
ويقول لسان الدين بن الخطيب: «ولم تزل الكَرَّات بين المحلات تتعاقب، والهجمات سجالاً تداول، والحرب تدور، وأَمَرَ الأميرُ يوسف العبيدَ فترجَّلوا عن الخيل في نحو ألف، ودخلوا المعرك بالمزارق (الرماح القصيرة الخفيفة) لعجز السلاح عن الخيل الدارعة، فأثرت فيها بالطعن، وجعلت ترمح بفرسانها، ولصق منهم بالأذفونش عبد قبض على عنانه، وضربه بخنجر...»
[35]. وبقي أثر الطعنة مع ألفونسو بقية عمره، فكان يعرج منها
[36].
ثم لجأ ألفونسو إلى تل يحتمي به كان قريبًا من معسكره ومعه نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم، وأباد القتل والأسر مَنْ عداهم من أصحابهم... ولما جاء الليل تسلل وهو لا يلوي على شيء، وأصحابه يتساقطون في الطريق واحدًا بعد واحد من أثر جراحهم، فلم يدخل طُلَيْطلَة إلا في دون المائة
[37]، وبعض الروايات تقول بأن الذين نجوا أقل من الثلاثين
[38]. وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك
[39]. واستشهد من المسلمين فيها حوالي ثلاثة آلاف رجل
[40].
وبذلك كانت الزلاقة دون مبالغة كمعركتي
اليرموك و
القادسية.
كان رأي المعتمد بن عباد أن يواصل الجيش مطاردته لألفونسو المنحسب حتى يقضي عليه نهائيًّا، ولكن ابن تاشفين كان يرى أن الضغط عليهم وإرهاقهم يجعلهم يستبسلون في القتال، فيقاتلون قتال مَنْ لا يرى حياته إلا بموت خصمه، وفي هذا ضرر على المسلمين، لا سيما وأن مطاردة ألفونسو وهو على هذا الحال قد تُوقع في طريقه بعض المسلمين المنسحبين، الذين يتواصل عودتهم إلى الجيش مع انقلاب كفة المعركة، وهم بالنسبة له أقل قوة وهو أقدر على الإيقاع بهم، فإن انتظروا هذا اليوم فتكامل عدد المسلمين برجوع الذين انسحبوا، هان عليهم أن يقاتلوه في اليوم الثاني، وردَّ عليه ابن عباد بقوله: إن فرَّ أمامنا لقيه أصحابنا المنهزمون فلا يعجزون عنه. إلا أن يوسف أصرَّ على الامتناع وقال: الكلب إذا أُرهق لا بُدَّ أن يعضَّ
[41].
ونحن إذ نقرأ التاريخ الآن نرى أن ابن عباد كان أصوب رأيًّا من ابن تاشفين في هذا الأمر، فلقد استمر ألفونسو يقاتل المسلمين بعدها عشرين سنة ولم يضعف ولم يتوانَ، ويُتوقع أن لو كان قُضي عليه في يوم الزلاقة لكنا نكتب الآن تاريخًا آخر، ولكان المسلمون استطاعوا أن يستعيدوا طُلَيْطلَة مرة أخرى.. إلاَّ أنه لا يسعنا أن نعترف بأننا نقول الرأي الآن بعدما انتهت الأحداث وانقشعت المعارك، وما ندري لو كنا في ذلك الموقف ماذا قد يكون الاختيار.
واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس؛ مثل: ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مَرَّاكُش أبي مروان عبد الملك المصمودي.. وغيرهما، رحمهم الله تعالى
[42].
وما أن تنتهي أحداث الزلاقة حتى يصل إلى يوسف بن تاشفين نبأ مُفزع من بلاده بالمغرب، إنه يحمل مصيبة قد حَلَّت به وبداره، فابنه الأكبر قد مات، فيعجل هذا برجوع ابن تاشفين إلى المغرب
[43].
زهد وورع يوسف بن تاشفين
بعد هذه المعركة جمع المسلمون من الغنائم الكثير، لكن يوسف بن تاشفين وفي صورة مشرقة ومشرِّفة من صور الإخلاص والتجرُّد، وفي درس عملي بليغ لأهل الأندلس عامَّة، ولأمرائهم خاصَّة يترك كل هذه الغنائم لأهل الأندلس، ويرجع في زُهدٍ عجيب وورع صادق إلى بلاد المغرب، لسان حاله: {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان: 9].
قال المقري في نفح الطيب: وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام؛ حتى جمعت الغنائم، واستُؤْذِن في ذلك السلطان يوسف، فعفَّ عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعَرَّفهم أن مقصدَه الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلمَّا رأتْ ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبُّوه وشكروا له ذلك
[44].
عودة إلى المغرب
يعود يوسف بن تاشفين –رحمه الله- إلى بلاد المغرب بعد أن جمع ملوك الأندلس وأَمَرَهم بالاتفاق، وإطراح التنابذ والتخاصم؛ حتى لا يُضيعوا بحماقاتهم ثمار هذا النصر
[45]، وعاد يوسف بن تاشفين البطل الإسلامي المغوار وعمره آنذاك تسع وسبعون سنة!
كان من الممكن ليوسف بن تاشفين –رحمه الله- أن يُرسل قائدًا من قوَّاده إلى أرض الأندلس، ويبقى هو في بلاد المغرب، بعيدًا عن تخطِّي القفار وعبور البحار، وبعيدًا عن ويلات الحروب وإهلاك النفوس، وبعيدًا عن أرض غريبة وأناس أغرب؛ لكنه –رحمه الله- وهو الشيخ الكبير يتخطَّى تلك الصعاب، ويركب فرسه، ويحمل رُوحه بين يديه، لسان حاله: أذهبُ إلى أرض الجهاد لعلِّي أموتُ في سبيل الله.
شعاره هو: [الوافر]
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ *** فَلاَ تَقْنَعُ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ *** كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
[46]
لكن يوسف بن تاشفين –رحمه الله- لم يمت هناك، فلا نامت أعين الجبناء.
المعتمد على الله بن عباد وشرف الجهاد
ولما دخل ابن عباد إشبيلية جلس للناس وهُنِّئ بالفتح، وقَرَأت القرَّاء، وقامت على رأسه الشعراء فأنشدوه، يقول عبد الجليل بن وهبون: حضرتُ ذلك اليوم وأعددتُ قصيدة أُنشده إياها، فقرأ القارئ: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ
} [التوبة: 40]. فقلتُ: بُعْدًا لي ولشعري، واللهِ! ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به، وطار ذكر ابن عباد بهذه الوقيعة وشهر مجده، ومالت إليه القلوب، وسالمته ملوك الطوائف، وخاطبوه جميعًا بالتهنئة، ولم يزل ملحوظًا معظَّمًا إلى أن كان من أمره مع يوسف ما كان
[47].
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 8/447، وابن الأبار: الحلة السيراء، 2/100، وابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/116، وتاريخ ابن خلدون، 6/186، والحميري: الروض المعطار، ص92، والمقري: نفح الطيب، 4/364، والسلاوي: الاستقصا، 2/43، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146.
[2] المقري: نفح الطيب، 4/361.
[3] تُعَبِّر المصادر التاريخية عن عدد الروم بالعبارات التي تفيد الكثرة والضخامة، وأما مَنْ ذكروا العدد فمنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس، ومائتي ألف راجل. ومنهم من قال: إنهم كانوا ثمانين ألف فارس لابسين الدروع دون غيرهم. وهذه هي رواية صاحب الحلل الموشية الذي يعود ويقول بعد ذلك: إنه قُتل في هذه الغزوة من النصارى ثلاثمائة ألف. ومنهم من يقول: إنهم كانوا خمسين ألف مقاتل. ومنهم من يقول: إن أقل تقدير لهم أنهم كانوا أربعين ألف دارع، ولكل دارع أتباع.
[4] الحميري: الروض المعطار، ص289، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
[5] ذكرت بعض المصادر أن هذه الرسالة إنما أرسلها ألفونسو الثامن إلى يعقوب المنصور الموحدي بعد هذا بحوالي قرن من الزمان، إلا أن التحقيق يؤدي إلى أنها مرسلة من ألفونسو السادس إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين. انظر: ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/6، 7، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/198.
[6] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحميري: الروض المعطار، ص290، والحلل الموشية، ص53، والمقري: نفح الطيب، 4/363، والسلاوي: الاستقصا، 2/42.
[7] ابن الأثير: الكامل، 8/446، ومجهول: الحلل الموشية، ص53.
[8] فرذلند: هو التعريب لاسم فرناندو، أول من بدأ بحرب الاسترداد وأخذ الجزية من المسلمين، وابنه هو ألفونسو السادس، والذي يعرب اسمه إلى: ألفُنش ألفونش وأذفونش.
[9] ناجزه: نازله وقاتله. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نجز 5/413، والمعجم الوسيط 2/903.
[10] الحميري: الروض المعطار، ص298، وما بعدها.
[11] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والحلل الموشية، ص57.
[12] عبد الواحد المراكشي: المعجب 194، 195.
[13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص147.
[14] الحميري: الروض المعطار، ص290.
[15] ابن بشكوال: الصلة، 1/118 144.
[16] البخاري: كتاب التعبير، باب من رأى النبي في المنام، 6593 واللفظ له، ومسلم: كتاب الرؤيا، باب قول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي» 2266.
[17] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 4/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
[18] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147، والحميري: الروض المعطار، ص290.
[19] الحميري: الروض المعطار، ص290، والمقري: نفح الطيب، 2/365، والسلاوي: الاستقصا، 2/45.
[20] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، والسلاوي: الاستقصا، 2/44، 45.
[21] مجهول: الحلل الموشية ص59.
[22] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
[23] ابن الأثير: الكامل، 8/447.
[24] ابن الأثير: الكامل 8/447، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص146، وابن الخطيب: أعمال الأعلام القسم الثالث، ص242، 243.
[25] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/118.
[26] الأوار: شدَّة الشيء وقوته. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35.
[27] العجاج: الغبار. الجوهري: الصحاح، باب الجيم فصل العين 1/327، وابن منظور: لسان العرب، مادة عجج 2/318.
[28] انظر: ابن الأثير: الكامل 8/477، وعبد الواحد المراكشي: المعجب ص194، 195، والحميري: الروض المعطار، ص291، والمقري: نفح الطيب، 4/366، والسلاوي: الاستقصا، 2/46.
[29] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص147.
[30] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن أبي زرع: روض القرطاس ص147 وما بعدها.
[31] مجهول: الحلل الموشية ص59.
[32] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها.
[33] ابن خلكان في وفيات الأعيان، 7/118، والسلاوي: الاستقصا، 2/47، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/325.
[34] مجهول: الحلل الموشية ص61.
[35] ابن الخطيب: أعمال الأعلام، القسم الثالث، ص243.
[36] الحميري: الروض المعطار، ص290.
[37] المصدر السابق، ص290 وما بعدها.
[38] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 7/117.
[39] ابن الأثير: الكامل 8/477، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/117.
[40] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص148.
[41] الحميري: الروض المعطار ص290 وما بعدها، ومجهول: الحلل الموشية ص59.
[42] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/369، والسلاوي: الاستقصا، 2/48.
[43] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص152، والحلل الموشية، ص66، والحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/49.
[44] المقري: نفح الطيب، 4/369.
[45] انظر: عبد الله بن بلقين: التبيان، ص339، نقلاً عن حسن أحمد محمود: قيام دولة المرابطين، ص282، وسعدون عباس نصر الله: دولة المرابطين، ص97.
[46] ديوان المتنبي، ص195.
[47] الحميري: الروض المعطار، ص292، والمقري: نفح الطيب، 4/370، والسلاوي: الاستقصا، 2/50.
موضوعات ذات صلة:
انتصار المرابطين في الزلاقة
يوسف بن تاشفين يحكي معركة الزلاقة
الزلاقة معركة من معارك الإسلام الحاسمة في الأندلس
معركة الزلاقة .. كسبها الإيمان وضيع ثمارها الخلاف
معركة الزلاقة