سخيف للغاية ما تسمعه من أقطاب ورموز النظم القمعية في المنطقة العربية عندما تتهم ثورات شعوبها من أجل الحرية بأنها تآمر من قبل الامبريالية والشرق والغرب على النظام الصلب والوطني والمقاوم والمناضل ، وأسخف من ذلك أن تسمع بعض "المأجورين" من الأقلام والصحف والفضائيات التي تعيد ترديد هذا الكلام الساقط ، وكأن رياح الثورة العربية التي تمتد من المحيط إلى الخليج الآن كان ينبغي أن تتوقف عند أبواب هذا النظام أو ذاك ، لأنه هو ـ استثناءا من حقائق التاريخ ـ لا يصح أن يطالبه شعبه بالحرية أو الكرامة أو العدالة أو أن يسأل الزعيم وحرمه وأشقاءه وأبناءه وأعمامه وأخواله عن المليارات التي ينهبونها من دم الشعوب والثروات التي يكدسونها والشركات الضخمة التي يحتكرونها من أين لهم هذا .
القذافي الذي حول ليبيا إلى مزرعة خاصة له هو وأبناؤه وأقاربه لا صلة لها بمعنى الدولة أو الحكومة أو أي شيء يمت إلى العصر بصلة ، لدرجة أن يتصدر ابنه المشهد السياسي ويتكلم ويخاطب العالم والداخل الليبي ويرسل مبعوثين ويوسط وسطاء ويدير كل شيء ، دون أن يكون له أي صفة فيما تعارف عليه الناس في العالم بمعنى الحكومة أو الدستور ، فقط صفته الدستورية والقانونية الوحيدة أنه "ابن القذافي" ، والطريف أن "ابن القذافي" في خطبه ورسائله إلى الغرب من أجل أن يرضوا عن أبيه مرة أخرى ويتركوه في "المزرعة" قال أنه أعد دستورا جديدا يقلص من سلطات أبيه ، بينما أبوه يقول أنه بلا سلطات أصلا ، لأنه زعيم وقائد ، أما من يحكم في ليبيا فهي الجماهير !! ، ولو كان هذا الكلام في مسرحية هزلية لمحمد صبحي أو محمد نجم لقلنا أن الفجاجة فيها زائدة عن الحد ، ولكن مع الأسف هذا ما يحدث فعلا في ليبيا القذافي ، مزيج الجنون والاستهبال والخرف والإجرام الدموي بلا حدود .
والنظام السوري الذي ترأسه "أسرة الأسد" ، بشار وشقيقه وعمه وأصهاره وأخواله وبقية "العائلة" ، النظام الذي تم تعديل الدستور فيه في ساعة واحدة ليكون على مقاس "ابن" الزعيم ، ليتسنى له تسلم السلطة من والده ، طبعا باختيار الشعب والحزب بالإجماع في انتخابات حرة نزيهة!! ، هذا النظام صاحب التاريخ الدموي الذي سحق عظام أكثر من عشرين ألف مواطن سوري في مدينة "حماة" في مطلع الثمانينات لأنها تمردت على ديكتاتوريته ، يرى نفسه الآن مقدسا ومحرما ، لا يجوز أن ينقده أحد ، أو أن تمتد ريح الثورة العربية إلى "عزبته" هو الآخر ، وتحرك بقوات الأمن والبلطجية من أجل إخماد ثورة ملايين السوريين الذين نزلوا إلى الشوارع في دمشق ودرعا وبانياس واللاذقية وحمص وغيرها من المدن السورية الأسيرة للديكتاتورية والفساد ، ولما لم يكف البلطجية والأمن قام باستدعاء الجيش والمدرعات لكي يقتحم الشوارع ويسحق شعبه ، بوصفهم عبيدا في مزرعته وهو حر فيهم ، يحرقهم بجاز أو يدفنهم تحت جنازير الدبابات ، فهو الزعيم المناضل رمز المقاومة والصمود ، فهل يجوز لشعبه أن يطالبه بالديمقراطية أو الكرامة أو الحرية أو العدالة أو حق الصراخ ، وستجد كثيرا من الأصوات صامتة الآن ، دون أن تدافع عن دماء الشعب السوري ولو بكلمة ، فإذا فتح الباب أمام آخرين في الخارج من أجل التدخل انتفخت أوداج نفس هؤلاء الشياطين الخرس وقتها بدعوى عدم التدخل ، وأن العرب أدرى بشعوبهم ، شعبه وهو حر فيه !!.
والمثير للاشمئزاز أن تجد من بعض الإعلاميين أو الكتاب ـ الذين يتهددهم انقطاع المدد بسقوط تلك النظم القمعية ـ من يقول أن هذا النظام تحديدا ـ ودون غيره ـ مستهدف بتلك الثورة من قبل قوى أجنبية ، وكأن رياح الثورة العربية التي يشاهدها العالم كله على مدار خمسة أشهر لم تعرف إلا في سوريا ، كأن العالم كله والشرق والغرب والصهاينة والأمريكان والطليان اخترعوا الثورة العربية من أجل الأخ بشار ، كأن بركان الثورة لم يتفجر ـ قبلها ـ في مصر وتونس ولييبا واليمن وعمان والجزائر والمغرب وفي طريقها لتجرف آخرين ، حتى تتحرر بلاد العرب من ربق ديكتاتوريات ما بعد الاستعمار ، وحتى تتنسم شعوبه نسيم الحرية بعد طول قهر وقمع وإذلال وسجون ومشانق ومنافي وقطع الألسن .