أصعد بكم الآن إلى جبل الصفا، ونشاهد سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، بالبصيرة لا بالبصر، فهو على جبل الصفا وقد اجتمعت قريش تسمع نداء سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصدع فيهم بكلمةِ الحق، بعد أن قال له الحق: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ (الحجر: 94).
النبي- صلى الله عليه وسلم- أعلنها واضحةً جليةً لكفارِ مكة ولأهلِ الأرض إلى يوم القيامة: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".
أولاً: لا إله إلا الله منهج فلاح بالنسبة للفرد وبالنسبة للأمة
فلاح الفرد بـ"لا إله إلا الله" لأنَّ "لا إله إلا الله" تعيد للفرد إحساسه بذاته، بعد أن كان كمَّا مهملاً يعيش في جهلٍ وفي غفلة، لا يعرف أين هو ولا ماذا يراد به ولا حكمة وجوده، فأعادت إليه "لا إله إلا الله" إحساسه بذاته، بعد أن كان كصنم يعبد صنمًا، وصدق فيه قول شوقي أمير الشعراء رحمه الله في مديحه للنبي- صلى الله عليه وسلم-:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم إلا على صنمٍ قد هام في صنمِ
"لا إله إلا الله" أعادت للإنسان الإحساس بذاته، والإحساس بمهمته في الحياة، وحكمة وجوده ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات56).
وأعادته إلى أن ينتظم في سلكِ واحدٍ مع منظومةِ هذا الكون في التسبيحِ والسجود لله، فالكون كله منظومة واحدة تسبح وتسجد: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ (الحج 18).
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ (النور: 41)، فالكون كله منظومة واحدة تسبح وتسجد، فإذا سار الإنسان تحت لواء (لا إله إلا الله) انتظم واتسق مع الكون، فيصبح عضوًا مسبحًا يحس بالطمأنينة والأمن والسلام والسعادة.
أما إن لم يعش تحت لواء منهج (لا إله إلا الله) فإنه يصبح في شذوذ، شذ عن هذه المنظومة، أصبح وحيدًا، أصبح غريبًا، أصبح مقطوع الصلة بمنظومة الحياة، من هنا يحس بالغربة والوحشة والأمراض النفسية والعصبية إلى أن يؤدي به الأمر إلى الانتحار والتخلص من الحياة.
ثانيًا: لا إله إلا الله منهج حياة، يعطي الفلاح للبشرية، لماذا؟
(1) هو منهج فلاح حين يعيد للبشرية حريتها: حين تصبح عبدًا لله سبحانه، وحين تصبح البشرية في عبوديتها لله عزَّ وجل وحده تذوق طعم الحرية؛ لأنَّ (لا إله إلا الله) حررت البشرية من كل عبودية لمَن سوى الله سبحانه وتعالى فجعلت البشرية كلها في عبودية لله وحده، وهذه قمة الحرية.
في الدساتير الحديثة عند تعريف الإنسان الحر، يقولون في عبارة وجيزة: إنَّ الإنسان الحر هو مَن يملك قراره، ونحن نقول: إنَّ الإنسانَ الحرَّ في هذه الحياة هو مَن يعبد الله وحده، والأمة الحرة هي التي تعبد الله وحده.
فعبوديتنا لله تحت منهج (لا إله إلا الله) حررتنا من عبوديتنا لحجر أو لشجر أو لمدر أو لبشر، أو لأي مظهر من مظاهر هذه الحياة، ومن هنا تحت لواء (لا إله إلا الله) يفلح الناس وهم يحسون بعبوديتهم الكاملة لله عز وجل.
(2) (لا إله إلا الله) منهج فلاح حين يُعطي الموحدين جميعًا العزة: فيقول لهم "إذا سألت فاسأل الله"، السؤال مذلة ولو إلى أين الطريق؟
حتى إذا سألت إنسانًا عن الطريقِ أو عن الساعةِ مثلاً، ترى أنَّ السؤالَ مذلة، والتوحيد منهج (لا إله إلا الله) يحررنا من الذل ويعطينا العزة، عندما يجعلنا نسأل الله وحده لا شريكَ له، فنأخذ بالأسبابِ ونسأل ربَّ الأربابِ فنصبح في عزة.
(3) (لا إله إلا الله) منهج حياة يأتي بالفلاح في القوة: فيجعل الموحدين أقوياء حين يعلمهم الاستعانة بالله وحده، خُذ بالأسباب واستعن بالله "وإذا استعنت فاستعن بالله" فتجيء القوة من أوسعِ الأبواب.
(4) (لا إله إلا الله) منهج فلاح يأتينا بالشجاعة في كلمةِ الحق وفي مواقف الحق، يدفعنا إلى أن نقول كلمة الحق في شجاعة لا تعرف الجبن، لماذا؟؟
لأنَّ (لا إله إلا الله) علَّمتنا أنَّ الضار والنافع هو الله "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"، إذن، فـ (لا إله إلا الله) منهج حياة يأتي بالفلاح للفرد، وللأمة.
وبالمثال يتضح المقال:
انظروا إلى العرب قبل أن يصدع فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بـ(لا إله إلا الله) كيف كانوا أمة ضائعة متفرقة متشرذمة، لا تقيم لهم قوى الكون في ذلك الوقت وزنًا.
لكن بعد "لا إله إلا الله" تغيَّر الحال، هذا الكم الجاهل المفرق المبعثر الذي لا تُقيم له الدنيا وزنًا، بعد (لا إله إلا الله) أصبح في أستاذيةِ للعالم.
رجل يجري وراء قطيعٍ من الأغنام، لا يعرف من أبجديات الحضارة شيئًا.. لا صلةَ له بمقدراتِ الحياة، تجيء (لا إله إلا الله) فتنقله نقلةً كبيرةً وضخمةً، فإذا به يقرأ القرآن، ويعيش تحت لواءِ التوحيد فيفلح، وإذا به ينتقل من إنسانٍ عامي، إلى أستاذٍ للدنيا، يصنعه التوحيد صناعة جديدة، ينتقل به إلى أستاذية لها القيادة ولها الريادة.
وتأمل معي موقف سيدنا ربعي بن عامر أمام رستم قائد الفرس، وتذكر معي أنَّ ربعيًا كان منذ سنوات قليلة راعيًا للغنم- أميًا- جاهلاً، لا صلةَ له بقواعدِ الحضارة، ولا صلةَ له بالمفاهيم العالية للحياة، لكنه الآن تغيَّر حاله فأصبح أستاذًا، صاحب رؤية واضحة، وصاحب فلسفة عالية، وصاحب هدى وصاحب فلاح.
يقف أمام أكبر قائد من قوادِ الفرس في التاريخ، وحينما يصيح فيه هذا القائد: مَن أنتم؟؟، يلتقط الخيط ويدرك بنباهة المؤمن أن رستم يريد أن يقول: أنتم عرب جياع قست عليكم الطبيعة وجبالها فأصابكم الجوع، فخرجتم لتأكلونا.. هذا الكلام فهمه سيدنا ربعي من سؤال رستم (مَن أنتم؟)، وبذكاء الداعية الذي صنعه التوحيد صنعًا جديدًا يمسح هذا التصور الغبي من ذهن رستم ويقول له: "نحن قوم ابتعثنا الله (أي: لم يخرجنا جوع أو ذل أو حب سيطرة على البشر) نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد، ومن جور الأديان- أي الحكومات الأرضية- إلى عدلِ الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
ثالثًا: (لا إله إلا الله) منهج الفلاح الذي يعز الله به الفرد وتعيش به الأمة
وحين تعيش الأمة تحت لواء هذا المنهج تعود إليها كرامتها وتعود إليها عزتها، وتعود إليها قوتها، وحينئذ نجد سياسة حكيمة تنطلق من (لا إله إلا الله)، يقول عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم".
وفي رواية للإمام أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه الأموال، زيادة عجيبة رائعة، يقول فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتُدفع لكم بها الجزية"، وتلاحظون أن النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول هذا في أول الدعوةِ ولم يملك جيشًا ولم يملك حكمًا، في أولِ ما صدع بالدولة قالها واضحة جلية.
وحين تعود أمتنا إلى (لا إله إلا الله) وحينما تجعلها منهج حياة، يملكون بها العرب، وتدين لهم بها العجم، وتكون الحياة كلها طوع بنانِ هذه الأمة لتنشر فيها العدل والطمأنينة والسلام تحت لواء لا إله إلا الله.
من التجارب اللطيفة الظريفة لهذا المعنى
في انتخابات 1987م، كنا متجهين إلى قريةٍ من القرى وتقول الأخبار: إنَّ هذه القرية بها مجموعة ضخمة من الشبابِ حاملي الفكر الشيوعي، وهم مستعدون أن ينازلونا في مناظرات لكي يروا ما يُقدِّمه الإسلام للدنيا.
وبلغنا أنَّ واحدًا منهم كان يتحدث في الناس ويقول لهم: إنَّ الناس المتمسكين بالدين هم فقط وعاظ، لا يستطيعون حل مشكلةِ المواصلات ولا مشكلةِ الإسكان ولا أي مشكلة، وحل المشاكل عندهم عبارة عن كلامٍ واستغفارٍ فقط، ومن كلامه أنَّ الاستغفار أو الذكر لا يحل مشاكل المجتمع.
فذهبنا إلى هذه القرية لكي نشرح معنى (لا إله إلا الله) منهج حياة، ويشاء الله أن يكون في هذه القرية جنازة، وهناك سُرادق وعزاء، فقلنا: إنَّ الكلمة سوف تكون داخل السرادق، فعلم هؤلاء الشباب فجلسوا في الصفِ الأول لكي يكون هناك نوع من المواجهة، ويطبقوا للناس ما ذكروه من كلامٍ.
ويشاء الله أن يقرأ القارئ سورة نوح دون إعداد مبيَّت لآياتِ الاستغفار ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا(12)﴾ (نوح).
وطُلب مني الكلام، فاستعنتُ بالله، ووقفت للكلام وذكرت معقبًا على الآياتِ التي قرأها الشيخ، ووضحت أنَّ البعض من الناس يظن أنَّ معنى "استغفروا"، هو الاستغفار بالكلامِ فقط دون تغيير أي شيء في الدنيا، وهذا كلام ليس هو المعنى الصحيح للآية، ولكن المعنى الأعم هو تطبيق منهج الله، أي: أنَّ الاستغفار هنا هو تطبيق منهج الله، وحين يكون ذلك الحال، سيهديكم الله عزَّ وجل إلى المنهجِ القويم الذي يعطيكم أساسيات الاقتصاد الناجح التي تحل أي مشكلة، كيف؟؟
فإن أي اقتصاد لكي ينجح محتاج إلى أيدٍ عاملة بالإضافة إلى رأس مال، فضلاً عن خطة، وقد ذكرت السورة أنه عند تطبيق المنهج والاستقامة عليه، سنجد الأسس الثلاثة لمقومات الاقتصاد الناجح وهي:
﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ﴾ فذكرت الآية رأس المال، ثم ﴿وَبَنِينَ﴾، وهذه هي الأيدي العاملة، وبالتالي ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾.
إذًا، فإنَّ (لا إله إلا الله) تحرك طاقات الأمة لتستثمر تحت منهج التوحيد، فتأتي الأموال التي لا تُسرق ولا تبدد، ثم تأتي الأيدي العاملة التي رُبيت على المنهج، ثم تأتي الخطة الحكيمة التي تسير هذا الاقتصاد إلى الرخاء وإلى النجاح لتكون جناتٍ وتكون أنهارًا.
وفي الختام تسير معنا (لا إله إلا الله) في الدنيا، مع الجناتِ ومع الأنهارِ ومع الحياة الرغيدة، وتنتقل بنا إلى يوم القيامة لتكون فلاحًا لنا، كما قال- صلى الله عليه وسلم-:"مَن قال لا إله إلا الله خالصةً من قلبه دخل الجنة".