الدِّين منارة تهدي، وليس قيدا يعوق. وأن الشريعة -كما قال ابن القيم- عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل[1]!ومن ثَمَّ تكون الآفة في أفهام المسلمين للإسلام وشريعته، وليست في الإسلام نفسه. ولهذا كان من الواجب الدعوة إلى حسن فَهم الإسلام وأحكامه، لا إلى تنحيته من الطريق، لتمضي السياسة حرة، لا تتقيد إلا بالمصلحة، كما يراها من يراها من الناس.
إن بعض الناس ينظر إلى الإسلام نظرة مثالية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فهو يتخيل إسلاما يحلق بأصحابه في أجواء مجنحة، ولا ينزل إلى أرض الواقع. وهذا غير صحيح، فالإسلام -مع مثاليته الرفيعة- يعالج الواقع كما هو، بخيره وشره، وحلوه ومره، ويجيز استعمال المكر والدهاء مع أهل المكر والدهاء، ويقول: " الحرب خدعة"[2]، ويرى أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه يجوز في وقت الضيق والاضطرار، ما لا يجوز في وقت السَّعَة والاختيار. ومن قواعده: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. وكلها من النظرة الواقعية التي هي من خصائص الإسلام وشريعته[3]. أما (النظرة المقاصدية) للدين وللشريعة، فنحن في مقدمة الداعين إليها، والأحفياء بها، ولكن الذي نحذر منه أبدا: أن تتخذ النظرة المقاصدية واعتبار المصالح ذريعة لتعطيل النصوص من الكتاب والسنة، وخصوصا إذا كانت النصوص مُحكمة قاطعة؛ فهذه لا يملك المؤمن أمامها إلا أن يقول: (سمعنا وأطعنا). والقرآن صريح كل الصراحة في ذلك، وأن هذا الإذعان هو مقتضى الإيمان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
رد: الشريعة إذا أحسن فهمها ليست قيدا بل منارة تهدي
الموازنة بين النصوص والمقاصد: والذي ندعو إليه دائما هو: الموازنة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، أو بعبارة أخرى: النظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية[4]، ولا يجوز أن نضرب إحداهما بالأخرى، فهي تتكامل ولا تتناقض. وقد ذكرنا في كتابنا عن مقاصد الشريعة: أن هناك مدارس ثلاثا في هذه القضية: الأولى: المدرسة الحرفية: أو من سميتهم (الظاهرية الجدد) الذين يركزون على النص الجزئي، ويفهمونه فَهما حرفيا، ولا يكادون يفهمون أي وزن للمقصد الكلي. وبهذا يصطدمون بالواقع، ويضيقون على الناس فيما وسع الله فيه، ويعسرون ما يسر الله. والثانية: المدرسة المقابلة لتلك، وهي التي تُغفل النصوص تماما، ولا تعيرها أي التفات، بدعوى أنها تنظر إلى المقاصد، وتهتم بالفحوى. وهم الذين سميتهم (المدرسة المعطلة). فقد كان هناك قديما من سماهم علماؤنا (المعطلة) ولكن كان تعطيلهم في مجال العقيدة، وهؤلاء الجدد تعطيلهم في مجال الشريعة. وهؤلاء الذين يريدون أن يلغوا تحريم الربا في مجال الاقتصاد، ويلغوا الحدود في مجال العقوبات، ويلغوا الطلاق وتعدد الزوجات في مجال الأسرة، ويلغوا الاحتشام (الحجاب) في مجال المرأة، ويلغوا الجهاد في مجال الدفاع عن الدعوة والأمة ... إلخ. والثالثة: هي التي تنظر إلى النص الجزئي والمقصد الكلي نظرة متوازنة، وهي المدرسة الوسطية، التي ينبغي أن نعتمد نظرتها إلى الشريعة وإلى الواقع. وهي التي يمكن أن يرتضيها جمهور المسلمين، والمدرستان الأخريان لا تحظيان عمليا بالقَبول. ناهيك بأنهما -من الناحية العلمية المحض- غير مُسلَّمتين.
رد: الشريعة إذا أحسن فهمها ليست قيدا بل منارة تهدي
الادعاء على عمر رضي الله عنه أنه عطل النصوص باسم المصالح: والعلمانيون يتبنون المدرسة الثانية -مدرسة التعطيل للنصوص- ويتكئون على مقولات تزعم أن عمر بن الخطاب عطل النصوص القرآنية باسم المصالح. وإننا نعيذ عمر أن يفعل ذلك. وقد كان وقافا عبد كتاب الله. وقد ردت عليه امرأة في مسألة مهور النساء، فانصاع لقولها، وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر! وقد كانت رعية عمر من الصحابة الكرام، من المهاجرين والأنصار، الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لا يقبلون بحال: أن يُعطَّل كتاب الله، وأن يبدَّل شرع الله، وهم ساكنون. لو افترضنا أن عمر فعل ذلك -وما هو بفاعل- ما قَبِل هؤلاء أبدًا، وفيهم عرق ينبِض. ومما نأسف له: أن مفكرا معتدلا مثل د. عابد الجابري، سار في هذا الدرب، وقال ما قاله دعاة (العلمانية) التي ينكرها ولا يقرها. فقد ذكر في كتابه (الدِّين والدولة وتطبيق الشريعة): أن الصحابة كثيرا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص، ولو كان صريحا قطعيا! إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص[5]. ولقد ذكر د. الجابري بعد ذلك: أن الممارسة الاجتهادية للصحابة كانت تتخذ المصلحة مبدءا ومنطلقا، فإذا تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالات، وجدناهم يعتبرون المصلحة، ويحكمون بما تقتضيه، ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها[6]. وهذه دعوى خطيرة على الصحابة الذين كانوا يحتكمون إلى النصوص إذا اختلفوا، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وإذا ووجه أحدهم بالنص، لم يسعه إلا أن ينقاد له بلا تلكُّؤ ولا تردد. ولقد ذكر الدكتور الجابري من أدلة ذلك: ما جرى من أبي بكر وعمر، حول أداء الزكاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. هل تؤدى للدولة أو تترك للأفراد يؤديها كل منهم كما يشاء؟ كان رأي سيدنا أبي بكر أن تؤدى الزكاة إليه، وإلى ولاته وعماله، كما كان الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يفعلوا قاتلهم الخليفة من أجل هذا الحق المعلوم، الذي هو الركن الثالث من أركان الإسلام. وهنا توقف عمر في قتالهم، وقال لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قالوا: لا إله إلا الله؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) فإذا قالوها فقد عصموا من دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه[7]! وهنا نجد المناقشة بين الصحابيين الكبيرين تقوم كلها على الاحتجاج بالنصوص، لا الاستدلال بالمصالح كما يقول الدكتور. رأينا عمر يعتمد على نص الحديث، وينسى القيد الذي فيه (إلا بحقها)، فذكَّره أبو بكر: أن الزكاة حق المال، ثم أكد ذلك بأن الزكاة كالصلاة يقاتل عليها، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [لتوبة:5]. وزاد ذلك تأكيدا بأنه متبع وليس بمبتدع، فما كان في عهد رسول الله، يجب أن يستمر. وما قاله الجابري من أن عمر كان ينظر إلى المسألة من جهة الدِّين وأن أبا بكر كان ينظر إليها من جهة الدولة[8]: قول لا دليل عليه من حياة الرجلين. والزعم بأن الزكاة رمز للولاء السياسي ليس هو الدافع لأبي بكر إلى قتال مانعي الزكاة، كما قاتل المرتدين. بل نظر أبو بكر إلى الزكاة من خلال نصوص القرآن، وسنة الرسول القولية والعملية، فوجد أنها من مسؤولية الدولة أو الخلافة. لهذا قال القرآن: {خُذْ مِن أموَالِهِم صَدقَةً تُطهِّرهُم وتُزَكِّيهِم بهَا} [التوبة:103]، وفي الحديث المتفق عليـه: "تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم"[9]، وجعل القرآن من مصارف الزكاة: مصرف (العاملين عليها). فهي فريضة دينية اجتماعية تشرف عليها الدولة، وتأخذها من أصحابها طوعا، وإلا أخذتها كرها، فإن تمردوا وكانوا ذوي شوكة، قاتلهم الإمام حتى يؤدوها. وبهذا كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين. وكل ما كان يؤدى في عهد رسول الله يجب أن يظل يؤدى، ولو كان عقال بعير. وكل ما ذكره د. الجابري عن عمر، وزعم مع من زعم أنه عطل فيه النص لأجل المصلحة، من مثل: إلغاء سهم (المؤلفة قلوبهم)، وإيقاف تنفيذ (حد السرقة) في عام المجاعة، ومنع -أو كراهية- الزواج من الكتابيات ... إلى آخر الدعاوى المعروفة في هذا الجانب ... كلها لا تثبت على محكِّ النقد العلمي، وهي مبنية على سوء الفَهم لموقف عمر رضي الله عنه. وقد رددنا عليها بالتفصيل، وبالأدلة المحكمة الناصعة في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها)[10]. أكتفي هنا بإيراد مثل واحد من الأمثلة التي ذكروها عن عمر، وادَّعو فيها أنه عطَّل النص من أجل المصلحة. ولعل أشهر الأمثلة التي يردِّدونها باستمرار، هو ما عبَّروا عنه بقولهم: (إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم) وهو منصوص عليه في القرآن. ونود أن نذكر هنا: أن المصلحة الحقيقية لا يمكن أن تتعارض مع نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة. وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين كافة في جميع الأعصار.
رد: الشريعة إذا أحسن فهمها ليست قيدا بل منارة تهدي
لا تناقض بين مصلحة يقينية ونص قطعي: ومما لا نزاع فيه بين أهل العلم عامة: أن المصلحة اليقينية (القطعية) لا يمكن أن تناقض النص القطعي أو يناقضها بحال من الأحوال. وهو ما أكده علماء الأمة قديما وحديثا. وإذا تُوهم هذا التناقض، فلا بد من أحد أمرين: إما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة، مثل مصلحة إباحة الربا لطمأنة الأجانب، أو الخمر لاجتذاب السياحة، أو الزنى للترفيه عن العزاب، أو إيقاف الحدود، مراعاة لأفكار العصر، أو غير ذلك مما يموِّه به مموهون من عبيد الفكر الغربي. وإما أن يكون النص الذي يتحدثون عنه غير قطعي، وهو ما وقع فيه كثير من الباحثين، ولا سيما من غير المتخصصين والمتضلعين في علوم الشريعة وأسرارها، من أساتذة الحقوق والاقتصاد والآداب، فحسبوا بعض النصوص قطعية، وليست كذلك[13].