أورد ابن خلكان في وفيات الأعيان والمقري التلمساني في نفح الطيب أنه لما اقترب جيش لُذريق من الجيش الإسلامي، قام طارق بن زياد في أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثَّ المسلمين على الجهاد ورغَّبَهم فيه، ثم قال: «أيها الناس؛ أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله! إلاَّ الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضْيَعُ من الأيتام في مآدب اللئام، وقد استقبلتُم عدوَّكم بجيشه وأسلحته، وأقواتُه موفورة، وأنتم لا وَزَرَ[2] لكم غير سيوفكم، ولا أقوات لكم إلاَّ ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم، وإن امتدَّت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تُنجزوا لكم أمرًا، ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوبُ من رعبها منكم الجراءةَ عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقته إليكم مدينَتُه المحصَّنة، وإنَّ انتهاز الفرصة فيه لممكن لكم إن سمحتم بأنفسكم للموت. وإني لم أُحَذِّركم أمرًا أنا عنه بنَجْوَة[3]، ولا حملتُكم على خُطَّة أرخصُ متاعٍ فيها النفوسُ إلاَّ وأنا أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً؛ استمتعتم بالأرفه الألذ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي[4]، فيما حَظُّكم فيه أوفر من حَظِّي، وقد بلغكم ما أنشأتْ هذه الجزيرةُ من الحورِ الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدُّرِّ والمَرْجَان، والحُلَل المنسوجة بالعِقْيَان[5]، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عُرْبانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحِكم للطِّعَان، واستماحِكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حَظُّه معكم ثوابَ الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ويكون مغنمها خالصًا لكم من دونه ومن دون المسلمين سواكم، والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذِكْرًا في الدارين. واعلموا أنِّي أول مجيب إلى ما دعوتُكم إليه، وأنِّي عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية قومه لُذَرِيق فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي، فإنْ هلكتُ بعده فقد كَفَيْتُكم أمره، ولن يُعوزكم بطل عاقل تسندون أمركم إليه، وإن هلكتُ قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمَّ من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يُخْذلون»[6]. ولنا وقفات مع هذه الخطبة
1- لم يتعرَّض المؤرخون لتاريخ الفتح الأندلسي -سواء من المتقدمين أو المتأخرين- إلى هذه الخطبة، وهذا يُشير إلى عدم شيوعها، وعدم معرفة المؤرِّخين لها؛ وهو أمر يُقَلِّل أو يمحو الثقة بواقعيتها.
2- لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقَّع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
3- ذكر في الخطبة: «وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك من الأبطال عربانًا». والذي انتخبهم القائد موسى بن نصير والي إفريقية وليس الوليد.
4- كان المتوقَّع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن وأحاديث الرسول الأمين ، أو وصايا وأحداثٍ ومعانٍ إسلامية تُناسب المقام كالمعهود.
5- إن طارقًا -وأكثر الجيش- من الأمازيغ البربر؛ مما يجعل من المناسب أن يخاطبهم بلغتهم؛ إذ ليس من المتوقَّع أن تكون لغتهم العربية قد وصلت إلى مستوًى عالٍ.
مسألة حرق السفن
قبل الانتقال إلى ما بعد وادي بَرْبَاط، لا بدَّ لنا من وقفةٍ أخرى؛ أمام قضية اشتهرت وذاع صيتها كثيرًا في التاريخ الإسلامي بصفةٍ عامَّةٍ، والتاريخ الأوربي بصفةٍ خاصةٍ، وهي قضية حرق طارق بن زياد للسفن التي عَبَر بها إلى بلاد الأندلس قبل موقعة وادي بَرْبَاط مباشرة.
فما حقيقة ما يُقال من أن طارق بن زياد أحرق كل السفن التي عبر عليها؟ وذلك حتى يُحَمِّس الجيش على القتال، وقد قال لهم: البحر من ورائكم والعدوُّ من أمامكم، فليس لكم نجاة إلاَّ في السيوف.
في حقيقة الأمر هناك من المؤرخين مَنْ يُؤَكِّد صحَّة هذه الرواية، ومنهم مَنْ يُؤَكِّد بطلانها، ونحن مع مَنْ يرى أنها من الروايات الباطلة؛ وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: أن هذه الرواية ليس لها سند صحيح في التاريخ الإسلامي؛ فعِلْمُ الرجال وعِلْمُ الجرح والتعديل الذي تميَّز بهما المسلمون عن غيرهم يُحيلانا إلى أن الرواية الصحيحة لا بُدَّ من أن تكون عن طريق أناس موثوق بهم، وهذه الرواية لم تَرِدْ قطُّ في روايات المسلمين الموثوق بتأريخهم، وإنما أتت إلينا من خلال المصادر والروايات الأوربية التي كتبت عن معركة وادي بَرْبَاط.
ثانيًا: أنه لو حدث وأحرق طارق هذه السفن بالفعل لتطلَّب ذلك ردَّ فعل من قِبَل موسى بن نصير أو الوليد بن عبد الملك استفسارًا عن هذه الواقعة، أو حوارًا بين موسى بن نصير وطارق بن زياد حول هذه القضية، أو تعليقًا من علماء المسلمين عن جواز هذا الفعل من عدمه، وكل المصادر التاريخية التي أوردت هذه الرواية وغيرها لم تذكر على الإطلاق أي ردِّ فعل من هذا القبيل؛ مما يُعطي شكًّا كبيرًا في حدوث مثل هذا الإحراق.
ثالثًا: أن المصادر الأوربية قد أشاعت هذا الأمر؛ لأن الأوربيين لم يستطيعوا أن يُفَسِّروا كيف انتصر اثنا عشر ألفًا من المسلمين الرجَّالة على مائة ألف فارس من القوط النصارى في بلادهم وفي عقر دارهم، وفي أرض عرفوها وألِفوها؟! ففي بحثهم عن تفسيرٍ مقنعٍ لهذا الانتصار الغريب قالوا: إن طارق بن زياد قام بإحراق السفن لكي يضع المسلمين أمام أحد أمرين: الغرق في البحر من ورائهم، أو الهلاك المحدق من قِبَل النصارى من أمامهم، وكلا الأمرين موت محقَّقٌ؛ ومن ثَمَّ فالحلُّ الوحيد لهذه المعادلة الصعبة هو الاستماتة في القتال؛ للهروب من الموت المحيط بهم من كل جانب؛ فكانت النتيجة الطبيعية الانتصار، ولو كانوا يملكون العودة لكانوا قد ركبوا سفنهم وانسحبوا عائدين إلى بلادهم.
وهكذا فسَّر الأوربيون النصارى السرَّ الأعظم -في زعمهم- في انتصار المسلمين في وادي بَرْبَاط، وهم معذورون في ذلك؛ إذ لم يفقهوا القاعدة الإسلامية المشهورة والمسجَّلة في كتاب الله U والتي تقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
فالناظر في صفحات التاريخ الإسلامي يجد أن الأصل هو أن ينتصر المسلمون وهم قلَّة على أعدائهم الكثيرين؛ بل ومن العجيب أنه إذا زاد المسلمون على أعدائهم في العدد، واغترُّوا بتلك الزيادة أن تكون النتيجة هي الهزيمة للمسلمين، وهذا هو ما حدث يوم حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
ومن هنا فقد حاول الأوربيون -عن جهلٍ منهم وسوء طوية- أن يضعوا هذا التفسير وتلك الحُجَّة الواهية؛ حتى يُثبِتُوا أن النصارى لم يُهزَمُوا في ظروفٍ متكافئةٍ، وأن المسلمين لم ينتصروا إلاَّ لظروف خاصة جدًّا.
رابعًا: متى كان المسلمون يحتاجون إلى مثل تلك الحماسة التي تُحرق فيها سفنُهم؟! وماذا كانوا يفعلون في مثل هذه المواقف -وهي كثيرة- والتي لم يكن هناك سفن ولا بحر؟! فالمسلمون إنما جاءوا إلى هذه البلاد راغبين في الجهاد، طالبين الموت في سبيل الله؛ ومن ثَمَّ فلا حاجة لهم بقائد يُحَمِّسُهم بحرق سفنهم، وإنْ كان هذا يُعَدُّ جائزًا في حقِّ غيرهم.
خامسًا: ليس من المعقول أن قائدًا محنَّكًا مثل طارق بن زياد -رحمه الله- يُقدِمُ على إحراق سفنه، وقطع خطِّ الرجعة على جيشه، فماذا لو انهزم المسلمون في هذه المعركة، وهو أمر وارد وطبيعي جدًّا؟ ألم يكن من الممكن أن تحدث الكرَّة على المسلمين؛ خاصة وهم يعلمون قول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15- 16].
فهناك إذًا احتمال أن ينسحب المسلمون من ميدان المعركة؛ وذلك إمَّا متحرِّفين لقتال جديد، وإمَّا تحيُّزًا إلى فئة المسلمين، وقد كانت فئة المسلمين في المغرب في الشمال الإفريقي؛ فكيف إذًا يقطع طارق بن زياد على نفسه التحرُّف والاستعداد إلى قتال جديد، أو يقطع على نفسه طريق الانحياز إلى فئة المسلمين؟! ومن هنا فإنَّ مسألة حرق السفن هذه تُعَدُّ تجاوزًا شرعيًّا كبيرًا، لا يُقدِم عليه مثل طارق بن زياد –رحمه الله، وما كان علماء المسلمين وحُكَّامهم ليقفوا مكتوفي الأيدي حيال هذا الفعل إن كان قد حدث.
سادسًا: وهو الأخير في الردِّ على هذه الرواية أن طارق بن زياد كان لا يملك كل السفن التي كانت تحت يديه؛ فبعضها -كما ذكرتْ بعضُ الروايات[7]- أن يُليان صاحب سَبْتَة قد أعطاها له بأجرةٍ ليعبر عليها ثم يُعيدها إليه بعد ذلك؛ فيعبر بها يُليان إلى الأندلس -كما أوضحنا سابقًا- ومن ثَمَّ فلم يكن من حقِّ طارق بن زياد إحراق هذه السفن.
لكل هذه الأمور نقول: إن قصة حرق السفن هذه قصة مخْتَلَقة، وما أُشيعت إلاَّ لتُهَوِّن من فتح الأندلس وانتصار المسلمين.
طارق بن زياد يتوغل في بلاد الأندلس
بعد النصر الكبير الذي أحرزه المسلمون في وادي بَرْبَاط، تدفَّق الناس من المغرب والشمال الإفريقي إلى جيش طارق[8]، فتضخَّم جيش طارق إلى حدٍّ يصعب تقديره[9]، فوجد طارق بن زياد أن هذا الوقت هو أفضل الفرص لاستكمال الفتح وإمكان تحقيقه بأقل الخسائر؛ وذلك لِمَا كان يراه من الأسباب الآتية:
1- النتيجة الحتمية لانتصار اثني عشر ألفًا على مائة ألف؛ وهي الروح المعنوية العالية لدى جيش المسلمين.
2- ازدياد عدد الجيش المسلم بما انضمَّ إليه من المتطوعين في المغرب والشمال الإفريقي.
3- ما أصاب القوط النصارى من فقدان الثقة، التي تجسَّدت في انعدام الروح المعنوية.
4- وإضافة إلى انعدام الروح المعنوية فقد قُتِل من القوط النصارى وتفرَّق منهم الكثير؛ فأصبحت قوتهم من الضعف والهوان بمكانٍ.
5- وجد طارق بن زياد أن انتهاء لُذَرِيق المستبدِّ -قُتِلَ أو فرَّ هاربًا- عن الناس والتأثير فيهم فرصة كبيرة لأن يُعلِّم الناسَ دين الله ؛ ومن ثَمَّ فهم أقرب إلى قبوله والدخول فيه.
6- لم يضمن طارق بن زياد أن يظلَّ يُليان صاحب سَبْتَة على عهده معه مستقبلاً؛ ولذلك فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة ويدخل بلاد الأندلس مستكملاً الفتح.
لهذه الأسباب أخذ طارق بن زياد جيشه بعد انتهاء المعركة مباشرة واتَّجه شمالاً؛ لفتح بقيَّة بلاد الأندلس، قاصدًا طُلَيْطلَة عاصمة القوط، التي كانت تُحضِّر لاختيار قائد جديد بعد اختفاء لُذريق، وفيها جرى التنافس بين أتباع لذريق وبين أتباع غِيطْشة. [1] عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ص59، 61.
[2] الوَزَر: المَلْجَأ. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الواو 2/845، وابن منظور: لسان العرب، مادة وزر 5/282، والمعجم الوسيط 2/1028.
[3] النَّجْوة: المكان المرتفع الذي تَظنُّ أنه نجاؤك. ويقال: هو بنجوة من هذا الأمر؛ بعيد عنه بريء سالم. 2/905.
[4] أي: لا تروا لأنفسكم فضلاً عليَّ، من رغب بنفسه عن فلان: رأى لنفسه عليه فضلاً. ابن منظور: لسان العرب، مادة رغب 1/422، والمعجم الوسيط 1/356.
[5] العِقْيان قيل: هو الذهب الخالص. وقيل: هو ما ينبُتُ منه نباتًا. ابن منظور: لسان العرب، مادة عقا 15/79.