للأزهر الشريف قصة لطيفة ... فلم يكن هذا المعلم الحضارى موجودا قبل الدولة الفاطمية .. فلقد أقام الفاطميون دولتهم الفاطمية بالمغرب وفى عهد رابع خلفائهم السلطان المعز لدين الله أمر جوهر الصقلى ( قائد قواته ) بدخول مصر ... فدخلها جوهر الصقلى بدون قتال شديد عام 358هـ الموافق 969 م ، وانتزع الحكم من الاخشيدين .. فلقد كان يحكم مصر إبن كا فور الاخشيدى وكان عمره لا يتجاوز عدة سنوات ..
ولما استقرت الأمور لجوهر الصقلى ، قرر تأسيس عاصمة لحكم الفاطميين وأسس مدينة القاهرة ، فنصب الجيش الفاطمى خيامه على منطقة جنوب الفسطاط وبدأ العمل فى بناء مدينة جديدة فى نفس العام 969م ، وعنى الصقلى باختيار موقع المدينة بين خليج أمير المؤمنين والمقطم فشيد المدينة على الأرض الرملية الجافة ..
وعندما أكمل جوهر الصقلى بناء القاهرة أصبحت عاصمة الفاطميين ومقرا لخلافتهم ، فانتقل إليها المعز لدين الله الخليفة الفاطمى فى موكب ضخم وكبير من المغرب للقاهرة عام 973 م ..
وفى نفس الوقت .. وضع جوهر الصقلى أساس مسجد كبير فى القاهرة فى اليوم الرابع عشر من رمضان 359 هـ الموافق لعام 971 م واستغرق بناؤه عامين ، حيث أقيمت فيه الصلاة لأول مرة فى السابع عشر من شهر رمضان عام 360 هـ الموافق 972 م .
وسمى بالأزهر الشريف لعدة أسباب ، بسبب أن الفاطميين ينتسبون إلى إبنة الرسول عليه الصلاة والسلام السيدة فاطمة الزهراء ، ويقال إنه سمى بالأزهر لأنه كان محاطا بقصور فخمة التى كانت تسمى القصور الزهراء ، أو أنه سمى كذلك تفاؤلا لأن يكون أعظم المساجد ضياء ونورا .. كما يقال أن سبب هذه التسمية نسبة الى كوكب الزهرة .. وكل هذه الأسباب صحيحة ...
ولقد عُرف الجامع الأزهر أول الأمر بجامع القاهرة ثم باسمه الحالى .. وبالطبع نعرف جميعا أن اسم القاهرة كان الخليفة لا يرغب فيه وكان يريد تسمية المدينة باسم ( المدينة الزهراء ) وشيد الأزهر الشريف فى المنطقة المجاورة لقصر المعز ملك الفاطميين ، وكان المبنى الأول للأزهر حوالى نصف المبنى الحالى ... وتوجه إليه فى سنة 362 هـ فى عيد الفطر الخليفة المعز لدين الله ليشهد أول صلاة رسمية له فى الجامع الأزهر ..
وكان الغرض من إنشاء الجامع الجامع الأزهر أن يكون رمزا للسيادة الروحية للدولة الفاطمية ومنبرا للدعوة التى حملتها هذه الدولة
.........
كان الأزهر أول ما أقيم يتكون من صحن المسجد الحالى المكشوف ، والذى تحف به العقود المدببة من كل جانب وبيت الصلاة المسقوف الذى كان يقع الى شمال الصحن الحالى وكان له جانبان : أيمن وأيسر ، فيهما مبان ، فكان فى كل من الجانبين الأيمن والأيسر ثلاثة أروقة ( الرواق منطقة تجمع بين عدة أعمدة ) ثم توالت الاضافات والزيادات حتى أصبح الجامع الأساسى فى قلب الجامع الأصلى ، وأضيف للمبنى أروقة جديدة - مدارس - محاريب - مآذن - ميضات ( أماكن للوضوء ) . حتى أصبح الأزهر اليوم منارة فنية رائعة .
ويصف لنا أحد المؤرخين الجامع الأزهر .. فندخل معه : فإذا وصلت لميدان الأزهر الحالى ودخلت من الباب الرئيسى للأزهر واسمه باب المزينين تسير فى ممر طويل ، فعلى يمينه مبنى المدرسة الأقبغاوية التى بناها الأمير المملوكى علاء الدين أقبغا عبد الواحد عام 740 هـ / 1339 م ، فى جزء من ساحة الأزهر وجعلها ملحقة به ، وهذا الأمير كان من أكبر من اهتموا بعمارة الأزهر الشريف ، فلقد أنشأ لمدرسته تلك بيت صلاة وقبلة ومنارة ، وقد استعملت هذه المدرسة إلى عهد قريب مكتبة للأزهر ..
وعلى يسار الممر يقوم مبنى المدرسة الطيبرسية القديمة ، نسبة إلى الأمير علاء الدين طيبرس الخازندار نقيب الجيوش بمصر فى دولة الناصرمحمد بن قلاوون عام 719 / 1319 وقد تبنى هذه المدرسة وجعلها مسجداً فى نفس الوقت وتأنق فى بناؤها وأنفق عليها بسخاء فى الزخرفة والاتقان فكانت قطعة من الفن الاسلامى فى أحسن صورة ، ولكنها اتخذت عام 1896 م ملحقا لمكتبة الأزهر فضاع كثير من معالمها الفنية ..
فإذا فرغت من السير فى المرر وصلت إلى صحن الجامع الأزهر ، وهو صحن فسيح تحيط بك البوائك من كل الجهات وهذا الصحن قبل الجامع القديم ، ويليه بيت الصلاة الذى ينتهى بجدار القبلة القديمة ... يليه بعد ذلك زيادة عبد الرحمن كتخدا ( وهومن كبار أمراء المماليك وأكبر من اهتم ببناء وتعمير مبنى الجامع الأزهر فى العصور الماضية ) ، فلقد قام هذا الرجل فى سنة 1167 هـ / 1753 بترميم شامل للأزهر وأضاف إليه زيادة كبيرة شمال من نصف حجم الجامع الأصلى وأقام بيت الصلاة بالقبلة والمحراب على خمسين عمودا أقيم عليها خمسون عقدا من نفس طراز عقود الجامع الأزهر الأصلية ..
وأنشأ فى جدار القبلة الجديد محرابا بديعا وأقام قبة جميلة فوق بلاطة المحراب ، وصنع لهذه الزيادة منبرا بديع الصنع ، وأقام بجوار المحراب محرابا صغيرا يسمى بمحراب الدردير ، وبهذه الزيادة أصبح الأزهر من أكبر المساجد فى مصر.. كما أنشأ شمال هذه الزيادة مبنى واسعا له باب كبير يؤدى إلى حارة كتانة ويسمى باب الصعايدة حاليا وهو باب فخم وجميل وأقام بأعلاه غرفة تقوم على أعمدة رخامية خصصها لتحفيظ الصبية القرآن الكريم وداخل الرحبة أقام ضريحه وصهريجا وسبيل للمياه العذبة ، كما أنشأ باب المزينين وهو الباب الرئيسى للأزهر فالأزهر اليوم له خمس مآذن مختلفة الطراز لأنها بنيت فى عصور متفاوتة منها اثنان لعبد الرحمن كتخدا ، وواحدة تنسب للسلطان قايتباى وواحدة تنسب للسلطان الغورى ، ومئذنة قايتباى هى التى تميز الأزهر لأنها ذات جوسقين وعمامتين وهى أكبر مآذن الأزهر وهناك ستة محاريب (جمع محارب ) أقدمها محراب أيوان القبلة القديمة عند جدار المسجد الأول وهذه المحاريب تتفاوت فى الجمال والاتقان ...
وللأزهر أيضا ثلاث قبات أجملها وأكبرها تلك التى تقوم فوق المدرسة الجوهرية الملحق بالأزهر لأنها تقوم على رقبة ذات شماسات ثم عقود مدببة مزينة من الخارج بنقوش عربية غاية فى الجمال . وهناك على يمين الأزهر أروقة مختلفة وهى عبارة عن الشئون الإدارية لطلاب الأزهر وسنتحدث عنها عند الحديث عن التعليم فى الأزهر ويزين الجامع الأزهر 380 عمودا ، ويتميز شكل صحنه باحتفاظه بالشكل المربع الذى أقيم عليه حتى الآن ..
.........
بدأ الأزهر منذ اليوم الأول لإنشائه تعليم الناس ، فبدأ تعليم وتدريس المذهب الفاطمى فى الفقه وتعاليم الشيعة فى الدين والفلسفة والتوحيد وجلب للأزهر للتدريس فيه فطاحل العلماء فى ذلك العصر ، وأجزل لهم العطاء ، وبنى لهم منازل فخمة ألحقت بالأزهر ، وأخذوا يدرسون ويتفقهون فى مذاهب الفاطميين وتعاليمهم مما جعل للأزهر صيتا فى أفاق العالم الاسلامى ..
وكان أول كتاب قرىء فى الأزهر هو كتاب الاقتصاد فى فقه آل البيت لأبى حنيفة النعمان ابن عبد الله قاضى المعز ، وظل الجامع الأزهر يقيم حلقات للدروس يلقيها بنو النعمان حتى سنة 369 هـ ، عندها بدأت تتحول الدراسة الى دراسة منظمة ومستقرة ، حيث قام يعقوب بن كلس بتأليف كتابا فى الفقه الفاطمى وهو الرسالة الوزيرية فى الفقة الشيعى وكان يقوم بقراءاته على الناس بانتظام كل يوم جمعة...
ثم تم فى عام 378 هـ تعيين 37 فقيها وعالما بالأزهر وأنشأ لهم دارا للسكن بجوار الأزهر ، وفى عام 380 هـ تم تنظيم العملية التعليمية وقبول أول دفعة بالأزهر وعندما تخرجت تم تعيينها للتدريس به ، وكان هناك مجلسا خاصاً بالنساء فى الأزهر.
وظلت العملية التعليمية بالأزهر فى ازدهار ، وعالج الأزهر علوم الدنيا واهتم بشئون اللغة العربية وازدهرت فيه العلوم والفنون ، ولم يقتصر على النشاط الدينى بل تنوع ليشمل العلم والأدب والفن فى مصر والشام وكذلك الفلسفة والرياضة واللغة كما كان الأزهر جامعا رسميا للدولة الفاطمية ومركزا لكثير من المناسبات والإحتفالات الدينية حتى جاءت نهاية الدولة الفاطمية 567 هـ ، وعندها بدأت الدولة الإيوبية فى القضاء على الفكر الشيعى ، قامت المدارس المنافسة للأزهر وتقلص دور الأزهر التعليمى طوال ثلاثة قرون ..وإن كانت سلطة الأزهر كمسجد هام