حظيت موجة الثورات في البلاد العربية بكثير من الاهتمام، وتزاحمت الأقلام القريبة والبعيدة في الكتابة حولها. هذا يعالج من ناحية الأسباب والدوافع، وآخر ينظر من زاوية طرق الوقاية. ولعل أولى الناس بدراسة هذه الظاهرة، والذين يعنيهم الأمر قبل غيرهم، هم الدعاة؛ لأنهم الذين يحملون الهموم الحقيقية للأمة الإسلامية، ويهمّهم ما يستجد في ساحتها، ولا سيما وأن هذه الثورات تحدث في العالم العربي، الذي هو قلب العالم الإسلامي، إضافة إلى أنهم أصحاب مشروع تغييري لا يمكنه أن يكون بمنأى عن التأثر بهذه الأحداث الجسام؛ لذا كان عليهم أن يتصيّدوا الفوائد، ويقيّدوا الشوارد في هذا الخصوص. وهذه وقفات أكتبها للمساهمة في إثراء الموضوع وتسليط الضوء على بعض الدروس المستفادة على هامش الثورات، وما أثارته من تساؤلات، وما نبّهت إليه من معانٍ. وليس هذا من باب استنباط الأحكام من الأحداث، والحكم بالصحة أو البطلان بناءً على نجاح الثورة أو إخفاقها، و على حسب قول القائل:
والناسُ مَنْ يلقَ خيرًا قائلون له * ما يشتهي، ولِأمّ المخطئ الهبلُ
وإنما من باب تأكيد الأحداث للأحكام والتذكير بها ولفت النظر إليها، كما في قول حذيفة -رضي الله عنه- في حديث أخبار المستقبل: وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه. [مسلم: رقم 7445]، كما أن الوقائع تعطي فرصة مناسبة لمراجعة الاجتهادات السابقة وتقييمها، بناء على مبدأ: لو استقبلت من أمري ما استدبرت...... الخ، كما أنه لا ينكر دور الأحداث في استحداث الأحكام، كما يدل عليه قول عمر بن عبد العزيز- رحمه الله -: تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور[أنظر: تاريخ قضاة الأندلس:1/107]. فإلى الاستفادات على هامش الثورات: 1- يبدو أن هذه الثورات سوف تساهم بشكل أو بآخر في إنهاء الجدل حول مناهج التغيير والإصلاح، وكأنها تدلي بصوتها لصالح المنهج السلمي الشعبي. فقد كانت الصحوة المعاصرة تصر على التغيير، لكن مع ارتباك شديد وعدم وضوح الرؤية في الكيفية والوسيلة، وكان كثيرون- وتقليدًا للأحزاب السياسية الأخرى- يحبذون تغييرًا تتبناه نخبة، تتحمل مسؤولياته وتتلقّى ضرباته، بينما الشعوب خارج نطاق (التغطية)، الأمر الذي مكّن المناوئين من إجهاضه والقضاء عليه في مهده، ويظهر ذلك بمقارنة بسيطة بين محاولة التغيير عن طريق اغتيال السادات وآثارها السلبية المدمرة، وبين التغيير الذي حصل قريبًا بالثورة الشعبية السلمية في عمومها، وهذا يؤكد أن إقناع الشعب بحمل الرسالة، هو الوسيلة الصحيحة والسلسة للتغيير.. 2- تدل هذه الثورات على ضرورة الاهتمام بالدعوة، وأنها هي العمل الأساسي الذي ينبغي التركيز عليه وتوظيف كل الجهود لخدمته؛ لأنها الوسيلة الوحيدة لتحقيق القناعة الشعبية؛ فهاهم بعض الشباب ينتحرون احتجاجًا على البطالة والأوضاع المعيشية السيئة، وها هي الشعوب تثور طلبًا للخبز أو بحثًا عن(الكرامة)، ولكنها لم تثر بعد غضبًا لربها: طلبًا لشريعته وتحقيقًا لعبوديته، وهذا يؤكد حاجة الشعوب إلى (النضوج) الإسلامي، ويعطي الدعوة مركزها الحقيقي، ويرفع من أسهمها في اهتمامات الدعاة وتفكيرهم أمام تراجع قيمة المناطحات السياسية والمواجهات العسكرية. 3- يتأكد من خلال مجريات الأحداث، أن أقوى سلاح بيد الشعوب- والدعاة منهم- هو التعبير السلمي، وأن الخروج المسلح محفوف بالمخاطر، وأن فرص إخراجه من (الحظر السلفي) شبه معدومة؛ فها هي ذي الثورة الليبية تتعثر وتكثر ضحاياها يومًا بعد يوم، وأصبح حسم المعركة تحت تلاعب حلف (الناتو). 4- من المشكلات التي تعاني منها الصحوة، ما يمكن تسميته بالنظرة الأحادية لكثير من المسائل والغفلة عن الأجزاء البسيطة التي تتكون منها، والعلل المتعددة التي تؤثر في الحكم عليها، ومن ثم تأخذ تلك المسائل، في أذهان الكثيرين، حكمًا واحدًا لا يتغير، وإذا سمعوا ما يخالف ذلك، اتهموا القائل إما بالتناقض و التلون، و إما بالتلاعب والعمالة، وأفضلهم من يسكت متحيرًا أو متشكّكًا. كثيرون لم يستوعبوا موقف علماء الدعوة السلفية من المظاهرات عمومًا، والذي كان يتمثل في المنع المجمل، فقد فوجئوا بتأييد بعضهم أو معظمهم للثورة في تونس ومصر وليبيا، ثم دهشوا لمنعهم الاحتجاجات و المظاهرات في كل من السعودية والبحرين، لاعتبارات صحيحة وملاحظ دقيقة. ومن المسائل التي جنت عليها النظرة الأحادية مسألة الولاء والبراء ومسألة الإعانة والاستعانة بالكفار؛ فقد وضعت كلها في خانة الكفر والردة، وأهملت تفاصيلها لدى كثير من المتحمسين، ولكن موسم الثورات هيّأ لنا فرصة الاطلاع على ممارسات متعلقة بهذه المسائل، تدلنا على وجود فروق قوية بين أمور متشابهة في الظاهر؛ فها نحن نؤيد، أو نغضّ الطرف عن هجوم (الناتو) على القذافي وكتائبه، ولم يتجاوب أحد مع دعوة إعلان الجهاد، ولم نعط اعتبارًا لتوصيف القذافي للحالة: بأنها حرب صليبية، ولم نلتفت إلى موافقة (بوتين) السريعة على هذا التكييف الفقهي، ولاذ بالصمت أتباع الجبهة العالمية لجهاد اليهود والصلبيين، بينما كنّا استنفرنا كلّ طاقتنا، وأعلنا الجهاد ضد الغزو الصليبي على العراق، ورددنا بقوة على كل من أثار تساؤلاً أو قدّم استفسارًا أو دعا إلى تريّث. ومن جانب آخر كانت مسألة الاستعانة بالكفّار في حرب الخليج الثانية لتحرير الكويت وصدّ شر صدام وأعوانه مثار سخط واستنكار، بل وسخرية من العلماء الذين أفتوا بذلك، بينما نفرح اليوم لتدخُّل (الناتو)، ولو في الظاهر، لصالح الثوار الليبيين، ونمرّر كل صور التعاون بين الطرفين ضمن (الولاء) الجائز والاستعانة المباحة التي لم تكن من قبل شيئًا مذكورًا إلاّ في فقه (علماء السلطان)، وانفتحنا أكثر على التفسير (المصلحي) للمواقف بدلاً من التفسير (الديني) لكل تصرّف، واعترفنا بدور الدوافع والنيات في الحكم على الأقوال والتصرفات. ونحن، في الصومال، قد عانينا كثيرًا من أصحاب النظرة الأحادية في داخل البلاد وخارجها؛ فضيعوا علينا فرصة الاستفادة من الأوضاع الجديدة التي تمثلت في: الانسحاب الأثيوبي وتشكيل حكومة يتحكم فيها الإسلاميون، مع وجود قوات إفريقية، كان بالإمكان ضبطها تحت لافتة (حفظ السلام) التي ترفعها، مع السعي للاستغناء عنها في مدة وجيزة، لكن النظرة الأحادية زعمت: أنه لم يتغير شيء؛ فليستمر الجهاد ضد الإسلاميين الذين ارتدوا بالولاء للكفار، وضدّ القوات الإفريقية وضدّ الأمم المتحدة التي هي في الحقيقة الأمم الملحدة، فكانت النتيجة المأساة التي لا مثيل لها في عالم اليوم،(راجع مقالات: هل الضرر يُزال أم يُزاد، للكاتب، في موقع: الصومال اليوم). لعل الفقه الذي تستحدثه الثورات، يفتح آفاقًا جديدة للتعامل مع مشاكل مستعصية في عالمنا الإسلامي، ولعل من المبشرات أن الغلوّ وأصحابه اضطروا إلى الاختفاء من مسرح الأحداث، وتركوا الشعوب تتولّى أمورها بنفسها، وكأنهم علموا واستفادوا من التجارب: أن وجودهم كان ثقلاً، وأن ظهورهم كان مكلفًا، وهذا أمر يشكرون عليه، وإن جاء متأخرًا، وكأني بالشعوب الإسلامية التي ابتليت بهم تقول: أصبتم فأتمّوا؛ فقد كان تصدركم جزءًا من المشكلة: يجلب الأعداء، ويعقد الأمور، ويسوّغ العدوان الذي طال كل شيء، وكأن هذه الشعوب تخاطب أولئك كما خاطب المتنبي الحمّى بقوله:
وزائرتي كأنّ بها حياءً * فليس تزورُ إلاّ في الظلامِ
بذلتُ لها المطارفَ والحشايا *فعافتْها وباتتْ في عظامي
يضيقُ الجلدُ عن نفسي وعنها * فتوسعُه بأنواع السقامِ
حتى قال:
أبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ *فكيف وصلتِ أنتِ من الزحامِ
جرحتِ مجرّحًا لم يبقَ فيه * مكانٌ للسيوفِ وللسّهامِ