وهنا يخاطب الكافر بنبز "الإنسان" ما أغواك وحَرَفَكَ عن عبادة ربك الكريم ؟ وهو جل وعلا أعلم بأن طاعته للشيطان ولنفسه الأمارة وراء كفره ، ثم يذكره بكينونته وكيف كان أن الله خلقه وسواه وعدل خلقته.
- يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
(الكدح) هو العمل السيئ والآية صورة من صور الوعيد ، وفي معناها الخاص قال فيه ابن عباس : هو أبي بن خلف ، وكدحه جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول عليه السلام ، والإصرار على الكفر . وفي معناه العام ومن سياق السورة هو كل عمل الدنيا ما اختلط من العمل بسوء أو كان عمل سوء فأما المؤمن فيحاسب على هذا الكدح (العمل السيئ) بيسر فيتجاوز عن هذه السيئات ، وأما الكافر فيؤتى كتابه وراء ظهره ويكون حسابه على كدحه عسير لا تجاوز فيه و مصيره إلى نار السعير ، أما العمل الصالح فهو من يشفع للعامل الكادح فيتيسر حسابه عن سواه .
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) [الفجر] (ابتلاه) أي اختبره بعطائه ونعمته فهو يعتقد أن ذلك رضا من الله عن سوء عمله ، فيقول أكرمنِي ربي فهو راضٍ عني وإن كان عمله عمل سوء ، وإذا اختبره بضيق رزق اعتقد أن عمله ليس مرضياً عند الله ، فيظن أن اللهَ هوَّن عبدهُ وإن كانَ عملهُ عمل خير ، ثم يصف هول الموقف العظيم وكيف أن الإنسان لا تنفعه الذكرى في ذلك الموقف ولا تمني العودة للدنيا إذ يعذَّب عذابا عظيماً ويوثق وثاقاً شديداً.
- لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) [البلد]
إن استقراء مفردة الإنسان عندما يترافق مع قراءة السياق يظهر بجلاء ما ذهبنا إليه في هذا البحث فهاهي الآيات المباركات من سورة البلد يلقي ربنا جلت قدرته اللوم على كل إنسان خلقه من العدم ويحسب أنه بلغ من القوة مبلغاً لا يغلبه فيه أحد ولا يقدر عليه (يضيق عليه الرزق) ثم يبين عناصر خلقه التي أصبح بوجودها خلقاً مستقيماً منتصباً يحصل كسبه وماله وبدونها فهو لا شيء ، وفي وجه آخر فإن (خلقنا الإنسان في كبد) صورة لضعف الخلقة إذ قال بعض المفسرين بأن الكبد هو الدم المتجمع المتكبد ويحسب بعد كينونته تلك أنه لن يقدر عليه أحد وهو خلق من ضعف وقذارة.
- اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8) [العلق]
وهنا يبين ربنا جلت قدرته هوان خلق الإنسان وحقارة أصله ، وجهله لولا تعليم الله له ، وطغيانه إن أفضل الله عليه بالرزق وأغناه من فاقة ثم يؤكد على رجوع هذا الإنسان لربه فيحاسبه على ما أسرف فيه من سوء.
- إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) [الزلزلة]
جاء في تفسير الطبري (كان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني ابن سنان القزاز ، قال : ثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، ( وقال الإنسان ما لها ) قال الكافر : ( يومئذ تحدث أخبارها ) وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية، لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم ، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر فقال له مسلمة : يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله : فقال عقبة : هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك . فقال عبد الله: أجل، ثم يبعث الله ريحاً كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفساً في قلبه حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة ، وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله " ، وفي رواية : قال : " لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله " . رواه مسلم ، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق " . رواه مسلم ، وروى أبو يعلى في مسنده ، والحاكم في مستدركه عن أبي سعيد مرفوعا : ( لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت ) . وروى السجزي عن ابن عمر رفعه : ( لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والقرآن ) .
فكانت الآية الكريمة من سورة الزلزلة دلالة على أن الإنسان إشارة لشرار الخلق ممن تقوم عليهم الساعة ، ويسال الإنسان عما لا يُسأل عنه فلو كان من المؤمنين لجار لله وامتلأ رعباً وهلعاً من هذا الموقف العظيم ولكن جنس (الإنسان) ممن لا يؤمن يستنكر ويستفهم عما يحدث للأرض إذ زلزلت لأنه لم يستحضر قيام الساعة وعلاماتها.
- إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) [العاديات]
( إن الإنسان لربه لكنود ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : " لكنود " : لكفور جحود لنعم الله تعالى . قال الكلبي : هو بلسان مضر وربيعة الكفور ، وبلسان كندة وحضرموت العاصي ، وقال الحسن : هو الذي يعد المصائب وينسى النعم . وقال عطاء : هو الذي لا يعطي في النائبة مع قومه . أقول : هذا يكفي لفهم استعمال مفردة الإنسان في هذا الموضع بأنه إشارة لسوء طويته وكفره وجحوده.
- وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر]
فتسمية الإنسان لكل خاسر ولا يصح إطلاقها على المؤمنين من عملوا الصالحات فاستثناهم الله من الخسران المقتصر على الإنسان فصار نبزاً للخاسرين من البشر.
وهكذا ارتبطت مفردة الإنسان بحقارة مادته وضعفها وحقارة نفسه وكفرها ، ومن حقارة نفسه أن وصاه ربه جلت قدرته وتقدست أسماؤه بوالديه في حين أن غريزته تجبره على الإحسان إليهما بغير وصية كما هي غريزة الحيوان مع أبويه ، ولكن الإنسان بسوء طويته تتشرب نفسه العقوق والكفر بالمنعم ، فالكفر بالله أعظم الكفر ، والعقوق صورة من صور الكفر التي تشيع بين بني الإنسان ، فلا عجب إن كان كفر بخالقه فكيف بما هو دون ذلك ؟.
وتسمية "الإنسان" ذاتها تعود للنسيان عمداً وسهواً ، فكفره نسيان فضل ربه عليه ، ونسيان عاقبة ظلمه وطغيانه ، والإنسان ينسى إشارات ربه وتحذيره بما يصيبه من شرور ، وينسى إنعام ربه وخيراته بما يغدق عليه من نعم فكانت مفردة الإنسان جامعة لكل شرٍّ يقترفه فأتت هذه المفردة في القرآن الكريم لدلالتها على ضعف خلقته وخُلُقه.
ولعلنا نتعلم من ذلك ونتمثل به في استعمالنا لتلك المفردة ، فنلاحظ استعمال المفردة في حياتنا على سبيل التكريم في أحايين كثيرة في الوقت الذي وجب أن تتماهى خطاباتنا ومقالاتنا ونتاجنا الفكري مع القرآن الكريم فنوظف المفردة بما يتفق مع التوظيف القرآني لها ، فتلامس الجانب السلبي إذا كانت في القرآن الكريم كذلك ، وتلامس الجانب الإيجابي إذا كانت في القرآن كذلك.
ولا شك بأن التوظيف القرآني العجيب لمفردات اللغة العربية صورة بلاغية بديعة لم تحظى بالتحليل الكافي بل ونكاد نلحظ انفصال بين الخطاب الواقعي مع التوظيف القرآني للمفردات ، ولا تسلم من سوء الاستعمال هذا حتى المصنفات الإسلامية.
وإن كنا نعلم بداهة أن البلاغة هي من أعظم صور الإعجاز في القرآن الكريم فإننا للأسف وإن حاولنا تقفي تلك الصور البلاغية إلا أننا لم نلحظ انعكاس ذلك على الخطاب العربي و الإسلامي فأهملنا هذا الكنز الكبير واستبدلنا لغتنا باللغة الفرنسية لكتابة القوانين متذرعين بدقة اللغة الفرنسية في صياغة القوانين جهلا بما تحمله لغتنا الثرية من استعمالات متعددة ومتنوعة لمن تعرف على ذلك الثراء من خلال القرآن الكريم.
-(الإنْس)
يتبع...