من عجائب هذا الزمان انتشار ظاهرة ثورات النُّخَب ، ونقصد بها : أن تقوم
حركات مسلحة ترفع شعارات التحرير ، ورفعِ الظلم ، والعدل ، والمساواة ، يقودها
نُخَب تتحرك وفق توجيهات الداعمين والممولين والمنظِّرين وخططهم . ولن نجد
مثالاً أفضل من مثال الاضطراب الحاصل في السودان ، الذي يدفع لحالة من
التشرذم أو الفوضى « الخلاقة » ، التي تمهِّد لمرحلة الاحتلال المباشر أو غير
المباشر ، وذلك عن طريق سلسلة من الاتفاقيات التي أفرزت - وتفرز - كيانات
معادية للمركز ، مستقلة اسمياً وتابعة فعلياً ، للجهات الممولة التي لا تخرج عن
جهات ثلاث : أولها : العالم الغربي بدوله الكبيرة ، وثانيها : الكنيسة وهو واجهة
مكملة للأولى ، والثالثة : هي دولة اليهود التي بذلت جهوداً كبيرة لسنوات طويلة
لتكوين حزام إفريقي معادٍ للعرب .
وكانت البداية أيام الاستعمار الإنجليزي عندما منع التواصل بين جنوب
السودان الذي يغلب عليه الوثنيون وبقية السودان المسلم ، وعملت الكنيسة بكل جد
من أجل تكوين نواة نصرانية تولّت قيادة الجنوبيين ، والحديث باسمهم بحيث
اقتصر التعامل على هذه الفئة ، وهمّش كل جنوبي لا يعلن تبعيته للنصرانية .
ويكفي لهذا اسم جوزيف و جون و كاربينو و فيليب .
وتوالت أعمال التمرُّد في الجنوب ، المعتمدة على دعم مباشر من القوى
الخارجية التي أمَّنت لهذه الحركات التدريب والتسليح . وأكثر من ذلك القواعد
الخلفية الآمنة في دول الجوار ، التي تشمل : أريتريا ، و أثيوبيا ، و كينيا ،
و أوغندا ، مما أشعل المنطقة ؛ حيث قام السودان بالرد عن طريق دعم حركات
تمرد وانقلابات أدَّت إلى سقوط النظام في أثيوبيا وانفصال أريتريا ، ودخلت
منطقة البحيرات في دوامة من الصراعات الدامية . وكان من اللافت للنظر أن
الجنوبيين يفرون من الحرب إلى الشمال ! إنها مفارقة تدل على أن التمرد قضية
نخبة وليست قضية شعب مضطهد .
ومع بداية حكم البشير المتحالف مع جماعة الترابي ؛ اتخذ الصراع منحى
جديداً بالاعتماد على متطوعين إسلاميين من مختلف أنحاء السودان ، ونجح
الأسلوب الجديد في الحدِّ من التمرد وحصره في منطقة ضيقة على حدود أوغندا ،
وسرعان ما وصل داعية السلام الرئيس الأمريكي ( كارتر ) المعروف بنشاطه
الديني ، وكان تدخله عاملاً أساسياً في التقاط التمرد لأنفاسه ، والحصول على مزيد
من الدعم والتمدُّد من جديد ، وبخاصة بعد الخلاف المشهور بين البشير والترابي
الذي أسهم في تحوُّل شيخ المجاهدين في الجنوب والوزير في الحكومة المحلية في
دارفور ؛ الشيخ الطبيب خليل إبراهيم إلى داعية إلى الحرب ضد حكومة السودان ،
بدعوى تهميش منطقته ، وعدم حصولها على نصيب مناسب من المناصب القيادية ،
وطالب أيضاً بتدوير منصب الرئاسة بين الأقاليم .
إنها مطالب لمعارضة سياسية إصلاحية ، ولكنها لا تبرر الحرب الدموية التي
تخوضها الحركات المسلحة في دارفور ، فلم نسمع أن أحداً من ويلز أو أسكتلندا قد
تولى رئاسة وزراء بريطانيا ، ولكنها أعذار لإشعال الوضع ، ومن ثمَّ تكون مشكلة
لاجئين من دارفور ، يكونون وقوداً لحربٍ أخذتهم على حين غرة ؛ فإعلان التمرد
تمَّ في باريس ، وانطلق من تشاد ، ولذا انطلقت المعارضة التشادية من الحدود
السودانية إلى العاصمة نجامينا ، وحاصرت الرئيس ( إدريس ديبي ) في قصره ؛
مما أسهم في قيام ابن قبيلته وقريبه خليل إبراهيم بتكرار المشهد ، ولكن في أم
درمان .
إنها دائرة مغلقة من الأفعال وردود الأفعال التي تفتح المجال للتدخلات
الأجنبية في المنطقة . ولذا ؛ لا نستغرب أن الذين يحاصرون غزة يتباكون على
المأساة الإنسانية في دارفور ، ويتسابقون لحماية المدنيين بإرسال قوات أُممية -
إفريقية مشتركة لدارفور ، وقوات أوروبية إلى تشاد لحماية النظام من أية محاولة
لإسقاطه .
إنها خطة لفصل دارفور والاستيلاء على ثرواتها النفطية والمعدنية . أما
الشعب المطحون ؛ فله أن يحلم بالسلام والديمقراطية والرفاهية ، كما حلم به شعبا
أفغانستان و العراق ، ولنتذكر أن أول الشعوب الذين ثاروا بسبب غلاء المواد
الغذائية الحالي هم شعب هاييتي الجائع ، الذي ينعم بالإدارة الدولية بعد إسقاط
الدكتاتورية .
والمؤسف أن الذي يقاتل إخوانه في الدين بدعوى العدل والمساواة ؛ يقدِّم بلاده
إلى الأعداء على طبق من نحاس ويورانيوم وبحر من بترول ! ومن المؤسف أن
النُّخَب الحالية بين مستحوذ على السلطة والمال ، وبين ساعٍ إلى الاستحواذ عليها !
وفي الحالين الضحية واحدة ؛ إنهم مجموع الأمة .. أيتها النُّخب ! رفقاً بنا ،
وصارحونا : ماذا تريدون ؟