تحدثنا في اللقاءات السابقة عن الإنتصار الكبير للمسلمين في غزوة بدر وكان في شهر رمضان , ثم فتح القسطنطينية وكان أيضا في شهر رمضان , ثم عن إنتصار العاشر من رمضان.
******
وامتاز شهر رمضان عن باقي الشهور أنه الشهر الوحيد الذي ذكر اسمه في القرآن , وأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن العظيم المعجزة الباقية أبدا.. إنك لو نظرت إلى أحوال العرب قبل نزول القرآن وبعد نزوله لأدركت مدى هذا التأثير العظيم. قال تعالى :
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل من الجبال, ففهم ما فيه مِن وعد ووعيد, لأبصَرْته على قوته وشدة صلابته وضخامته، خاضعًا ذليلا متشققًا من خشية الله تعالى. وتلك الأمثال نضربها, ونوضحها للناس ؛ لعلهم يتفكرون في قدرة الله وعظمته. وفي الآية حث على تدبر القرآن, وتفهم معانيه, والعمل به.
حيث ورد في ذلك الكتاب, أولا : عقيدة التوحيد , وأسماء و صفات الجلال لله تعالى... فإن عقيدة التوحيد هبة خالصة من الله تعالى للبشر . عرفها لهم عن طريق الرسل , ولم يتدرج الإنسان في هذه المعرفة كما تدرج في الصناعات .. فقد جاءت الرسالات الإلهية منذ فجر التاريخ كاملة حاسمة في دعوة التوحيد . وإن دعوة الرسل جميعا من لدن أدم إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وأله وسلم , لا إله إلا الله ثانيا : شريعة متكاملة صالحة لكل زمان ومكان , ودارسي القانون يعلمون أن الشرائع تتكون عبر مئات السنين , ولا تكتمل . فمن جاء بشريعة الإسلام المتكاملة بهذا المستوى الراقي الذي يشيع العدل والأمان في المجتمعات الإنسانية. ثالثا : جاء القرآن بدستور للأخلاق رفيعا عاليا, شهد له العالم, فدخلوا في دين الله أفواجا بسبب تلك الأخلاق. رابعا : جاء بأخبار الأمم السابقة التي لايعرفها إلا متخصصون في علوم التاريخ , خامسا : أخبار الدار الأخرة , من أين لبشر معرفتها ؟ سادسا : بيان بدأ الخلق . حيث لا يستطيع عقل بشري أن يخوض في ذلك الأمر. سابعا : به من العلوم تم إكتشافها حديثا , ومازال عطاء القرآن متجدد في هذا المجال . ثامنا : القرآن معجز في بيانه ونظمه وترتيب آياته . وقد أعجز العرب والعجم أن يأتوا بمثله . قال تعالى :
قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ -107 الأنبياء
والله تعالى- وحده- هو العزيز الغالب على كل شيء, الحكيم في أقواله وأفعاله. ذلك البعث للرسول صلى الله عليه وسلم, للعالمين, فضل من الله, يعطيه مَن يشاء من عباده. وهو - وحده- ذو الإحسان والعطاء الجزيل.
جاء في الحديث: عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستكون فتنة . قلت : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله, فيه نبأ ما قبلكم, و خبر ما بعدكم, و حكم ما بينكم, هو بالفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, و من ابتغى الهدى في غيره أضله الله, وهو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم, وهو الذي لا تزيغ به الأهواء, و لا تلتبس به الألسن, و لا يخلق على كثرة الرد, و لا تنقضي عجائبه, من قال به صدق, ومن عمل به أجر, ومن حكم به عدل, ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم الراوي: علي بن أبي طالب المصدر: حقوق آل البيت - الصفحة أو الرقم: 22 خلاصة الدرجة: مشهور
الشكر: تصور النعمة وإظهارها, ويضاده الكفر، وهو: نسيان النعمة، وسترها، ودابة شكور: مظهرة بسمنها إسداء صاحبها إليها، وقيل: أصله من عين شكرى، أي: ممتلئة، فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه.
والشكر ثلاثة أضرب:
أولا : شكر القلب، وهو تصور النعمة. ثانيا : وشكر اللسان، وهو الثناء على المنعم. ثالثا : وشكر سائر الجوارح، بفيض ما أنعم الله به عليك على العباد , فإن جاد عليك بالقوة فعليك مساعدة الضعفاء وأن جاد عليك بالغنى فعليك مساعدة الفقراء وإن جاد عليك بالعلم فعليك تعليمه للناس وهكذا في كل أمور الحياة التي أفاض الله عليك منها بنعمه الكثيرة. وقال: اعملوا ولم يقل اشكروا؛ لينبه على التزام الأنواع الثلاثة من الشكر بالقلب واللسان وسائر الجوارح. وإذا وصف الله تعالى بالشكر في قوله ( والله شكور حليم ) – 17 التغابن فإنما يعني به إنعامه على عباده، وجزاؤه بما أقاموا من العبادة . والشكير: نبت في أصل الشجرة غض، وقد شكرت الشجرة: كثر غصنها. . ومعنى الشكر لله أي العطاء يكون خالصا لوجه الله , وليس رياءا.
*******
ولذلك قال عبدالله بن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان ، حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن : فإذا لقيه جبريل عليه السلام ، كان أجود بالخير من الريح المرسلة . الراوي: عبدالله بن عباس المصدر: صحيح البخاري
وهذا يلك على التطبيق العملي للشكر.. فكل مبادئ الإسلام حقائق وعمل يعود بالخير الوفير على الأمة وسائر البشر..
*******
والشكور اسم من أسماء الله الحسنى
الشكور هو الذي يعطي الجزيل والكثير على العمل القليل , ويجازي على يسير الطاعات بكثير الدرجات , ويعطي بالعمل المحدود نعيما غير محدود....
إضافة العباد إليه سبحانه , والرد المباشر عليهم منه . . فلم يقل : فقل لهم : إني قريب . . إنما تولى بذاته العلية الجواب على عباده بمجرد السؤال . . قريب . . ولم يقل اسمع الدعاء . . إنما عجل بإجابة الدعاء : ( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) . .
أخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن ميمون - بإسناده - عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : " إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبين " .
وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - بإسناده - عن ابن ثوبان : ورواه عبد الله بن الإمام أحمد - بإسناده - عن عبادة بن الصامت : أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال:" ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل بدعوة إلا آتاه الله إياها , أو كف عنه من السوء مثلها , ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم " .
وفي الصحيحين : أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل . يقول:دعوت فلم يستجب لي ..
وفي صحيح مسلم : عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم ...
وبهذا اليقين الآيماني يعيش المؤمن وقلبه متعلق بدعاء خالقه سبحانه الذي لا تنفد خزائنه ولا يرد السائلين..
فالمؤمن يتربى في مدرسة الإخلاص لله ( الصيام ) ففي الحديث القدسي : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ،فإنه لي وأنا أجزي به ) رواه البخاري.
فيشعر المؤمن بالنور يملأ قلبه والود المؤنس , والرضى المطمئن , والثقة واليقين . . ويعيش منها المؤمن في ملاذ أمين وقرار مكين . وفي ظل هذا الأنس الحبيب , وهذا القرب الودود , وهذه الاستجابة . . يوجه الله عباده إلى الاستجابة له , والإيمان به , لعل هذا أن يقودهم إلى الرشد والهداية والصلاح .
تحدثنا في اللقاء السابق عن الدعاء وأنه اليقين بين المؤمن وخالقه سبحانه. وهناك العديد من نماذج الأدعيه ذكرت في القرآن العظيم , وقبل أن نورد بعضها نتحدث عن ليلة القدر وخاصة أننا نعيش أيامها.
وهي ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب نبينا محمد ـ صلى الله عليه وأله وسلم ـ ليلة ذات الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعاً . والعظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري.
وإنها لمباركة حقاً تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية , والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر ; تستجيب لها الفطرة السليمة ; وتقيم على اساسها عالماً إنسانياً مستقراً على قواعد الفطرة واستجاباتها , متناسقاً مع الكون الذي يعيش فيه , طاهراً نظيفاً كريماً ; يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين.
ولقد عاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عظيمة في كنف السماء , موصولين مباشرة بالله ; يطلعهم أولاً بأول على ما في نفوسهم ; ويشعرهم أولاً بأول بأن عينه عليهم , ويحسبون هم حساب هذه الرقابة , وحساب هذه الرعاية , في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم ; ويلجأون إليه أول ما يلجأون , واثقين أنه قريب مجيب. وقد انسحب ذلك الإيمان في كل معاملاتهم وأخلاقهم .
ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتاباً مفتوحاً موصولاً بالقلب البشري , يصنع به حين يتفتح له ما صنعه في قلوب المؤمنين الأوائل ; خير أمة أخرجت للناس , نشروا رسالة ربهم في ربوع الأرض في أقل من ثلاثين سنة , مع السيادة المطلقة كدولة أولى في العالم استمرت أكثر من عشرة قرون متتالية..
وبقي هذا القرآن منهجاً واضحاً كاملاً صالحاً لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان . حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز الطابع , بكل خصائصه دون تحريف . وهذه سمة المنهج الإلهي وحده . الذي يحمل طابع الدوام والكمال , والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين .
وهذه الليلة المباركة بنزول هذا القرآن كانت فيصلاً وفارقاً بهذا التنزيل:
( فيها يفرق كل أمر حكيم )
وقد فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر , وفصل فيها كل شأن , وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق , ووضعت الحدود , وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين ; فلم يبق هناك أصل من الأصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح . فالقرآن العظيم أنار العقول والقلوب بنور العلم والإيمان.
ومع الليلي الأخيرة من الشهر المبارك نتحرى فيها ليلة القدر.
وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، ليلة القدر ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ) . صحيح الراوي: عبدالله بن عباس المصدر: صحيح البخاري
نسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام وصالح الأعمال, وأن يلهم الأمة رشدها وأن يعيد علينا هذا الأيام وقد توحدت الأمة على الخير.