مما لا شك فيه،ان الابداع فعل وجودي،يمارس نوعا من التطهير حسب ارسطو، لنفوس اشتعلت جذوة الابداع في اغوارها، ولارواح تحترق في اتون هذا الوعي الجحيمي بالذات والوجود و قلق السؤال قلق يدفعهم الى مجابهة كل سطحية و ابتذال يهدد وجودهم، قلق يجعلهم على شفا حفرة من الجنون ليغدو الفعل الابداعي ضرورة نفسية اكثر مما هي ضرورة ثقافية، يلجم جموح كل سوداوية وحالات اكتئاب ، وقد يمتص كل عصاب او توتر ، احيانا يكون السبب في توهج قلمه الابداعي وان كان جنون بعض المبدعين والمفكرين الغربيين مرضيا اكثر منه ابداعيا ، لم يقو الابداع و الفكر على مقاومته، لكنه انجب اعمالا عظيمة، لذلك امتدحه ميشل فوكو بكل حماسة في كتابه (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، خاصة جنون الشاعر هولدرلين،وجيرار دونيرفال،والفيلسوف نيتشه الذي تفاقمت حدة جنونه مع تفاقم افكاره،وكذا جنون فانسان فان كوغ،الرسام الهلندي المشهور الذي ادخل المصحة العقلية ومات منتحرا.
هي،اذن ،حالات هذيان وتوتر،لم تعرف حدودا في انفعالات والازمنة والفضاءات، انغمس فيها هؤلاء العظام، والتي اعتبرها كلة لحرية وعمق افكار وعبقرية جوبهت في اغلب الاحيان بالرفض و التجاهل والازدراء، وثمنا لمسار ارتآه المفكرون، حين آثروا العزلة والابتعاد عن كل مستنقع ، ولرفاهة حسهم المفرط تجاه ما يجري حولهم.
في الذاكرة الثقافية العربية،قلما نجد حديثا عن الجنون عند مبدعينا، لكن كثر الحديث في الجاهلية عن وادي عبقر، او الجن الذي يلهم الشعراء، ونجد مبدعين اصابهم مس من الجنون، كمجنون ليلى، وهناك انطولوجيا للشاعرة جمانة حداد(سيجيئ الموت وسيكون له عيناك)،ذكرت فيها 150 مئة و خمسين شاعرا انتحروا في القرن العشرين، منبينهم مثلا الشاعر خليل حاوي والشاعران العراقيان ابراهيم زاير وقاسم جبارة.....، وهو انتحار سبقه في اغلب الظن حالات من الاكتئاب و الخيبات السياسية كما يرجع، واقف عند الاكتئاب الذي انهى حياة باحثة البادية، او ملك حنفي ناصف، في حالة من الاضطراب العصبي ، مثلما كانت نهاية مي زيادة في مستشفى الامراض النفسية، وان كان الدكتور عبد اللهالغدامي يرى ان هذه الحالات السيكولوجية المضطربة للكاتبتين،كلفة تؤديها المراة الكاتبة حين تجرات على الاقتراب من مملكة الرجل الحصينة ، وحين خرجت من (رحم الحكي الى نهار اللغة الباهرة للبصائر)،على اعتبار ان الكتابة عند المراة، وفق الغذامي، (تنشا في علاقة جبرية مع الاكتئاب ويتلازم القلم والالم) وان الهستريا والالم والحزن،كلها امور ترتبط في الذهنية الثقافية بجنس المراة، مع ان تاريخ الثقافة الانسانية يشهد ان حالات الاضطراب النفسي لن تكن بملامح انثوية فقط، بل لازمت كل قلم افرط في حساسيته وعزلته ورهافته، وفي لارضاه وعدم قناعته بما يحوم حوله ، وان هذه الحالات السيكولوجية المضطربة تنبجس من رحم تمزقات داخلية، وخيبات، وانكسارات المبدع سواء كانت سياسية او اجتماعية او ثقافية .
لكن خلال هذا الجنون المرضي،هناك جنون جميل، مستحب، يثري العملية الابداعية اكثر مما يعرقلها،(يكسر لحسابنا سنة التعود) وفق سان جان بيرس، ويخالف الجاهز والمالوف ويميل لصوفية وعزلة متوحشة، وينسج اجواء من المغايرة والانزياح والاختلاف والغواية والتمرد، والانشاء بالذات و الوجود ، داخل عوامل اللاعقل واللاوعي واللانظام ، جنون يتحكم لرؤية عقلانية، وكما يقول اندريه جيد(ان اجمل الاشياء، هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل، ينبغي التموقع بينهما، بالقرب من الجنون حين نحلم،وبالقرب من العقل حين نكتب).
،