والإسلام منهج وسط في كل شيء: في التصور والاعتقاد، والتعبد والتنسك، والأخلاق والسلوك، والمعاملة والتشريع. وهذا المنهج هو الذي سماه الله الصراط المستقيم وهو منهج متميز عن طرق أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى من المغضوب عليهم ومن الضالين الذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط.
و الوسطية إحدى الخصائص العامة للإسلام، وهي إحدى المعالم الأساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها ((كذلِك جعلناكم أمّةً وسطاً لِتكونوا شُهداء على الناس )) [البقرة:143 ]، فهي أمة العدل والاعتدال، التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يميناً أو شمالاً عن خط الوسط المستقيم.
النصوص الشرعية تعبر عن التطرف بـ الغلو والنصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال، وتحذر من التطرف، الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها: الغلو والتنطع و التشديد . والواقع أن الذي ينظر في هذه النصوص يتبين بوضوح أن الإسلام ينفر أشد النفور من هذا الغلو، ويحذر منه أشد التحذير. وحسبنا أن نقرأ هذه الأحاديث الكريمة، لنعلم إلى أي حد ينهى الإسلام عن الغلو، ويخوف من مغبته.
1- روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم في مستدركه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إيّاكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين قال شاكر: إسناده صحيح، ونقل المناوي في الفيض: 3/126 عن ابن تيمية قوله: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
والمراد بمن قبلنا: أهل الأديان السابقة، وخاصة أهل الكتاب، وعلى الأخص: النصارى، وقد خاطبهم القرآن بقوله: ((قل يا أهْل الكتابِ لا تغْلوا في دينكم غيْر الحقِّ ولا تتَّبِعوا أهواء قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبل وأضّلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواءٍ السّبيل )) [المائدة:77 ]، فنهانا أن نغلو كما غلوا، والسعيد من اتعظ بغيره.
وسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر مهم، وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير، ثم تتسع دائرته، ويتطاير شرره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل المزدلفة في حجة الوداع قال: لابن عباس: هلمّ القط لي ـ أي حصيات ليرمي بها في منى ـ قال: فلقطت له حصيات من حصى الخذف - يعني حصى صغاراً مما يخذف به - فلما وضعهن في يده، قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإيّاكم والغلو في الدين... الحديث يعني: لا ينبغي أن يتنطعوا فيقولوا: الرمي بكبار الحصى أبلغ من الصغار، فيدخل عليهم الغلو شيئاً فشيئاً، فلهذا حذرهم.
وقال الإمام ابن تيمية: قوله إيَّاكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة الحد... والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، بقوله تعالى: ((لا تغْلوا في دينِكُم ْ)) [النساء:171 ].
2 - وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلك المتنطعون قالها ثلاثاً. (رواه مسلم، ونسبه السيوطي إلى أحمد وأبي داود أيضا ً). قال الإمام النووي: أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. ونلاحظ أن هذا الحديث والذي قبله جعلا عاقبة الغلو والتنطع هي الهلاك، وهو يشمل هلاك الدين والدنيا، وأي خسارة أشد من الهلاك، وكفى بهذا زجراً.
3 - وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تشددوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشُدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهْبانِيّةً ابتدعُوها ما كتَبْناها عليهِمْ .[ذكره ابن كثير تفسير سورة الحديد ]. ومن أجل ذلك قاوم النبي صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفضله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة، التي خلق لها الإنسان.
فقد شرع الإسلام من العبادات ما يزكي نفس الفرد، ويرقى به روحياً ومادياً، وما ينهض بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من الأخوة والتكافل، دون أن يعطل مهمة الإنسان في عمارة الأرض، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت، فهي لا تعزل المسلم عن الحياة ولا عن المجتمع، بل تزيده ارتباطاً به، شعورياً وعملياً، ومن هنا لم يشرع الإسلام الرهبانية التي تفرض على الإنسان العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها، بل يعتبر الأرض كلها محراباً كبيراً للمؤمن، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهاداً، إذا صحت فيه النية، والتزمت حدود الله تعالى.
ولا يقر ما دعت إليه الديانات والفلسفات الأخرى من إهمال الحياة المادية لأجل الحياة الروحية، ومن حرمان البدن وتعذيبه حتى تصفو الروح وترقى، ومن إهدار شأن الدنيا من أجل الآخرة، فقد جاء بالتوازن في هذا كله ((ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً )) [البقرة:201 ]. اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي [رواه مسلم في صحيحه ] إنّ لبدنك عليك حقًّا [متفق عليهٍ ].