{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) } سورة الأحزاب. يبين اللّه تبارك تعالى خطورةَ التكاليف وثقلها، وأنها عظيمةٌ ناءت بحملها السموات والأرض والجبال، فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها، وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا }أي إنا عرضنا التكاليف كلها من فرائض وطاعات على هذه الأجرام العظام، فلم تطقها وأبت تحمل مسئوليتها، وخافت من حملها، لو فرض أنها ذات شعور وإدراك، ولكن كلّف بها الإنسان، فتحملها مع ضعفه، وهو في ذلك ظلوم لنفسه، جهول لقدر ما تحمله. قال ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة والفرائض، عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم، فلم يطقنها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال، فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، فذلك قوله تعالى:{ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا}. والمراد جنس الإنسان بحسب الأغلب. فالأمانة تشمل الطاعات والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب، وبتضييعها العقاب، وتشمل أمانة الأموال كالودائع وغيرها مما لا بيّنة عليه، وغسل الجنابة أمانة، والفرج أمانة،والزوجة أمانة,والأولاد أمانة,والمال أمانة,والوظيفة أمانة, والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرّجل أمانة. وقد حملها الإنسان بسبب جهله بما فيها، وقد علم أنَّ هذه الأجرام العظام خافت من حمل الأمانة فلم يطقنها وأبت تحمل مسئوليتها، ، وهو مع ذلك يتأثر بالانفعالات النفسية وبالشهوات الذاتية، ولا يتدبر عواقب الأمور، وكانت هذه التكاليف وسيلة للحد من سلطان الشهوة، وتأثير النوازع، والقوى الداخلية في نفسه. ثم بيّن اللّه تعالى نتائج تلك التكاليف بين المكلفين، فقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي إن عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة وهي التكاليف أن ينقسم الناس فريقين: فريق المنافقين والمنافقات (وهم الذين يظهرون الإيمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله) والمشركين والمشركات (وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك باللّه ومخالفة الرسل) الذين يعذبهم اللّه لخيانتهم الأمانة، وتكذيب الرسل، ونقض الميثاق، وفريق المؤمنين والمؤمنات (وهم الذين آمنوا باللّه وملائكته وكتبه ورسله، العاملين بطاعته) الذين يتوب اللّه عليهم إذا تابوا، وأدوا ما حملوه من الأمانات من العبادة وغيرها لأن اللّه غفور لذنوبهم، كثير الرحمة بهم. والآية دليل على أن اللّه أعلم الإنسان بأنه غفور رحيم، وبصره بنفسه فرآه ظلوما جهولا، ثم عرض عليه الأمانة، فقبلها مع ظلمه وجهله، لعلمه بما يجبرها من الغفران والرحمة. والمعنى أن هناك مرضا جبليا في الإنسان، وأن هناك علاجا ودواء لهذا المرض وهو سعة المغفرة وكثرة الرحمة الإلهية إذا تعرض الإنسان لهما في الجملة بالتوبة والإنابة والطاعة. دلت الآيات على ما يأتي: 1- ختمت السورة المشتملة على الأحكام بأمر إجمالي هو وجوب التزام الأوامر الإلهية، والآداب الشرعية السامية، والمواعظ الرائعة. 2- الأمانة تشمل جميل تكاليف الشرع ووظائف الدين، على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور، ومنها الفرائض التي ائتمن اللّه عليها العباد، وليست التكاليف سهلة هينة، وإنما هي من عظائم الأمور التي ناءت بحملها السموات والأرض والجبال. روى الحكيم الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قال اللّه تعالى لآدم: يا آدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها، فهل أنت حاملها بما فيها؟ فقال: وما فيها يا رب؟ قال: إن حملتها أجرت، وإن ضيّعتها عذّبت، فاحتملها بما فيها، فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر، حتى أخرجه الشيطان منها» . 3- العرض على السموات والأرض والجبال إما مجاز، وإما حقيقة، وإما ضرب مثل، فقال قوم: المعنى: إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن، فأبين أن يحملن وزرها، مثل:وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف 12/ 82] أي أهلها. فهذا مجاز مرسل. وقال قوم: إن الآية من المجاز- بنحو آخر- أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت. وهذا كما تقول: عرضت الحمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه. وقال آخرون: العرض حقيقة أي أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر لهن ذلك، فلم يحملن وزرها، وأشفقت، وقالت: لا أبتغي ثوابا ولا عقابا، وكل يقول:هذا أمر لا نطيقه، ونحن له سامعون ومطيعون فيما أمرن به وسخّرن له. ولكن قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة، على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. وقال القفّال: العرض في هذه الآية ضرب مثل، أي إن السموات والأرض والجبال على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي إن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كلّفه الإنسان، وهو ظلوم جهول لو عقل. وهذا كقوله: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ [الحشر 59/ 21] ثم قال: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ (الآية نفسها) قال القفال: فإذا تقرر أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وعلى أي حال، المقصود بالآية بيان عظمة التكاليف وثقلها وتنبيه الإنسان لخطورة التبعة (أو المسؤولية) عنها، فلا يفرط فيها، وهو بين خيارين: إما العصيان فالعذاب، وإما الطاعة فالثواب، واللّه غفور رحيم. 4- لقد تجشم الإنسان تحمل مسئولية الأمانة، والتزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه أو للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه أو جهول بربه. والإنسان: هو النوع كله، مراعاة لعموم الأمانة، فيشمل الكافر والمنافق، والعاصي، والمؤمن. وقيل: المراد بالإنسان: آدم الذي تحمّل الأمانة. 5- اللام في قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ المتعلقة ب عَرَضْنَا أو ب حَمَلَهَا سواء قلنا: إنها لام الصيرورة أو لام التعليل، فإن النتيجة انقسام الناس إزاء التكاليف إلى قسمين: عصاة وطائعين، فقد حمل الإنسان الأمانة، ثم كانت حالته أمامها ليست واحدة، فهناك قوم التزموا القيام بحقها، فأثابهم اللّه الجنة، وهناك آخرون أهملوا القيام بحقها، فعذبهم اللّه بالنار. وإذا تعلقت اللام ب عَرَضْنَا يكون المعنى على أن اللام للتعليل: عرضنا الأمانة على الجميع، ثم قلدناها الإنسان، ليظهر شرك المشرك، ونفاق المنافق، ليعذبهم اللّه، وإيمان المؤمن ليثيبه اللّه. وإذا تعلقت ب حَمَلَهَا يكون المعنى على جعل اللام للتعليل: حملها ليعذّب العاصي، ويثيب المطيع، لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة. وإذا كانت اللام لام الصيرورة يكون المعنى: حملها الإنسان، فآل الأمر إلى أن يعذب من خان الأمانة، ويتوب على من أداها حقها.قال الله تعالى: { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }البقرة283.وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58..وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }الأنفال27.وقد بين الله تعالى أن من صفات المؤمنين حفظهم للأمانات فقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }المؤمنون8. {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }المعارج32. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عُنِي بالأمانة في هذا الموضع: جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص بقوله(عَرَضْنَا الأمَانَةَ) بعض معاني الأمانات لما وصفنا. من صور حمل الأمانة: أولا: المحافظة على المجتمع: ثانياً : نشر العلم والدعوة للدين: ثالثاً: بيان الحق والدين: رابعاً: دعوة سائر الناس إلى الإسلام: شواهد من قصص الأنبياء: حين نقف عند قصص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم نلمس هذا الأمر واضحاً جلياً. يقول سبحانه مخاطباً أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إياهم إلى التأسي بأولئك السلف الذين سبقوهم ]وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين[آل عمران146 ، لقد كان هؤلاء الربيون يشعرون أن الأمانة لا تخص هذا النبي وحده، بل لا بد أن يقوموا معه ويقاتلوا معه ويتحملوا الشدائد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وسمع رجل من آحاد الناس أن هناك مؤامرة تحاك في الظلام ضد أحد أولياء الله، وهو نبي الله موسى، سمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فشعر أن من واجبه أن يقوم بإبلاغ هذه الكلمة إلى موسى لعل الله أن ينجيه بسبب ذلك ]وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين[. ورجل آخر يسمع بأنبياء الله وقد واجههم ما واجههم من قومهم فيحتمل التعب واللأواء لأجل نصرتهم ]واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون . إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون [ ، ثم جاء هذا الرجل من مكان بعيد ]وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون . وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ، أأتخذ من دونه آلة إن يردن الرحمن بضر لا تغني عنهم شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون .إني إذاً لفي ضلال مبين . إني آمنت بربكم فاسمعون [ ، لقد أدرك هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يُكذَّبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم فليست مهمته قاصرة على أن يسترجع ويحوقل ويندب ويبكي على هذا الدين، بل عليه أن يقوم بمهمته فيأتي من أقصى المدينة يسعى ويمشي، يأتي ليقول كلمة واحدة: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوهم، فقتل ودخل الجنة ولايزال هم قومه يختلج في صدره قال ]ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين[ ، إن هذه المشاعر المستقرة في قلب هذا الرجل لم يكن يقتلعها الطغيان أو الإيذاء أو القتل، حتى بعد أن أراقوا دمه لا زال يختلج في صدره هذا الأمر، ولا زال يبكي على حال قومه ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم. ونعود مرة أخرى إلى موسى فحين جاء موسى وواجه قومه بدعوته قام رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، قام مناصراً لموسى منافحاً عنه فقال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }غافر28 . ثم يعيش في جبل مع قومه وهو لايزال يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أمراً لم يجد فيه مجالاً للمداراة مع هؤلاء أعلنها صريحة لهم وقال ]يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد . يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار[. وهكذا يجب على كل مسلم أن يقوم بواجبه نحو أداء الأمانة, ولا يقول أنا لا علاقة لي بالموضوع أنا لم أقم بالقتل بل يجب عليه تحمل المسؤولية أمام الله تعالى و أمام المجتمع. نحن في زمان قلت فيه الأمانة ، وكثرت فيه الخيانة ، وأصبح كثير من الناس لا يؤتمنون ، و إذا اؤتمنوا خانوا ، وأصبحوا يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، حتى أصبح يقال:إن في بني فلان رجلاً أميناً ، لندرة الأمانةِ بينَ الخلقِ ، وكأن الناس ما علموا أن الأمانة والرحم يقفان يوم القيامة على جنبتي الصراط يميناً وشمالاً ، لعظم أمرهما وكبر موقعهما ، وليطالبا من يريد الجواز بحقهما .
وأما سلفنا السابقون فقد تجذرت الأمانة في قلوبهم ، فبها يتبايعون ، ويتعاملون ، ولهم في ذلك قصص وأخبار ، من ذلك ما حكاه ابن عقيل عن نفسه :حججت فالتقطت عقد لؤلؤ في خيط أحمر ، فإذا شيخ ينشده ، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه ، فقال : خذ الدنانير ، فامتنعت وخرجت إلى الشام ، وزرت القدس ، وقصدت بغداد فأويت بحلب إلى مسجد وأنا بردان جائع ، فقدموني ، صليت بهم ، فأطعموني ، وكان أول رمضان ، فقالوا : إمامنا توفي فصل بنا هذا الشهر ، ففعلت ، فقالوا : لإمامنا بنت فزوجت بها ، فأقمت معها سنة ، وأولدتها ولداً بكراً ، فمرضت في نفاسها ، فتأملتها يوماً فإذا في عنقها العقد بعينه بخيطه الأحمر ، فقلت لها : لهذا قصة ، وحكيت لها ، فبكت وقالت : أنت هو والله ، لقد كان أبي يبكي ، ويقول : اللهم ارزق بنتي مثل الذي رد العقد عليّ ، وقد استجاب الله منه ، ثم ماتت ، فأخذت العقد والميراث ، وعدت إلى بغداد .
وقال ابن المبارك : استعرت قلماً بأرض الشام ، فذهبت على أن أرده ، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي ، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه . عن سمرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن مَن خانك) رواه الإمام أحمد وأهل السنن، وهو يَعمُّ جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله عزَّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مِمَّا هو مؤتَمَن عليه لا يطَّلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك مِمَّا يأتَمنون به من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله عزَّ وجلَّ بأدائها، فمَن لَم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة )). عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (( بينما النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في مجلس يُحدِّث القوم، جاءه أعرابيٌّ فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحدِّث، فقال بعضُ القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضُهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتُها؟ قال: إذا وُسِّد الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة )) رواه البخاري (59). عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن من خانك )) رواه أبو داود (3535) والترمذي (1264)، وقال: (( هذا حديث حسن غريب ))، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (424). عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( أوَّل ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخره الصلاة )) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق (ص:28)، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (1739). عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
(( آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان )) رواه البخاري (33) ومسلم (107). مفهوم الأمانة في شريعة الإسلام مفهوم عام شامل لأقوال العبد وأعماله، فكما أنه محاسب على أعماله مُؤتَمَن عليها فهو محاسب على الأقوال ومُؤتَمَن عليها. إذن ـ أخي المسلم ـ فالكلمة أمانة، فإمّا أن تؤدي كلمة صادقة نافعة مفيدة فتكتسب بها أجرًا وثوابًا، وإما كلمة سيئة وكلمة خبيثة وكلمة تدعو إلى باطل، وتؤيد الشرّ والفساد؛ فتلك كلمة تُحاسب عليها. فاسمع إذن فضل الكَلِم الطيّب، في الحديث عنه قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))[متفق عليه]. الأمانةُ خلُقٌ مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين، وفضيلةٌ من فضائل المؤمنين، عظَّم الله أمرَها ورفع شأنها وأعلى قدرَها، تضييعُ الأمانة ذنبٌ عظيم وجُرم جسيم، يَقول ربُّنا جل وعلا ناهيًا عن الخيانة في الأمانةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَوَالرَّسُولَوَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال:27]. ومن الأمانات العامّةِ التي يجب تقوَى الله عزّ وجلّ فيها الوظائفُ بشتَّى أنواعها والمسؤوليَّات بمختَلفِ صوَرِها، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، ألا تستعمِلُني؟! قال: فضَرَب بيدِهِ على منكِبي ثم قال: ((يا أبا ذرّ، إنّك ضعيف، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامة خِزيٌ وندامة، إلاّ من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها)) رواه مسلم وروى مسلم أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيّةً يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلاّ حرَّمَ الله عليه الجنة)). اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته الى يوم الدين وسلم وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.