الخمس أو الست سنوات التي تلت مقتل
مودود أدَّت إلى كثير من التغييرات على الساحة السياسية والعسكرية، وكانت بحاجة إلى
وقفات تحليلة مع أحداثها، وفي وقفة وتحليل بعد
استشهاد مودود تعرضنا لبعضها، ونستكمل هذه الوقفات في هذا المقال:
الوقفة السادسة: مع إيلغازي.
إيلغازي بن أُرْتُق رجل عجيب!
وما أكثر ما نعجب منه في هذا الزمن!
إنه إيلغازي أمير مَارِدِين، وأخو سقمان بن أُرْتُق الذي مرَّ بنا موته وهو في سبيل الله.
ووجهُ العجب في حياته أننا رأيناه في حالات متناقضة كثيرة، جعلت تحليل شخصيته أمرًا صعبًا، ولقد وقفتُ كثيرًا أمام شخصيته متحيِّرًا، فلا أدري أهو من أهل الصلاح فيُمدح، أم من أهل الفساد فيُذم!
إننا قد رأيناه يتعاون في فترة من حياته مع مودود في قتال الصليبيين، ثم رأيناه يُغِير على إخوانه بغية أخذ ما معهم من غنائم! ورأيناه في فترة من فترات حياته يتحالف مع الصليبيين ليُقاتل بُرْسُق بن بُرْسُق أمير همذان كما مرَّ بنا[1]، ثم سنراه بعد ذلك يُجاهد الصليبيين جهادًا عظيمًا، بل وينتصر حتى يلفت الأنظار إليه.
إننا ذكرناه هنا لأنه سيكون من القلائل الذين يحملون راية الجهاد ضدَّ الصليبيين بعد مودود، إلى أن يتسلمها لاحقًا أحد عمالقة الجهاد في التاريخ الإسلامي، كما سنعرف لاحقًا.
الوقفة السابعة: مع مملكة بيت المقدس.
لقد كان مقتل مودود بالنسبة إلى هذه الإمارة إشارة بدءٍ لتوسُّع كبير في الأراضي الإسلامية؛ فكما رأينا أن موت مودود لم يُزِحْ عملاقًا من عمالقة الجهاد من أمام بلدوين الأول فقط، إنما أخضع كذلك طُغْتِكِين أمير دمشق؛ ومن ثَمَّ زال خطره إلى حدٍّ كبير؛ مما دفع بلدوين إلى التفكير في تثبيت ملكه بصورة أكبر، بل وتوسيعه كما سنرى.
ولننظر نظرة أكثر قربًا من بلدوين الأول لنعرف طبيعة شخصيته، وصفة أخلاقه؛ فبلدوين الأول كان متزوِّجًا من الأرمينية أردا، وكان زواجه منها -كما مرَّ بنا- أيام حكمه لإمارة الرها لغرض السيطرة على المدينة التي يسكنها كثير من الأرمن، أما الآن فليس في بيت المقدس أرمن؛ لذا لم يَعُدْ هناك فائدة لأردا الأرمينية! ومن ثَمَّ سعى بلدوين لطلاقها ليتزوَّج من زوجة
أخرى تُحَقِّق له مصالح أخرى!
ولما كان الطلاق في المذهب الكاثوليكي محرَّمًا تمامًا اتَّهم الملك بلدوين الأول زوجته بالخيانة، وتواطأ مع أسقف كنيسة بيت المقدس في ذلك الوقت، وهو صديقه أرنولف مالكورن ليتم الطلاق، وبالفعل تمَّ الطلاق، وتمَّ -أيضًا- ترحيل الزوجة المطلقة أردا إلى القسطنطينية، وخلا الجوُّ لبلدوين الأول ليعقد زيجة سياسية أخرى، حيث تزوَّج في السنة التي مات فيها مودود من أرملة روجر الأول أمير صقلية[2]، وهذا سيُحَقِّق له فائدتين كبيرتين؛ أما الأولى فهي تقوية علاقته بالنورمان الإيطاليين الأشدَّاء، وثانيًا سيستفيد من الثروة الطائلة التي تملكها الأرملة الثرية أدلياد، والتي ستنعش الخزانة الخاوية لبيت المقدس بعد المعارك المتتالية هنا وهناك[3].
وهكذا تزامن غياب مودود ثم طُغْتِكِين مع ازدياد قوَّة بلدوين العسكرية والمالية؛ مما دفعه إلى توسيع الطموحات؛ وقد ظهر ذلك في احتلال منطقة وادي عربة جنوب البحر الميت، وشيَّد هناك حصن الشوبك ليُسيطر بذلك على القوافل المتجهة من الشام إلى مصر أو الحجاز، وكان ذلك في سنة (509هـ= 1115م)[4].
في العام التالي (510هـ= 1116م) اخترق بلدوين الأول صحراء النقب بكاملها، واحتلَّ (أيلة) على مضيق العقبة؛ حيث بَنَى هناك قلعة مهمة جدًّا للسيطرة على القوافل في هذه المنطقة، وخاصةً المتجهة من الشام إلى الحجاز، أو من مصر إلى الحجاز[5]، كما بنى قلعة أخرى في جزيرة فرعون في داخل خليج العقبة نفسه، ولا شكَّ أن هذه السيطرة أعطت له إشرافًا مباشرًا على الحدود بين فلسطين ومصر، كما أعطت له منفذًا في غاية الأهمية على البحر الأحمر[6].
وهكذا استطاع بلدوين الأول في غياب الجهاد الإسلامي أن يُسيطر على كل فلسطين باستثناء مدينة عَسْقَلان، كما سيطر على النصف الجنوبي من لبنان باستثناء مدينة صور، وهذه هي حدود مملكة بيت المقدس بعد ذلك[7].
بل إن بلدوين الأول في وجود حالة الصمت الإسلامي تجرَّأ على ما هو أكثر من ذلك؛ حيث قرَّر غزو مصر بفرقة صغيرة جدًّا من جيشه! فاقتحم سيناء، وأسقط العريش بسهولة بالغة، بل واصل السير حتى احتلَّ الفرما (بالقرب من بورسعيد الآن)[8]، وأحرق ديارها ومساجدها[9]، ولولا أنه أُصيب بمرض خطير في هذا التوقيت لكان قد أكمل طريقه، غير أنه عاد بسبب مرضه، وكانت هذه الأحداث في سنة (512هـ= 1118م)[10].
الوقفة الثامنة: مع إمارة الرها.
تنفَّست هذه الإمارة الصُّعَدَاء بعد وفاة مودود، خاصةً بعد تولِّي أمراء ليسوا على الدرجة نفسها من الكفاءة العسكرية والسياسية، وأدَّى هذا إلى توسُّع إمارة الرها في المدن المحيطة، فأسقط بلدوين دي بورج في سنة (510هـ= 1116م) مدينتي كَيْسُوم ورَعْبَان[11]، ثم مدينة البِيرَة في سنة (511هـ= 1117م)[12]، ثم أخيرًا وفي العام نفسه أسقط قلعة قورس الخطيرة في شمال حلب؛ ليكون بذلك مهدِّدًا لإمارة حلب، ومترقِّبًا لأيِّ فرصة تسمح بإسقاطها، وهكذا صارت حلب واقعة تحت تهديد إمارتي الرها وأنطاكية معًا[13].
الوقفة التاسعة: مع إمارتي أنطاكية وطَرَابُلُس.
لم يطرأ عليهما تغيير يُذكر في هذه الفترة؛ إلا أنهما أخذتا وقتًا كافيًا لتدعيم قوتيهما، وتجديد قلاعهما وأسوارهما، وكذلك تكثير جيوشهما استعدادًا لتوسُّع مرتقب، واستمرَّ روجر الأنطاكي على زعامة أنطاكية، بينما استمرَّ بونز بن برترام على حكم طَرَابُلُس.
الوقفة العاشرة: مع الأرمن في المنطقة الشمالية.
بعد وفاة مودود شعر بلدوين دي بورج أمير الرها بكثير من الأمان، ورأى أن أحوال الرها قد ساءت جدًّا نتيجة قتل وطرد الأرمن الذين كانوا يُمَثِّلون صُلْب المدينة وعمودها الفقري؛ ومن ثَمَّ لم يخشَ بلدوين دي بورج من إعادة استقدام الأرمن ليعيشوا مرَّة أخرى في بلاد الرها بعد زوال خطر مودود، ولم يتردَّد الأرمن في قبول الدعوة من بلدوين دي بورج؛ حيث حانت لهم الفرصة للعودة إلى ديارهم ومزارعهم، ولكن ليس هناك من شكٍّ أنهم عادوا وهم يُضمرون كل الكراهية للصليبيين، كما كانوا يتوجَّسُون منهم خيفة أن يعيدوا الكَرَّة مرَّة أخرى، فتتكرَّر المأساة الأليمة[14].
وإذا كان هذا هو وضع الأرمن الذين كانوا يعيشون في الرها، فإن الأرمن خارج حدود الرها كانوا على خلاف ذلك يرفضون التعاون مع الصليبيين، بل إن أرملة كوغ باسيل -الذي مات في سنة (506هـ= 1112م)- لم تتردَّد في أن تطلب صراحة من آق سنقر حاكم الموصل في سنة (508هـ= 1114م) أن تنضمَّ إليه بشعبها في مقابل جزية تدفعها له كدلالةٍ على التبعية[15]!
وهذه أدلَّة متكرِّرَة تُثبت أن الأرمن النصارى كانوا يطمئنُّون إلى المسلمين وإلى رحمتهم وعدلهم أكثر ألف مرَّة من اطمئنانهم لإخوانهم النصارى من الصليبيين!
إذن في الخمس أو الست سنوات التي أعقبت وفاة المجاهد العظيم مودود حدثت عدَّة تغيُّرات جذرية في المنطقة، كانت في معظمها تصبُّ في خدمة وتدعيم موقف الصليبيين، وحدثت عدَّة تغييرات سياسية في الإمارات الإسلامية لم تكن في معظمها إيجابية، اللهم إلا موت رضوان بن تتش زعيم حلب، والذي خلَّص المسلمين من طاغيةٍ متكبِّر.
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/159.
[2] Setton: op. cit. 1, p. 102 & Guillaum de Tyr, pp. 473-474.
[3] Cam. Med. Hist. vol. 5, p. 184.
[4] Grousset: L`Empire du Levant, p. 213 & Runciman: op. cit., ll, pp. 97-98.
[5] Setton: op. cit., 1, p. 406.
[6] Albert d`aix, p. 703.
[7] Grousset: Hist. des Croisades 1, pp. 283.
[8] Albert d`aix, p. 705.
[9] أبو المحاسن: النجوم الزاهرة 5/171.
[10] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/178.
[11] Matthieu d`Edesse, pp. 116-117.
[12] Setton: op. cit., 1, p. 405.
[13] Cam. Med Hist vol 5, p. 301.
[14] Grousset: Hist. des Croisades 1, pp. 491.
[15] ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/153، 154.
د. راغب السرجاني
,rthj Hovn fu] hsjaih] l,],] lîRn g,n,ï hsjaih] èXï /…/ˆ'¯/ˆ'¯ /ˆ/‚/پ'§'ھ ,rthj '£'®'±/‰ '§'³'ھ'´/‡'§'¯ '¨'¹'¯