فرض على الإسلام أن يحمل أوزار تاريخ غير تاريخه، لأمة غير أمته، في أرض غير أرضه، نتيجة ظروف لم يعرفها هو. فقد حفل تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الغرب بمآس ومواقف سلبية، وقفت فيها إلى جوار الجهل ضد العلم، وإلى جوار الاستبداد ضد التحرر، وإلى جوار الملوك والإقطاعيين ضد الشعوب والفئات الضعيفة، وقامت محاكم التفتيش تعذب كل ذي علم أو فكر جديد، وتحرق العلماء أحياء وأمواتاً وتفرض الظلم والظلام على المجتمعات باسم الدين، فلا غرو أن ثارت الجماهير عليها، وعملت على التحرر من طغيانها وتسلطها.
ما ذنب الإسلام حتى يحمل نتائج هذا التاريخ الأسود، ويحكم عليه بالعزل عن القيادة للأمة،والطرد من موقع التشريع والتوجيه والتأثير، وأن يحبس في خبايا الضمائر فإن خرج منها فليبق بين جدران المساجد والزوايا، على أن يظل في المسجد أيضاً، قصير اللسان، خفيض الصوت، حافظاً للمثل القائل: من سعادة جدك، وقوفك عند حدّك، فهو مسجد موجّه موضوع تحت مجهر المراقبة، ليس له حرية الدعوة، ولا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.
المشكلة ترجع في جوهرها إلى فرض العلمانية على المجتمع الإسلامي، وهي اتجاه دخيل عليه، غريب عنه، مجاف لكل مواريثه وقيمه، فإن محصلة العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وإبعاده عن الحكم والتشريع، وهذا لم يعرفه الإسلام في تاريخه قط، إذ كانت الشريعة هي أساس الفتوى والقضاء في الأمة الإسلامية طول عصور تاريخها، وكان الإسلام مصدر العبادات والمعاملات والآداب والتقاليد بين الناس.
قد يوجد من شذ عن ذلك من الحكام والمحكومين، من اتبع الهوى، وانحرف عن الهدى ودين الحق، ولكن لم يوجد قط من يجحد الإسلام شريعة يرجع إليها المختصمون، ويتحاكم إليها المختلفون.
حتى الطغاة والجبابرة المتسلطون من أمثال: الحجاج بن يوسف وغيره، إذا ووجهوا بأحكام الشرع، ونصوص القرآن والسنة، لم يملكوا إلا أن يقولوا: صدق الله ورسوله، سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير.
وفرق كبير بين أن تميل عن صراط الشريعة وعدلها، بدافع من شهوة أو غضب، أو حسد أو غفلة، أو نحو ذلك، وبين أن تجمّدها ولا تعترف بها، ولا تقر بأن لها السيادة، ومن حقها الحكم، لأنها تمثل كلمة الله، وحكم الله، وكلمة الله هي العليا، ((ومَنْ أحْسن مِن الله حكْمًا لقومٍ يوقِنون )) [المائدة:50 ].
فلا غرو أن تصدم هذه المشكلة بعنف وجدان الجيل المسلم، وتقلق ضميره، حيث يجد الأمم الأخرى تكيف حياتها وفقاً لعقائدها وفلسفاتها وتصوراتها عن الدين والوجود وعن الله والإنسان، ويجد المسلم وحده مكتوباً عليه أن يعيش في صراع بين عقيدته وبين واقعه، بين دينه وبين مجتمعه
إن العلمانية قد تقبل في مجتمع نصراني، ولكنها لا تجد قبولاً عاماً في مجتمع إسلامي أبداً. إن النصرانية لا تشتمل على شريعة أو نظام للحياة يوجب على المؤمن بها التزاماً خاصاً بهذا النظام أو تلك الشريعة. بل الإنجيل نفسه قبل تقسيم الحياة إلى شطرين: أحدهما لله أو للدين، والآخر لقيصر أو للدولة، فقال أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله . وبهذا يستطيع النصراني أن يعيش في ظل حكم علماني، وهو مطمئن الضمير غير مخدوش العقيدة.
كما أن الغربيين -من النصارى خاصة - لهم عذرهم في الهرب من الحكم الديني إلى الحكم العلماني. فالحكم الديني -كما عرفوه - يعني حكم الكهنة، وسلطة الكنيسة، وما يتبعها من قرارات الحرمان، وصكوك الغفران!
فإذا نظرنا إلى المجتمع المسلم وجدنا قبول العلمانية لديه يعني شيئاً آخر: فإن الإسلام عقيدة وشريعة، ونظام كامل للحياة، وبهذا يعني قبوله العلمانية اطراح شريعة الله، ورفض أحكام الله، واتهام هذه الشريعة بأنها لا تصلح لهذا الزمن.. واتخاذ البشر شرائع لأنفسهم من وضع عقولهم، معناه: تفضيل علمهم المحدود وتجاربهم القاصرة على هداية الله ((قُلْ أأنْتم أعلمُ أمِ الله )).
لهذا كانت الدعوة إلى العلمانية بين المسلمين معناها: الإلحاد والمروق من الإسلام. وكان قبول العلمانية أساساً للحكم بدلاً من الشريعة الإسلامية ردة صريحة عن دين الأمة الذي رضيه الله لها، ورضيته لنفسها، والذي فرض عليها أن تحكم بما أنزل الله.
وكان السكوت من الشعب على هذا المنكر الكبير مخالفة بينه، ومعصية ظاهرة، أبرز نتائجها الشعور بالإثم، والإنكار القلبي على الوضع القائم، وفقد الإحساس بالرضى عنه والاطمئنان إليه والاحترام له لأنه وضع يفتقد الشرعية في نظر المسلم.
ثم إن العلمانية تنسجم مع التفكير الغربي الذي ينظر إلى الله أنه خلق العالم ثم تركه، فعلاقته به كعلاقة صانع الساعة بالساعة، صنعها أول مرة ثم تركها تدور بغير حاجة إليه. وهذا الفكر موروث من فلسفة اليونان، وخاصة فلسفة أرسطو الذي لا يدبر الإله عنده شيئاً من العالم، بل لا يعلم عنه شيئاً، فهو إله مسكين كما وصفه ول ديورانت ! فلا عجب أن يدع مثل هذا إلاله الناس وشأنهم؛ إذ كيف يشرع لهم وهو يجهل أمورهم؟ بخلاف نظرتنا - نحن المسلمين - إلى الله، فهو خالق الخلق،ومالك الملك، ومدبر الأمر، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسعت رحمته كل شيء، ورزقه كل حي، لهذا أنزل الشرائع، وأحل الحلال، وحرم الحرام، وفرض على عباده أن يلتزموا بما شرع، ويحكموا بما أنزل، وإلا كفروا وظلموا وفسقوا . (انظر كتابنا الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا: 113-114 )
يرى المسلم الملتزم المستمسك هذا كله بعينيه، ويلمسه بيديه، ولا يدري ماذا يصنع لمقاومته، وليس له من الأمر شيء، إنه لا يستطيع أن يغير المنكر بيده، ولا يستطيع أن يغيره بلسانه، فلم يبق له إلا أن يغيره بقلبه، وذلك أضعف الإيمان؛ والتغيير بالقلب أن يغلي من داخله كما يغلي القدر فوق النار، وأن يتحرق فؤاده على ما يرى حسرة وغماً، وأن يذوب قلبه كما يذوب الملح في الماء، لما يرى من المنكر ولا يستطيع تغييره.
وهذا الغليان النفسي لا يظل مكبوتاً أبد الدهر، بل لا بد أن يتنفس، معبراً عن نفسه، بصورة أو بأخرى. فإن القدر إذا زادت عليها النار، فلا بد أن تتفجر أو تتكسر.