اجتمعت العائلة في غرفة الجلوس حول محمود.. كان معتز يثرثر، وسمية تبتسم وهي تستمع إلى كلامه الظريف ..ولم يكن مزاج جمال على ما يرام فانتبه إليه محمود وقال: هل قرأت عن الحاجب المنصور، مر زمن على إحضاره ولم تقرأه.
كانت نفس جمال تلتهب من الغيظ..فقال بألم وقد رمى رأسه يسنده عند ظهر الأريكة:أعرفها؟
محمود: كان الحاجب المنصور يا معتز.. شخصية فريدة، كان فقيراً معدماً، فجد وكد وصار الرجل الأول في الأندلس
جمال بحرقة: ما كان سيصل لولاها..
محمود: من؟
جمال:صبح البشكنسية
سمية: بل بالهمة التي تحطم الجبال
جمال: بل باستغلالها
سمية: لقد جهز جيشا عرمرماً حتى ينقذ ثلاث نساء مسلمات أسيرات ضد مملكة نافار.
جمال:وقبلها.. أوصلته امرأة إلى منصبه
سمية وقفت وقالت بغضب: إياك أن تسيء لهذا المجاهد..
جمال وقد فار صدره وغلى ثم وقف ونادى: لقد جاهد لأجل السلطة
سمية بغضب : لقد جاهد لأجل راية الإسلام .. لأجل توحيد الأندلس...هل تعلم ؟ لقد كان ينفض ثيابه بعد كل غزوة، يجمع غبار في صرة، لتدفن معه وتكون شاهدة على جهاده.
جمال صارخاً: بسبب صراعاته تم القضاء على الدولة الأموية.
سمية: بسببه فتحت مدن لم يقدر أحد على فتحها مثل صخرة بلاي..
فرح بخبر موته كل أوروبا وبلاد الفرنج حتى جاء القائد الفونسو الى قبره, ونصب على قبره خيمة كبيره وفيها سرير من الذهب,
فوق قبر الحاجب المنصور ونام عليه ومعه زوجته متكئه يملاهم نشوه موت قائد الجيوش الاسلاميه في الأندلس وهو تحت التراب, وقال الفونسو : أما تروني اليوم قد ملكت بلاد المسلمين والعرب !! وجلست على قبر اكبر قادتهم !
فقال احد الموجودين:والله لو تنفس صاحب هذا القبر لما ترك فينا واحد على قيد الحياة ولا استقر بنا قرار.
فغضب الفونسو وقام يسحب سيفه على المتحدث حتى مسكت زوجته ذراعه وقالت :صدق المتحدث ايفخر مثلنا بالنوم فوق قبره !!
جمال: ثم أضاعوها بنوه ودارت الصراعات فيما بينهم
سمية: لم تكن الصراعات في الأندلس وحدها بل ان الصراعات لا تنتهي..فيأتي قائد مجاهد يوحد الأمة ..فيفترقون بعده ..ويتصارعون .
جمال: لكنها صراعات مناصب يا أمي (ثم صرخ )هل تعلمين!؟ لقد ضرب الحاجب المنصور(وأشار بعيداً) متآمراً من صبح ( وأشار إلى أمه) الحصار على هشام بن الحكم(وأشار على نفسه والألم يعتصره).
أرادت سمية أن تتكلم لكن معتز صرخ فيه ممازحاً:أوقفوا هذه الصراعات التاريخية التي تدور في منزلنا( وضع ذراعه حول جمال وأكمل) هون عليك يا فتى الأندلس( وتنفس الصعداء ثم أكمل)غدا...غدا سأبحث معك البلاد داراً ..داراً.. عن منزل حامد منصور هذا...و ليقطع علاقته مع صبح..وإلا...وإلا أخبرت أبيها حتى يتدخل ويفسد علاقتهما.
لم تحفل سمية بكلام معتز وقالت بهدوء حزين:لا تشبه الحاجب المنصور، بصاحبك المبتور، اذهب يا بني إلى الصالة.. وتمعن في الذي تفكر فيه.
نظر جمال إلى الأرض وقال بخضوع وألم:أرجوكِ يا أماه ..لا تحاسبيني على ما أفكر فيه ..ففكري مشوش..وقلبي انطفأت بصيرته.
ثم أطاع أمه استدار ليتوجه إلى الصالة لكن أمه قالـت متألمة بعد أن جلست:على كل حال..لم يُضرب عليك الحصار، جواز سفرك بحوزتي..إن شئت خذه وعد من حيث أتيت.
وقف لحظات..ثم استدار..ومشى بخطوات بطيئة مهزوزة..إلى أن وصل بالقرب من أمه..انحنى وأسند راحتيه بركبتيه .. وجعل وجهه يستقبل وجه أمه وقال:لا أقدر... أتعلمين لماذا؟
سمية بألم: ولم؟
جمال بحسرة والألم باديا على ملامح وجهه:لأجل كلمة المعتمد بن عباد، لأن رعي الجمال.. أحب إلي من رعي الخنازير.
ثم وقف وتحول إلى الصالة.
محمود يراقب بصمت..أما سمية الغاضبة قالت لمعتز: وأنت؟
معتز مازحاً : أنا...أنا ليست بيني وبين الدولة الأموية أي عداوة...أنا فرد من الشعب.. أهتف للخليفة أياً كان أمويا أم عباسيا أو حتى فاطمياً كل ما أريده من الخليفة الخبز و الطماطم .
ضحكت وأمسكت بإذنه وقالت : أيها المنافق، بل ربما تهتف لهرقل أيضا من أجل رغيفك!؟
أكمل ضاحكاً: أنا عندي أولاداً صغاراً .. وعلي إطعامهم بعيداً عن مكر الحكّام.
سمية كأنها نسيت شيئا:اوه..نسيت الحلوى.
ذهبت ..بعد لحظات وقف معتز ليتوجه إلى المطبخ فأعترض طريقه محمود بقوله: إلى أين؟
معتز: لأساعد الخالة في تجهيز الحلوى.
محمود وقد رمى رأسه على ظهر الأريكة وقال: دعها..هي لم تذهب لتجهز الحلوى .. بل لتبقى وحدها.
معتز بألم :ولكني لا أريدها أن تبكي وحدها.
توجه معتز إلى المطبخ وقال مازحا بصوت عالٍ: يا ربي! ارحمني! أتبكين فوق طبق الحلوى؟ سيصبح مالحاً.
ضحك محمود من مزحته، ثم وقف وتوجه إلى جمال.
كان جمال يجلس على الأرض، وقد غطى رأسه بذراعيه ووضعهما على المقعد ...فتح محمود الباب، واقترب منه، برفق مد يده ليمسك بيد جمال ...ساعده على الوقوف، وأجلسه بجانبه على الأريكة وبحذر..وضع محمود يده اليمنى على ظهر جمال وبدأ يمسح ظهره برفق.. وقال:يا بني لا تأخذ من التاريخ ما يفت عضد عزيمتك... وخذ منه ما يقوي ثقتك بالله ..يا بني تاريخ الإسلام فيه الكثير من العظماء الذين رفعوا شأن الأمة..فالله الله بمعرفتهم والمضي على خطاهم، يا بني لا تقرأ لمن حرفوا التاريخ..بل لمن عرفوا شأن تاريخنا العظيم..
ثم بيده الأخرى أمسك ذقن جمال..وحاول رفع وجهه ليقابل وجه جمال فأضرب قلب الفتى حين نظر إلى عيني محمود, فالتقتا عينا جمال الحائرتين بعيني محمود الواثقتين
ثم قال هامساَ: يا بني..أنت لست هشام بن الحكم..أنت صقر الأندلس الذي سيحلّق من جديد.
التعديل الأخير تم بواسطة أم البنين1977 ; 23-04-2011 الساعة 07:54 AM
لما انقطعت الكهرباء كان جمال يجلس القرفصاء على سريره يحتضن قدميه ويخبئ رأسه،كان ضوء الشمعة ينعكس على جسده وخيالا مضطرب ينعكس عند الحائط .. تأمله معتز وقد رق قلبه له فقال:ما بك يا هشام بن الحكم؟
جمال وقد أشاح بوجهه: أنا لست هشام بن الحكم..أنا المعتمد بن عباد حبيس يوسف بن تاشفين.
معتز:والله! طيب يا فتى الأندلس...
جمال حزينا: دعني وشأني.
اقترب معتز من جمال أكثر وجلس على سريره بعد أن حمل الشمعة وقال هامساً:ما رأيك أن تهرب غدا وترافقني إلى المدرسة،سأساعدك في اجراءات التسجيل لتلتحق في المدرسة مع أقرانك.
جمال: أوراقي المدرسية معقدة وباللغة الانجليزية.
معتز:سنعطيها للمدير لا أظن أنه يعرف الانجليزية.
رفع جمال رأسه ونظر إلى معتز مندهشا ثم سأل:حقاً!هو لا يعرف الانجليزية؟
معتز: أجل ولا يعرف كيف يقرأها.
جمال:هل أنت متأكد؟
معتز: نعم أنا متأكد.
أمسك بذراع معتز وسأل ليتأكد أكثر:هل أنت متأكد أن المدير لايعرف الإنجليزية؟
معتز وقد ضاق صدره: نعم يا أخي لا تكن لحوحا.
جمال تنفس الصعداء ثم قال محتاراً:و ماذا عن أمي..وأبوك؟
معتز هامسا: ستأتي معي غدا... بدون علم صبح..وحاجبك ..وبن تاشفين.
وعندما همس بحروف الجملة الأخيرة ..صار الخيال يتزلزل بعنف...كالمشهد المزلزل الذي سينتظرهم في المدرسة.
التعديل الأخير تم بواسطة أم البنين1977 ; 23-04-2011 الساعة 08:02 AM
¸.•´♥ غريب الدار ¸.•´♥ الحلقة الرابعة¸.•´♥الزلزال مدرسي.•´♥
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أثناء تناول الإفطار بدأ معتز يمازح جمال ويقول:أنا لست أفهم من أين جاء عشقك للمدرسة،هل تظنها مثل مدارس أمريكا التي جئت منها؟ فهناك المعلمات الحسناوات،و المباني الفخمة،والأدوات المتقدمة،وقد تفضل المدرسة عن منزلك الواسع الدافئ.
لم يحفل جمال بمزاح معتز،لكن سمية ومحمود كانا يدققا النظر في ملامح جمال وردة فعله،أما معتز فأكمل مزاحه: أنا أجزم بأنك لو رأيت مدارسنا فسوف تعود إلى المنزل، وتتصل بوالدك، تبكي وتقول(وجعل صوته حاداً)بابا تعال أنجدني من هذه المدرسة،ثم يأتي..يعانقك..يأخذك..نرتاح منك.
أطلق شبه ابتسامة ساخرة ولم يرد،أراد أن يمزح معتز بأخرى فنهاه محمود فلم يفهم.
*******
كان جمال متوتراً حينما دخل إلى الغرفة، وضع كتاب البداية والنهاية داخل الحقيبة، رأى معتز والكتاب فاستنكر وقال بعد أن ضرب بكفه على رأسه:ار..حم..ني..ألا تترك هذا الكتاب..(تنهد)على كل حال..هيا لنخرج بهدوء، قبل أن تشعر والدتك.
وتلصصا بهدوء إلى خارج الغرفة، ثم خرجا..انتبهت سمية متأخرة..ارتدت حجابها و أسرعت لتخرج، لكنها حينما وصلت عند الباب، تسمرت مكانها وبكت ثم قال: لا..لا أستطيع الخروج..ولم تحملها قدماها فجلست على الأرض.
*******
في المدرسة تسللا مثل اللصوص،اختبئا خلف السلم،فقال جمال:هل مقابلة المدير صعبة هكذا؟
معتز:هل تظننا في منتجعاتكم الأمريكية..يقولون مدارس!
انتهز معتز اللحظة المناسبة، دخل هو وجمال غرفة المدير وقال وهو يلهث:الحمد لله أن وجدناك هنا.
المدير بغطرسة:ولماذا خرجتما من فصلكما؟
جمال:أنا طالب جديد،اسمي جمال وهذه أوراقي..أريد أن أسجل نفسي لألتحق مع الطلبة.
المدير بسخرية: أتظن أن الأمر سهلا؟ أين ولي أمرك يا ولد؟
نظر جمال إلى الأرض بحزن ثم ناوله الأوراق وقال:أبي مسافر..هذه أوراق المدرسة التي كنت فيها.
قلب الأوراق بقرف!ثم نظر إليه وقال بغرور:لمتونه! أم كونزالس! كنت متحرقاً للقائك يا جيمس كونزالس.
صدم جمال، وتجمد الدم في عروقه لاذ بالصمت ولم يعرف بم يرد,أما معتز ضحك ساخراً:جيمس كونزالس! قد وصل الزحف الأمريكي إلى داري! ومن أمك يا فتى!أولبرايت! أيها المدير أنقذني من الاحتلال الأمريكي الذي حلّ داري.
نظر معتز إلى جمال المصدوم وقد ربط لسانه وتشتت فكره وطأطأ رأسه ذليلا، فأحس معتز بأنه في ورطة ثم قال محتاراً:لا بد من أن سوء تفاهم قد حدث.
المدير بغطرسة:سوء تفاهم! أتظنني أحمقاً؟هذه الأوراق من مؤسسة رعاية الأيتام في نيويورك،لطفلٍ إسمه جيمس خوسيه كونزالس،أتظنني لا أعرف الإنجليزية؟
دهش معتز وقبل أن ينبسّ ببنت شفة، دخل إمحمود لى الغرفة يلهث ويقول: السلام عليكم، أنا أعتذر لأن جمال قد جاء.
نظر إلى ابنه غاضبا وقال:لماذا أحضرته؟
و حول نظره إلى جمال, قد كان ذليلاً ثم قال بغضب: لماذا لم تثق بي؟ألم أقل إنك ستلتحق في المدرسة؟
قال المدير لمحمود بتكبر وغطرسة:انتبه إلي يا سيد محمود،لماذا بعثت هذا الولد بعد أن رفضته؟
أغمض جمال عينيه بحسرة وقد فهم سبب مماطله محمود.
أما محمود قال:لقد جاء دون علمي وكنت سأسجله ليلتحق بمدرسة أخرى.
قال المدير يهدد جمال:لن تقبله مدرسة أخرى،والآن.. جاء بقدميه، أريد أن أفهم قصتك يا ولد، أحكي لي من أنت و إلا.
خاف جمال فقال وصدره المضطرب يعلو وينخفض،وشفتاه ترتجفان:أنا جمال يوسف لمتونة، عندما كنت صغيراً حدث خلاف كبير بين أبي وأمي..فأنتقم أبي مني ومنها، تبرأ مني وأبعد أمي عني..ثم جاء خوسية كونزالس الإسباني وتبناني، عشت مع كونزالس سنه في إسبانيا...ولأن كونزالس فتن بحضارة أمريكا وقد فتنت أبي قبله،هاجر وحملني إلى هناك،فعاندته،فزجني في دار الأيتام في نيويورك.
المدير:أتريدني أن أدخلك في المدرسة لتفسد الطلبة،أخبرني ماذا تعلمت من ضياعك؟ماذا تعلمت من هناك؟وماذا تعلمت من مؤسسة الأيتام التي خرجت منها؟
معتز مندهش و لا يصدق ما يسمع، أما جمال فنظر إلى المدير وقد التهبت نفسه فقال و هو يخفض بصره: تعلمت هناك بأن الدين جمرة أمسكت فيها بيدي فكانت يدي عود مسك نشرت طيباً، وتعلمت هنا (قال بألم)أن الجمرة أحرقت قلبي قبل أن تحرق يدي،تعلمت هناك أن الصبر نصراً وتعلمت هنا أن الصبر قهرا.
قاطعه المدير بغطرسة: أيها الخبيث.
ضرب محمود على الطاولة بيده وقال: لقد رفضت الفتى فلا تمعن في إذلاله.
ودون إذن، دخل الدكتور راشد في اللحظة المناسبة وقال:السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، أنا الدكتور راشد عماد.
تحولت الغطرسة إلى بسمة وتملق فسأل:استشاري العظام المشهور !!أهلا أهلا.هل من خدمة أقدمها يا دكتور؟
الدكتور راشد:جئت لأسجل جمال مع أخي محمود فأنا أعرف جمال منذ نعومة أظفاره، والله لا أعرف عنه إلا أنه تقي نقي ذكي.
المدير وقد ابتسم خجلاً بعد أن أسقط في يده فـ"واسطة "راشد كبيرة ومركزه مرموق فقال بتلعثم:لا بأس يا دكتور ..من الآن.. يمكنه الالتحاق ..من الآن، هيا يا ولدي معتز،خذ جمال إلى فصلك.
محمود بامتعاض:هو أكبر من معتز بسنه، ولا تقلق على ما فاته فجمال طالب ذكي وسيثبت جدارته.
ذهب معتز أما جمال قال بصوت متقطع، خافضاً بصره ذليلاً:لــ..لـ..لا أريد أن ألتحق بالمدرسة، سأعمل معك يا عمي محمود في الورشة.
محمود بحزم وتسلط:اذهب إلى فصلك..أثبت جدارتك..ولا تخذلني.
قال جمال "لا أريد" أخرى، فأنقض محمود على ذراعي جمال يهزهما، وقد صك أسنانه، و طار الشرر من عينيه وصرخ في وجهه فجعل فرائص جمال ترتعد وقال:إنك لا تملك الإرادة..هل فهمت؟إنك لا تملك الإرادة، ستذهب إلى فصلك، وستكمل دراستك، وستثبت جدارتك،وستثبت تفوقك،ستفعل هذا,إنك لا تملك الإرادة؟هل فهمت؟إنك لا تملك الإرادة.
*******
لم يقدر المقاومة ولا المعاندة،فلقد لجمه محمود،وأحكم اللجام، فكيف يقدر على الرفض وهو لا يملك الإرادة ، لقد هزم جمال كونزالس وزبانية مؤسسة الأيتام بل وقد هزم أباه وزوجته "ليديا" قبلهم،وها هو يسقط صريعاً بين يدي محمود،لا يقدر على الحراك ولا العراك، ثم توجه إلى للخارج مستكينا ذليلاً، كان معتز الغاضب ينتظره قرب باب المدير، فأمسك هو الآخر بكتفيه وهزه بعنف وقال:ما أنت ومن أنت؟ هل أنت جمال أم كونزالس أم عبد الرحمن الداخل،..
فنفضه بغضب ثم بسط ذراعيه وتمايل مثل الطائر المجروح وقال في بحة ألم وكمد لمعتز:ألم تسمع القصة؟! ألم تفهمها؟! ألم تعقلها؟! أنا لست جمال،أنا لست كونزالس، أنا لست عبد الرحمن الداخل، أنا لست عبد الرحمن الغافقي ..و لست هشام بن الحكم و لا المعتمد بن عباد ..أنا الأندلس كله ضعت هناك(ثم ضرب على صدر معتزثم أكمل)و ذبحت على يديك هنا.
معتز بغضب:وهل من أسرار أخرى تخفيها؟ ربما أجدها في كتاب البداية والنهاية الذي لا تتركه.
ثم انتزع حقيبة جمال رغما عنه، أخرج كتاب البداية والنهاية من الحقيبة فسقط الكتاب...وذهل ..ثم..ببطء، ثنى معتز قدميه وجلس إلى الأرض،تناول الكتاب بيد مرتجفة، وفكرٍ حائر، بدأ يتأمله ويقلبه مصدوماً مذهولا.
قد كان الكتاب يحمل آثار الطعنات على غلافه، كانت أطرافه محترقة،وكان الدم منثوراً بين السطور.
تناول جمال الكتاب بهدوء، وضعه في حقيبته، ثم مضى يبحث عن فصله، وترك معتز متسمراً متجمدا مكانه يتابع جمال وهو يرحل ويغيب عن نظره ثم همس:بل إن ملحمة حياتك أشد عنفاً من تاريخ الأندلس نفسه.
*******
مشى جمال ومشاعره قد اختلطت بين الذل والاستكانه والحزن والألم والحسرة فبانت على ملامحه الكآبة والحزن، دق باب الفصل وقال للمعلم:أنا طالب جديد،هل تسمح لي بالدخول.
قال أحدهم مازحاً:طالب!هذا طالب،هذه مومياء.
فضحك الطلبة بسخرية.
التعديل الأخير تم بواسطة أم البنين1977 ; 24-04-2011 الساعة 07:54 PM
عند دخول جمال ومعتز إلى المنزل، كانت سمية تنتظر وقد تحسنت حالتها، فسلمت عليهما،رد جمال السلام بصوت محبط، مشى إلى مكتبه خافض الرأس ذليلا، جلس بهدوء، وضع كتبه على المكتب وشرع في الدراسة، أرادت سميه أن تتحدث معه لكنه قال بحسرة:أمي..أنا بخير فلا تقلقي..فقط..أرجوك.. دعيني وحدي.
ثم همس في قلبه: آسف يا أمي ليس عندي ما أقوله...لقد صرت عبدا لمحمود..وما عادت لدي إرادة..
خرجت من الغرفة حزينة، فرأت معتز يجلس القرفصاء بالقرب من الغرفة يحتضن قدميه بذراعيه، وحينما رآها وقف وقال متأسفاُ حزيناً :أنا...أنا آسف يا خالة..مشكلة جمال أكبر مما تخيلت..لو كنت أعلم ما طلبت منه أن يأتي معي...ما...
نظرت إلى معتز يتيم الأم،ثم ابتسمت بحنان وقاطعته قائله:هششش..وما ذنبك؟(ثم قالت)تعال حدثني عن يومك.
*****
مشى خلفها إلى المطبخ، تابعها وهي تغربل العدس ثم قال:لقد كان يوما عصيبا.
ضحك بمرارة ثم سكت برهة وسأل بتردد:ترى..ما طبيعة ..الخلاف بينك و بين والد جمال؟
أطلقت سمية ضحكة ساخرة، قالت:كانت صراعات مناصب يا معتز ..بين صبح التي استيقظت ..وبين الحاجب المبتور.
حدق معتز إلى البخار المتصاعد من القدر وقال يسأل:فأختار الفتى رعي الإبل بدلاَ من رعي الخنازير؟
استقامت مشية جمال،اختفت بسمته،فكيف يبتسم العبيد!؟ بعد سقط الفتى صريع كلمة زوج أمه "إنك لا تملك الإرادة"، تطارده أينما حلّ فلا يحاول معاندته،وصار أسيراً بين يديه وتحت إمرته إن قال كل أكل،وأحياناُ يتقيأ ما أكل،أو يأمره بتناول الدواء ثم ينام مثل القتيل، وصار مثل الآلة التي تعمل بجهاز تحكم، كما سقط زوج أمه صريعاً بيد جمال، لا يعرف كيف يمد جسور الثقة من جديد ، وما عاد جمال يعدل نظارته،ما عاد يقرأ كتاب البداية والنهاية،ما عاد معتز يسأل من أنت ؟ وما عاد جمال يجيب بمن أنا
وصدف بعد أيام أن دعاه راشد لينشد بصوته الشجي في عرسه ..فقبل لأن محمود أراد ذلك! فأنشد بصوت شجي ولكن بلا روح ..وأُمر أن يبتسم ..فابتسم ابتسامة بلهاء لا روح فيها وأمر أن يرقص.. فرقص رقصة بلهاء لا روح فيها..كما أن سمية لم تخرج!
*****
عندما ذهب جمال إلى المكتبة العامة في المنطقة، سمع آذان المغرب فصلى في المسجد الذي يقابل المكتبة، وبعد الصلاة قام الشيخ عبد السلام بإلقاء درس في المسجد فاستحى الفتى أن يخرج وبقي ،كانت حواسه متجهه نحو كلام الشيخ الرقيق، كان يتكلّم عن الهم و الحزن،و لألم و الكدر، وكأن الكلام موجه له، لجمال فقط.
أثناء الدرس كانت السكينة التي لبست روحه كفيلة بتأمين طاقة من الصبر والصمود,تشد من عزم الفتى المحطم.
عندما أنهى الشيخ عبد السلام من الدرس اقترب من جمال وسأله : من أنت يا بني؟
قال جمال خافض البصر وصوت تنفسه يضطرب: أنا جار أبي حنيفة ، أبحث عنه و أنادي ..أضاعوني وأي فتى أضاعوا..(ثم نزلت دمعة وقال)يا عم..أتعرف دار أبي حنيفة..فما عدت أطيق الصبر .
اقترب منه الشيخ عبد السلام، وبرفق، وبحذر..وضع عبد السلام يده اليمنى على ظهر جمال وبدأ يمسحه برفق، ثم بيده الأخرى أمسك ذقن جمال..وحاول رفع وجهه ليقابل وجه جمال فأضرب قلب الفتى ونظر إلى عيني عبد السلام، فالتقت عينا جمال الحائرتين بعيني عبد السلام الواثقتين ثم قال هامساَ: بل أنت القائد العظيم قطز، ينتصر في معركة عين جالوت،وقد انتصر على نفسه قبلها.
فنزل الاضطراب دمعة ساخنة على خد الفتى وقال:كنت هناك في المعركة... رأيت جلنار وهي تطعن...كان التتري عربياً..فقتلني قبل أن يقتلها..ثم صرخت جلنار وا إسلاماه..فصرخت معها.
********
حل الظلام وجمال ضائع لا يعرف الطريق إلى المنزل ،أحس بقطرات المطر تهطل بشده من حوله ..وكأن التنور قد فاض..أحس بأنه غارقٌ لا محالة ..ثم أحس بأن الماء قد وصل على حلقه..فقد القدرة على العوم.. أمسك بياقة قميصه وبدأ يفتح أزرارها.. صارت قدماه لا تحملانه..لكنها لم تكن تمطر!بدأ يلتفت حوله ويمضي على غير هدى، كأنه يبحث عن جبلٍ يعصمه من الماء ولا ماء حوله.
شغّل محمود محرّك العربة وقد كان يراقب مع معتز من بعيد ثم توجه نحوه وقال: يا بني.. اركب معنا.
ضحك جمال ساخراً من نفسه وتمتم بعد أن جلس:بسم الله مجريها ومرساها .
حينما وصل محمود إلى المنزل انتظر جمالاً حتى يدلف إلى الغرفة،ثم جذب معتز من ذراعه وهمس:لا تخبر سمية بأني أخذت ابنها مكانا بعيداً وتركته، فأنا ضعيفٌ أمام هذه المرأة .
ضحك معتز ضحكة خبيثة وقال : يا خطير!! أبي العاشق المراهق.
دخل معتز إلى الغرفة،أمسك صورة أمه و ميسون..همس بعد أن انطفأت البسمة:أبي..العاشق المراهق.