وكان -صلي الله عليه وسلم- يحب إشاعة السرور والبهجة في حياة الناس، وخصوصًا في المناسبات مثل الأعياد والأعراس. ولما أنكر الصديق أبو بكر -رضي الله عنه- غناء الجاريتين يوم العيد في بيته وانتهرهما، قال له "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" ! وفي بعض الروايات: "حتي يعلم يهود أن في ديننا فسحة". وقد أذن للحبشة أن يلعبوا بحرابهم في مسجده عليه الصلاة والسلام في أحد أيام الأعياد، وكان يحرضهم ويقول: "دونكم يا بني أرفدة" ! وأتاح لعائشة أن تنظر إليهم من خلفه، وهم يلعبون ويرقصون، ولم ير في ذلك بأسًا ولا حرجًا. واستنكر يومًا أن تزف فتاة إلي زوجها زفافًا صامتًا، لم يصحبه لهو ولا غناء، وقال: "هلا كان معها لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو، أو الغزل". وفي بعض الروايات: "هلا بعثتم معها من تغني وتقول: أتيناكم أتيناكم .. فحيونا نحييكم". وكان أصحاب النبي -صلي الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان في خير قرون الأمة يضحكون ويمزحون، اقتداءً بنبيهم -صلي الله عليه وسلم- واهتداء بهديه. حتي إن رجلاً مثل عمر بن الخطاب -علي ما عرف عنه من الصرامة والشدة- يروي عنه أنه مازح جارية له، فقال لها: خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام ! فلما رآها ابتأست من هذا القول، قال لها مبينًا: وهل خالق الكرام واللئام إلا الله عز وجل ؟؟ وقد عرف بعضهم بذلك في حياته -صلي الله عليه وسلم-، وأقره عليه، واستمر علي ذلك من بعده، وقبله الصحابة، ولم يجدوا فيه ما ينكر، برغم أن بعض الوقائع المروية في ذلك لو حدثت اليوم لأنكرها معظم المتدينين أشد الإنكار، وعدوا فاعلها من الفاسقين أو المنحرفين ! من هؤلاء المعروفين بروح المرح والفكاهة والميل إلي الضحك والمزاح النعيمان بن عمر الأنصاري، رضي الله عنه، الذي رويت عنه في ذلك نوادر عجيبة وغريبة.
وقد ذكروا أنه كان ممن شهد العقبة الأخيرة، وشهد بدرًا وأُحدًا، والخندق، والمشاهد كلها. روي عنه الزبير بن بكار عددًا من النوادر الطريفة في كتاب "الفكاهة والمرح" نذكر بعضًا منها: قال: وكان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشتري منها، ثم جاء بها إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، فيقول: ها أهديته لك، فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها، أحضره إلي النبي -صلي الله عليه وسلم-، قائلا: أعط هذا ثمن متاعه، فيقول: "أو لم تهده لي" ؟ فيقول: إنه والله لم يكن عندي ثمنه، ولقد أحببت أن تأكله، فيضحك، ويأمر لصاحبه بثمنه. وأخرج الزبير قصة أخري من طريق ربيعة بن عثمان قال: دخل أعرابي علي النبي -صلي الله عليه وسلم-، وأناخ ناقته بفنائه، فقال بعض الصحابة للنعيمان الأنصاري: لو عقرتها فأكلناها، فإنا قد قرمنا إلي اللحم ؟ ففعل، فخرج الأعرابي وصاح: واعقراه يا محمد ! فخرج النبي -صلي الله عليه وسلم- فقال: "من فعل هذا" ؟ فقالوا: النعيمان، فأتبعه يسأل عنه حتي وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، واستخفي تحت سرب لها فوقه جريد، فأشار رجل إلي النبي -صلي الله عليه وسلم- حيث هو فأخرجه فقال له: "ما حملك علي ما صنعت" ؟ قال: الذين دلوك علي يا رسول الله هم الذين أمروني بذلك قال: فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك، ثم غرمها للأعرابي.
قال الزبير أيضا: حدثني عمي عن جدي قال: كان مخرمة بن نوفل قد بلغ مائة وخمس عشرة سنة، فقام في المسجد يريد أن يبول، فصاح به، الناس، المسجد المسجد، فأخذه نعيمان بن عمرو بيده، وتنحي به، ثم أجلسه في ناحية أخري من المسجد فقال له: بل هنا قال: فصاح به الناس فقال: ويحكم، فمن أتي بي إلي هذا الموضع ؟! قالوا نعيمان، قال: أما إن لله علي إن ظفرت به أن أضربه بعصاي هذه ضربة تبلغ منه ما بلغت ! فبلغ ذلك نعيمان، فمكث ما شاء الله، ثم أتاه يومًا، وعثمان قائم يصلي في ناحية المسجد، فقال لمخرمة: هل لك في نعيمان قال: نعم قال: فأخذه بيده حتي أوقفه علي عثمان، وكان إذا صلي لا يلتفت فقال: دونك هذا نعيمان، فجمع يده بعصاه، فضرب عثمان فشجه، فصاحوا به: ضربت أمير المؤمنين، فذكر بقية القصة. (ذكر هذه القصص الحافظ ابن حجر في ترجمة نعيمان من كتابه: "الإصابة" نقلاً عن كتاب الزبير بن بكار في كتابه: "الفكاهة والمرح").
ومن الطرائف أن صحابيًا آخر من أهل الفكاهة والمزاح، استطاع أن يوقع نعيمان في بعض ما أوقع فيه غيره من "المقالب" كما في قصة سويبط بن حرملة معه، وكان ممن شهد بدرًا أيضًا، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة سويبط رضي الله عنه: وكان مزاحًا يفرط في الدعابة، وله قصة ظريفة مع نعيمان وأبي بكر الصديق -رضي الله عنهم-، نذكرها لما فيها من الظرف، وحسن الخلق. وروي عن أم سلمة قالت: خرج أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- في تجارة إلي بصري قبل موت النبي -صلي الله عليه وسلم- بعام، ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة، وكانا قد شهدا بدرًا، وكان نعيمان علي الزاد، فقال له سويبط، وكان رجلاً مزاحًا، أطعمني فقال: لا حتي يجيء أبو بكر رضي الله عنه، فقال: أما والله لأغيظنك، فمروا بقوم فقال لهم سويبط: تشترون مني عبدًا ؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: إني حر، فإن كنتم إذا قال لكم هذه المقالة تركتموه، فلا تفسدوا علي عبدي، قالوا: بل نشتريه منك، قال: فاشتروه منه بعشر قلائص، قال: فجاءوا فوضعوا في عنقه عمامة أو حبلاً، فقال نعيمان: إن هذا يستهزئ بكم، وإني حر، لست بعبد، قالوا: قد أخبرنا خبرك فانطلقوا به، فجاء أبو بكر رضي الله عنه، فأخبره سويبط فأتبعهم، فرد عليهم القلائص، وأخذه، فلما قدموا علي النبي -صلي الله عليه وسلم- أخبروه قال: فضحك النبي -صلي الله عليه وسلم- وأصحابه منها حولاً أخرجه ابن أبي شيبة وابن ماجة. وأخرجه أبو داود الطيالسي والروياني فجعلا المازح هو النعيمان والمبتاع سويباطًا، كما في ترجمته في "الإصابة").