بلغت الأندلس مكانة سامقة في العالم أجمع في عهد ذلك الخليفة الكبير.. عبد الرحمن الناصر، حتى كان ملوك أوروبا يخطبون وده، ويسارعون لإقامة علاقات معه، ومما يدل على قوة الأندلس في عهده، يقول ابن خلدون ذكر الثقات من مؤرخي الأندلس أن عبد الرحمن الناصر خلف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار. ويقول ابن خلدون: وانتهى أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها ..!!
وقد نظر عبد الرحمن الناصر رحمه الله إلى العالم الإسلامي من حوله فوجد الخلافة العباسية قد ضَعُفت، ثم نظر رحمه الله إلى الجنوب فوجد الفاطميين قد أعلنوا الخلافة وسمَّوا أنفسهم أمراء المؤمنين، فرأى أنه - وقد وحَّد الأندلس، وصنع هذه القوة العظيمة - أحق بهذه التسمية وبذلك الأمر منهم فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأمويّة بالخلافة الأموية.
ومن هنا يبدأ عهد جديد في الأندلس هو عهد الخلافة الأموية ، وذلك ابتداء من سنة 316هـ= 928م وحتى سنة 400 هـ= 1010 م أي نحو أربع وثمانين سنة متصلة..
وستعود الأندلس كما كانت أرضًا إسلامية إن شاء الله..
وللحديث بقية..
وفي عصر عبد الرحمن الناصر بلغت قرطبة أوج عظمتها، وتألقها الحضاري وخاصة بعد أن أعلنها عبد الرحمن الداخل عاصمة له وجعلها مركزًا للعلم والثقافة والفنون والآداب في أوروبا كلها، وقام بدعوة الفقهاء والعلماء والفلاسفة والشعراء إليها، في حين كانت أوروبا ما تزال غارقة في أعماق التأخر والجهل والانحطاط..
وقد نافست قرطبة آنذاك بغداد عاصمة العباسيين والقسطنطينية عاصمة البيزنطيين والقاهرة عاصمة الفاطميين، ووصل سفراء البلاط القرطبي بلادًا بعيدة جدًا كالهند والصين، وتقاطر على قرطبة مبعوثون ومندوبون عن أباطرة البيزنطيين وألمانيا وملوك كل من فرنسا وإيطاليا والممالك الأخرى في أوروبا وشمال أسبانيا، وزعماء البربر ورؤساء القبائل الإفريقية..!
قامت في عهد عبد الرحمن الناصر أروع حضارة عرفتها البشرية في تاريخها القديم ، استهلَّها رحمه الله بإنشاء هياكل إدارية عظيمة، وأكثرَ من الوزارات والهيئات، وجعل لكل أمر مسئولاً، ولكل مسئول وزارة كبيرة تضمُّ عمالاً كثيرين وكتَبَة، وهذه نُبذَة عن أهم جوانب الحياة الحضارية في عصره..
الجانب المعماري
كان من أهم ما يميز الناحية المعمارية في عهد عبد الرحمن الناصر تلك المدينة العظيمة التي أنشأها وأطلق عليها اسم مدينة الزهراء ، وهي تقع في الشمال الغربي لمدينة قرطبة ، وكان قد اضطُرَّ لإنشائها حتى يتسنَّى له استقبال الوفود الكثيرة التي كانت تأتي إليه من كل بلاد العالم تخطب ودّه رحمه الله.
كانت مدينة الزهراء على طراز رفيع جدًا، وقد استجلب لها عبد الرحمن الناصر - رحمه الله - موادَّ من القسطنطينية ومن بغداد ومن تونس ومن أوروبا، وقد صُمِّمت على درجات مختلفة: فكانت هناك درجة سفلى وهي للحراس والكَتَبَة والعمال، ثم درجة أعلى وهي للوزراء وكبار رجال الدولة، ثم أعلى الدرجات في منتصف المدينة وفيها قصر الخلافة الكبير.
وفي مدينة الزهراء أنشأ عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء ، ذلك القصر الذي لم يبقَ في التراث المعماري الإسلامي أبدًا مثلُه، فقد بالغ في إنشائه حتى أصبح من معجزات زمانه، فكان الناس يأتون من أوروبا ومن كل أقطار العالم الإسلامي كي يشاهدوا قصر الزهراء في مدينة الزهراء.
وهذه أيضا مدينة قرطبة وقد اتسعت جدًا في عهد عبد الرحمن الناصر، وبلغ تعداد سكانها نصف مليون مسلم، وكانت بذلك ثاني أكبر مدينة في تعداد السكان في العالم بأسره بعد بغداد المدينة الأولى، والتي كان تعداد سكانها يبلغ مليونين..!
( الأندلس من الفتح إلى السقوط. د. راغب السرجاني )
فسبحان من يغير ولا يتغير، وما علينا إلا أن نأخذ العبرة والعظة..