قال تعالي
{ ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (22) ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23) } .
أي: ومن الآيات ما جعل لكم من صفة النوم في الليل والنهار، فيه تحصل الراحة وسكون الحركة، وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار، وهذا ضد النوم ،
{ إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون }
أي: يعون
ابن كثير
--------
وفلسفة النوم، لا أن نعرف كيف ننام، إنما أن نعرف لماذا ننام؟ قالوا: لأن الإنسان مكون من طاقات وأجهزة لكل منها مهمة، فالعين للرؤية، والأذن للسمع.. الخ،
فساعة تجهد أجهزة الجسم تصل بك إلى مرحلة ليست قادرة عندها على العمل، فتحتاج أنت - بدون شعورك وبأمر غريزي - إلى أن يرتاح كأنها تقول لك كفى لم تعد صالحا للعمل ولا للحركة فنم.
ونلحظ في هذه الآية }
ومن آياته منامكم باليل والنهار وابتغآؤكم من فضله... { [الروم: 23]
فجعل الليل والنهار محلا للنوم، ولابتغاء الرزق، وفي آية أخرى:
{ ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه }[القصص: 73]
فجمعهما معا، ثم ذكر تفصيل ذلك على الترتيب
{ لتسكنوا فيه }[القصص: 73]
أي: في الليل{ ولتبتغوا من فضله }
[القصص: 73] أي: في النهار.
وهذا أسلوب يعرف في اللغة باللف والنشر، وهو أن تذكر عدة أشياء محكوما عليها، ثم تذكر بعدها الحكم عليها جملة، وتتركه لذكاء السامع ليرجع كل حكم إلى المحكوم عليه المناسب.
ومن ذلك قول الشاعر:
قلبي وجفني واللسان وخالقي راض وباك شاكر وغفورفجمع المحكوم عليه في ناحية، ثم الحكم في ناحية، فجمع المحكوم عليه يسمى لفا، وجمع الحكم يسمى نشرا.
وهاتان الآيتان من الآيات التي وقف أمامها العلماء،
ولا نستطيع أن نخرج منهما بحكم إلا بالجمع بين الآيات، لا أن نفهم كل آية على حدة، فنلحظ هنا في الآية التي معنا }
ومن آياته منامكم باليل والنهار وابتغآؤكم من فضله.... { [الروم: 23]
أن الله تعالى جعل كلا من الليل والنهار محلا للنوم، ومحلا للسعي.
وفي الآية الأخرى:
{ ومن رحمته جعل لكم اليل والنهار لتسكنوا فيه }
[القصص: 73]
ثم قال{ ولتبتغوا من فضله }
[القصص: 73]
ولم يقل (فيه) ويجب هنا أن نتنبه، فهذه آية كونية أن يكون الليل للنوم والسكون والراحة،
والنهار للعمل وللحركة،
فلا مانع أن نعمل بالليل أيضا،
فبعض الأعمال لا تكون إلا بليل،
كالحراس ورجال الأمن والعسس والخبازين في المخابز وغيرهم،
وسكن هؤلاء يكون بالنهار،
وبهذا الفهم تتكامل الآيات في الموضوع الواحد.
إذن: فقوله تعالى: }
وابتغآؤكم من فضله...
{ [الروم: 23]
يعني: طلب الرزق والسعي إليه يكون في النهار
ويكون في الليل، لكن جمهرة الناس يبتغونه بالنهار ويسكنون بالليل،
والقلة على عكس ذلك.
فإن قلت: هذا عندنا حيث يتساوى الليل والنهار،
فما بالك بالبلاد التي يستمر ليلها مثلا ثلاثة أشهر، ونهارها كذلك،
نريد أن نفسر الآية على هذا الأساس،
هل يعملون ثلاثة أشهر وينامون ثلاثة أشهر؟
أم يجعلون من أشهر الليل ونهارا،
ومن أشهر النهار أيضا ليلا ونهارا؟
لا مانع من ذلك؛ لأن الإنسان لا يخلو من ليل للراحة، ونهار للعمل أو العكس،
فكل من الليل والنهار ظرف للعمل أو للراحة.
الشعراوي