رد: الدولة الإسلامية دولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية
وأما في أمور الحياة المختلفة: التي تدخل في دائرة المباحات، فعند الاختلاف في شأنها -كما هو شأن البشر في الأمور الاجتهادية- لا بد من مرجِّح، والمرجِّح هو الأغلبية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الفرد. وهناك أدلة شرعية على ذلك، لا يتسع المقام لسردها. فلتراجع في كتابنا (من فقه الدولة في الإسلام). ولا يعيب الديمقراطية أنها من اجتهادات البشر، فليس كل ما جاء عن البشر مذموما، كيف وقد أمرنا الله أن نُعمِل عقولنا، فنفكِّر وننظر، ونتدبَّر ونعتبر، ونجتهد ونستنبط؟ ولكن يُنظَر في هذا الاجتهاد: أهو مناقض لما جاء من عند الله أم لا يتعارض معه، بل يمشي في ضوئه؟ وقد رأينا الديمقراطية تجسِّد مبادئ الشورى، والنصيحة في الدِّين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والصبر، وإقامة العدل، ورفع الظلم، وتحقيق المصالح ودفع المفاسد ... وغيرها. وما قيل من أن الديمقراطية تعني حكم الشعب، فليس يعني: أنه في مقابلة حكم الله، بل حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد المطلق. وما قيل: إنه مبدأ مستورد، فالاستيراد في ذاته ليس محظورا، إنما المحظور أن تستورد ما يضرك ولا ينفعك، وأن تستورد بضاعة عندك مثلها أو خير منها، ونحن نستورد من الديمقراطية: آلياتها وضماناتها، ولا نأخذ كل فلسفتها التي تغلو في تضخيم الفرد على حساب الجماعة، وتبالغ في تقرير الحرية ولو على حساب القِيَم والأخلاق، وتعطي الأكثرية الحق في تغيير كل شيء، حتى الديمقراطية ذاتها!! نحن نريد ديمقراطية المجتمع المسلم، والأمة المسلمة، بحيث تراعي هذه الديمقراطية عقائد هذا المجتمع وقِيمه وأسسه الدِّينية والثقافية والأخلاقية، فهي من الثوابت التي لا تقبل التطور ولا التغيير بالتصويت عليها.
رد: الدولة الإسلامية دولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية
الشورى والديمقراطية: وكثير من الذين يتحدثون عن الديمقراطية، وأن لها في أحكام الإسلام أصولا وجذورا: يركِّزون على قاعدة (الشورى) في الإسلام، ويعتبرون الشورى هي البديل الإسلامي للديمقراطية، وهي أيضا الدليل الشرعي للديمقراطية. وكان بعض إخواننا في الجزائر يقولون: ( شورقراطية)، أي شورى متضمنة للديمقراطية. وفي رأيي أننا نستطيع أن ندعم القضية بأكثر من ذلك، وأن الشورى وحدها قد لا تكفي هنا لسببين: أولهما: أن هناك من الفقهاء من زعم أن الشورى ليست واجبة، وإنما هي من قبيل المندوبات والمستحبات، فهي من المكملات وليست من المؤسِّسات. خلافا لما قاله المحققون من أمثال العلاَّمة ابن عطية، وأقرَّه الإمام القرطبي في تفسيره: (الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومَن لا يستشير أهل العلم والدِّين، فعزله واجب، وهذا ما لا خلاف فيه)[8]. وثانيهما: أن هناك من الفقهاء أيضا من قالوا: إن الشورى معلمة وليست ملزمة. وحتى من سلَّم أن الشورى واجبة وفريضة دينية، يقول: أن الواجب على الحاكم أو الإمام أن يستشير أهل الرأي والبصيرة والخبرة، حتى إذا استنار له الطريق، مضى في سبيله بما يراه وتحمَّل المسؤولية وحده، وليس من الضروري أن ننزل على رأيهم، مستدلين بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]. ونحن لا نقر هذين الأمرين، ولنا رد على كل منهما مذكور في مواضعه من كتبنا، ولكن مجرد إثارتهما قد يضعف لدى بعض الناس من الاعتماد على الشورى وحدها.
رد: الدولة الإسلامية دولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية
ورأيي أن الواجب علينا هنا: أن نضيف مبادئ أو مؤيدات أخرى تؤكذ شرعية الديمقراطية الحقيقية وقربها من جوهر الإسلام. من هذه المؤيدات: 1. رفض سلطان الجبابرة والفراعنة: أول هذه المبادئ المؤيدة لشرعية الديمقراطية، وحكم الشعوب لنفسها، واختيارها مَن يحكمها ويقودها: أن القرآن الكريم ينكر أبلغ الإنكار، بل يذم أبلغ الذم: الجبابرة الذين يتسلطون على الشعوب، ويحكمونها رغم أنوفها، ويقودونها طوعا أو كرها -بل غالبا ما يقودونها كرها- إلى ما يريدون. وفي هذا ذم القرآن مُلك صاحب إبراهيم -الذي يسمونه (نمروذ): أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ... [البقرة:258]. وقد ذكر المفسرون: أنه جاء برجلين من عرض الطريق، فحكم عليهما بالإعدام، ثم نفذ الحكم في أحدهما وضربه بالسيف، وقال: ها أنا قد أمتُّه! وعفا عن الآخر، وقال: ها أنا ذا قد أحييته! ومثل ذلك حكم فرعون الذي قال القرآن في شأنه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص:4]. كما ذم القرآن تسلط الجبابرة في الأرض بصفة عامة، فقال: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [ابراهيم:15]، وقال: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]. وذم كذلك الشعوب التي تسير في ركاب الجبابرة المستكبرين في الأرض وتنقاد لهم طائعة، كما قال عن فرعون: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، وقال عن ملأ فرعون أيضا: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98،97]. وذم القرآن عادا قوم هود لتفريطهم في حريتهم وكرامتهم واتباعهم الجبابرة المتسلطين، فقال: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود:59]. وحكى القرآن نصيحة نبي الله صالح لقومه ثمود إذ قال لهم: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152،151،150]. وبهذا نرى أن من مبادئ القرآن وأهدافه: أن يحرر الأقوام والشعوب من تسلط الفراعنة والجبابرة المتألهين في الأرض، وأن يرفع جباههم فلا تسجد إلا لله الذي خلقهم، ويعلي رؤوسهم فلا تنحني إلا له سبحانه. فلا يحكم الناس ولا يقودهم نمروذ ولا فرعون، وإنما يقودهم رجل منهم، هم الذين يختارونه، وهم الذين يراقبونه ويحاسبونه، وهم الذين يعزلونه -عند انحرافه- ويسقطونه. كما قال أبو بكر الخليفة الأول في أول خطبة له بعد تولية الخلافة: إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم[9] اهـ.
رد: الدولة الإسلامية دولة شورية تتوافق مع جوهر الديمقراطية
2. اتباع الجماعة والسواد الأعظم:وهناك نصوص شرعية، وأحاديث نبوية، تأمر المسلمين أن يكونوا مع الجماعة، فيد الله مع الجماعة، وأن يتبعوا السواد الأعظم[10]، أي جمهور الناس، وأن يهتموا برؤية المؤمنين للأشياء والوقائع والأشخاص، فإن رؤيتهم معتبرة عند الله وعند الناس، كما قال الله تعالى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]، فجعل رؤيتهم للعمل مقارنة لرؤية الله ورسوله. وقال في آية أخرى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا[غافر:35]، فجعل مقت الذين آمنوا وسخطهم بجوار مقت الله تعالى. ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا، فهو عند الله قبيح[11].