إن من أعظم المِنَح الربَّانية منحة التلذُّذ بالعبادة؛ فإذا قام العبد بالعبادة وجد لها من اللذَّة كما يجِد المتذوِّق طعمَ الحلاوة في فمه، ووجد في قلبه من الأنس والانشراحِ والسعادة ما لا يجده في وقتٍ آخر، وحينئذ تكون العبادة راحةَ نفسه وطرب قلبه، فيكون لسان حاله: أرِحنا بالعبادة يا بلال، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: ((قم يا بلال فأرِحْنا بالصَّلاة))[1]، فتكون الصلاة لما فيها من القرب لله والمناجاة له والتلذُّذ بكلامه والتذلل له والتعبُّد بأسمائه قرَّةَ العين وسلوة الفؤاد؛ ولذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((وجُعلتْ قرَّةُ عيني في الصَّلاة))[2].
قال ابن تيميَّة: "فإنَّ اللذَّة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه، إنَّما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيدِه والإيمان به، وانفتاحِ الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية؛ كما قال بعضُ الشيوخ: لقد كنتُ في حالٍ أقول فيها: إنْ كان أهل الجنَّة في هذه الحال إنهم لفي عيشٍ طيِّب، وقال آخر: لتمرُّ على القلب أوقات يرقص فيها طربًا، وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيمَ الآخرة إلَّا نعيم الإيمان والمعرفة، ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((أرِحنا بالصَّلاة يا بلال))، ولا يقول: أرِحنا منها كما يقولُه مَن تثقل عليه الصَّلاة؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]، والخُشوع: الخُضوع لله تعالى والسكون والطُّمأنينة إليه بالقلب والجوارح"[3].
خفَّة العبادة بسبب لذَّتها:
وبتحصيل هذه اللذَّة يخفُّ ثقل العبادة على القلب، بل قد تزول تلك المشقَّة فتكون العبادة بردًا وسلامًا على القلب، قال الشاطبي: "والضرب الثاني شأنه أن لا يدخل عليه ذلك الملَل ولا الكَسل لِوازعٍ هو أشد من المشقة أو حادٍ يسهل به الصعب، أو لِما له في العمل من المحبَّة ولما حصل له فيه من اللذَّة حتى خفَّ عليه ما ثقل على غيره، وصارت تلك المشقَّة في حقِّه غير مشقة؛ بل يزيده كثرةُ العمل وكثرة العناء فيه نورًا وراحة، أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش في العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره؛ كما جاء في الحديث: ((أرِحنا بها يا بلال))[4].
تأمُّل الأسماء والصفات طريقٌ للذة العبادة:
وإذا تبيَّن ذلك فإنَّ من أعظم ما يحصل به لذَّة العبادة هو تأمُّل الأسماء والصفات وتعبُّد الله بها، ومراعاتها في كلِّ عبادة يأتي بها العبدُ أو يتركها؛ فإذا تصدَّق العبدُ بالقليل مستشعرًا أنَّ الله شكور لا يضيع عملَه بل يبارك له فيه ولو كان قليلًا - كان ذلك مُدخلًا على قلبه الفرح والسرور بربِّه، ووجد في قلبه حلاوةً عظيمة لعمله.
ومن صلَّى لله تعالى متذكرًا حينما قام لله صافًّا قدميه قيوميَّةَ الله تعالى وأنَّ الله قائمٌ بذاته وعبادُه لا يقومون إلَّا به سبحانه وتعالى، ثمَّ إذا كبَّر ورفع يديه استشعر أنَّ الله أكبر من كلِّ شيء، وشاهَدَ كبرياءَ الله وعظمته وجلاله، ثمَّ إذا قرأ دعاءَ الاستفتاح استشعر ما فيه من تنزيه الربِّ عن كلِّ نقص، وإذا استعاذ وبسْمَل التجأ بقلبه إلى الركن الركين وتبرَّأ من كلِّ حول، واعتصم بالله من عدوِّه واستعان به لا بغيره، ثمَّ إذا قرأ الفاتحةَ استشعر ما فيها من استحقاق الله لكلِّ المحامد، وألوهيَّتِه وربوبيَّته، ورحمته بخلقه وملكه لكلِّ شيء، واستحضر أنَّه يناجي ربَّه وأن ربَّه يجيبه على مناجاته؛ كما في الصَّحيح: ((قال الله تعالى: قَسمتُ الصَّلاةَ بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، قال الله تعالى: حَمدني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال: مجَّدني عبدي، فإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال: هذا بَيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 2 - 7]، قال: هذا لعبدي ولِعبدي ما سأل))[5].
ثمَّ تذكَّر عظمةَ الله وعلوَّه، وتذكَّر خضوعَه وتذلُّلَه بين يدي ربِّه بركوعه وسجوده وانكساره، وتأمَّل ذلك وهو يقول: سبحان ربِّي العظيم، سبحان ربِّي الأعلى، إذا صنع ذلك في صلاته كيف لا يصلِّي صلاةَ مودِّعٍ؟ وكيف لا يتلذَّذ بصلاته وعبادته[6]؟!
قال ابن تيميَّة: "ويستحضر أنه مناجٍ لله تعالى كأنَّه يراه؛ فإنَّ المصلِّي إذا كان قائمًا فإنما يناجي ربَّه، والإحسان أن تعبد اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثمَّ كلما ذاق العبد حلاوةَ الصلاة كان انجِذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسَب قوَّة الإيمان، والأسباب المقوية للإيمان كثيرة؛ ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((حُبِّب إليَّ من دنياكم النِّساءُ والطِّيب، وجُعلتْ قرَّةُ عيني في الصَّلاة))، وفي حديثٍ آخر أنه قال: ((أرِحنا يا بلال بالصَّلاة))، ولم يقل: أرِحنا منها...، وهذا بابٌ واسِع.
فإنَّ ما في القلب من معرفة الله ومحبَّته، وخشيته وإخلاص الدِّين له، وخوفه ورجائه، والتصديق بأخباره، وغير ذلك ممَّا يتباين الناس فيه ويتفاضلون تفاضلًا عظيمًا، ويقوى ذلك كلَّما ازداد العبد تدبُّرًا للقرآن وفهمًا معرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته وتفقُّره إليه في عبادته واشتغاله به؛ بحيث يجد اضطرارَه إلى أن يكون تعالى معبودَه ومستغاثَه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب؛ فإنَّه لا صلاح له إلَّا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه ويأنَس به ويلتذُّ بذِكره ويستريح به، ولا حصول لهذا إلَّا بإعانة الله"[7].
وما سبق هو جِنسٌ من العبادة، وكلُّ عبادة يُقدِم عليها العبدُ مستشعرًا هذه المعاني، وقد امتلأ قلبه بالحبِّ للخالق العظيم فإنَّه ولا بدَّ يحصِّل لذَّتَها والأنس بها، وفي الحديث: ((ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلَّا لله، وأن يكره أن يعود في الكُفر كما يَكره أن يُقذَف في النَّار))[8].
مثال تطبيقي: التعبد باسم الله (الرحمن):
لا شكَّ أنَّ الرحمن من أسماء الله عزَّ وجل، وأدلَّتُه أظهر من أن تُذكر، وهو من جملة الأسماء التي يُرجَع إليها جميع الأسماء والصِّفات؛ إذ يرجع إلى هذا الاسم العظيم صِفات الرَّحمة والإحسان، والبرِّ واللُّطف، والمَنِّ والرَّأفة والجود[9].
معنى اسم الله الرحمن:
الرَّحمن هو ذو الرَّحمة الواسِعة الشاملة لكل شيء: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [طه: 5]، ولذا اقترن اسمُ الرَّحمن بالاستواء على العرش؛ لأنَّ العرش محيط بالمخلوقات وقد وسعها، ورحمتُه شاملة لهم، فاستوى على أوسَع المخلوقات بأوسع الصِّفات[10].
التأمُّل في آيات الله وأفعاله الدالَّة على رحمته:
ومن تأمَّل في مخلوقات الله فإنَّه سيرى آثارَ الرَّحمن ظاهرة؛ فما من مخلوق في السموات والأرض إلَّا ويمكن أن تَصِل عن طريق التأمُّل في حاله إلى معرفة رحمةِ الله بخلقه.
[1] رواه أبو داود (4986)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4172).
[2] رواه النسائي (3940)، وأحمد (3 / 128)، وصححه ابن حجر في فتح الباري (3 / 11، 15 / 345)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3681).
[3] مجموع الفتاوى (28 / 31)، وهي رسالة يتحدَّث فيها عن نعم الله عليه وهو في السجن.
[4] الموافقات (2 / 240)، وحديثه عن أضرب الناس في تأثرهم من خوضهم في العمل الشاق، وانظر: كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة، (مع مجموعة رسائل لابن رجب ت: عادل العزازي 108).
[5] رواه مسلم (395).
[6] انظر: "كتاب الصلاة"؛ لابن القيم (171)، وما بعدها.
[7] مجموع الفتاوى (22 / 606).
[8] رواه البخاري (16)، ومسلم (43).
[9] الأسماء التي يرجع إليها جميع الأسماء والصِّفات ثلاثة، وهي: الله، الرب، الرحمن، ومن العلماء من يعيدها إلى الله والرحمن، ومعلوم أنَّ جميعها يرجع إلى لفظ الجلالة الله، انظر: مجموع الفتاوى (1 / 379)، "مدارج السالكين" (1 / 13، 42)، الفوائد (43)، فتح الباري (10 / 571).
[10] انظر: "مدارج السالكين" (1 / 42)، تفسير القرآن العظيم (1 / 22)، وقيل: الرحمن مَن الرَّحمة صِفتُه، والرَّحيم الرَّاحِم لعباده؛ فالاسم الأول للوصف والثاني للفِعل، وقيل: الرَّحمن ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، والرَّحيم ذو الرحمة الخاصَّة بالمؤمنين في الآخرة، وقيل: في الدنيا والآخرة؛ واستظهره الشنقيطي، انظر: "شأن الدعاء" (35 - 39)، "بدائع الفوائد" (1 / 23)، أضواء البيان (1 / 102).
الشيخ وليد بن فهد الودعان
hgjg`` fhgufh]m>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>