وخباب بن الأرت رضي الله عنه ليس من أهل مكة الأصليين، بل هو تميمي أو خزاعي، وتعرَّض للسبي في الجاهلية، وبِيع في مكة، ثم صار مولًى لأم أنمار الخزاعية حليفة بني زهرة؛ ومن ثَمَّ فلم يكن له قبيلة تمنعه من العذاب، وكانت أم أنمار وقومها يُعَذِّبونه تعذيبًا شديدًا، ولعلَّ أم أنمار -لكونها حليفة وليست من أهل مكة الأصليين- كانت تُبَالغ في تعذيب خباب؛ وذلك لإرضاء زعماء مكة وكبرائها. يقول طارق بن شهاب رضي الله عنه: «كَانَ خَبَّابٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللهِ عز وجل»([1]).
ومن المواقف التي تُبرز درجة هذا العذاب القصة التي رواها الشعبي([2]) رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمان إمارته، وفيها مقارنة بما مرَّ به خباب من عذاب بالقياس إلى بلال رضي الله عنهما.
يقول الشعبي: «دخل خباب بن الأرت على عمر بن الخطاب فأجلسه على متكئه، فقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد. قال له خباب: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال. قال: فقال له خباب: يا أمير المؤمنين! ما هو بأحقَّ مني، إن بلالاً كان له في المشركين من يمنعه الله به ولم يكن لي أحد يمنعني؛ فلقد رأيتني يومًا أخذوني وأوقدوا لي نارًا، ثمَّ سلقوني فيها، ثمَّ وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض -أو قال: برد الأرض- إلا بظهري، ثمَّ كشف عن ظهره فإذا هو قد برص([3])»([4]).
وفي رواية عن الشعبي كذلك قال: «سأل عمر رضي الله عنه بلالًا عمَّا لقي من المشركين؟ فقال خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري. فقال عمر: ما رأيتُ كاليوم. قال: أوقدوا لي نارًا فما أطفأها إلا وَدَكُ([5]) ظهري»([6]).
وفي هذه الروايات نُدرك أن أمر بلال رضي الله عنه هو الذي اشتُهر في مكة كما بَيَّنَّا قبل ذلك، حتى صار عمر رضي الله عنه لا يعرف أحدًا عُذِّب مثله، ولكننا اطلعنا الآن على مثال جديد مشابه لحالة بلال رضي الله عنه، وهو مثال البطل خباب بن الأرت رضي الله عنه.
ومن وجهة نظر خباب رضي الله عنه -كما رأينا- أنه عُذِّب أكثر من بلال رضي الله عنه، وبرَّر ذلك أن بعض المشركين كانوا يُدافعون عن بلال رضي الله عنه؛ بينما لم يُدافع عنه أحد، والحقُّ أننا لا نعرف روايات ذكرت أمر هذا الدفاع عن بلال رضي الله عنه، ولعلَّه كان أمرًا عابرًا لم يحتفظ به التاريخ لكون بلال أُعْتِق سريعًا على يد الصدِّيق رضي الله عنه كما سيأتي، فلم نعرف مَنْ مِن المشركين كان يمنعه أحيانًا، أما خباب رضي الله عنه فمن الواضح أن سيدته أم أنمار كانت ترفض بيعه أو الكفَّ عن تعذيبه حرصًا على علاقاتها السياسية والاجتماعية مع قادة مكة.
وغير قصة بلال بن رباح وخباب بن الأرت رضي الله عنهما تأتي روايات ضعيفة تشرح تعرُّض بعض المؤمنين والمؤمنات للتعذيب؛ مثل زنيرة والنهدية وأم عبيس وأبو فكيهة وإحدى الجواري لبني مؤمل؛ ولكن كل هذه الروايات لا ترقى إلى درجة الصحيح، والله أعلم.
([1]) البيهقي: شعب الإيمان (1511)، وابن أبي شيبة: المصنف (33871)، وأبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 1/359، وقال الصوياني: رواه أبو نعيم في الحلية بسند صحيح. انظر: السيرة النبوية 1/92.
([2]) الشعبي: هو عامر بن شراحيل، أبو عمرو الهمداني، الإمام، علامة العصر، من كبار التابعين، أدرك خلقًا من الصحابة وروى عنهم، قال عن نفسه: أدركت خمسمائة من الصحابة. كان إمامًا حافظًا فقيهًا متفننًا، ثبتًا، متقنًّا، اتصل بعبد الملك بن مروان؛ فكان نديمه وسميره، أرسله سفيرًا في سفارة إلى ملك الروم، خرج مع ابن الأشعث فلمَّا قدر عليه الحجاج عفا عنه في قصة مشهورة، مات سنة 104هـ على المشهور. انظر: ابن عساكر: تاريخ دمشق 25/335، والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/63.
([3]) برص أي: صار أثر النار أبيض كالبرص. الحلبي: إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون 1/426.
([4]) ابن سعد: الطبقات الكبرى، 3/123، والبلاذري: أنساب الأشراف 1/178، وابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 5/138، وقال الصوياني: رواه ابن سعد... الإسناد ظاهره الإرسال لكن له شواهد كثيرة ترفعه إلى درجة الحسن. انظر: السيرة النبوية 1/92.
([5]) الودك: الدسم أو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه وشحم الألية والجنبين. ابن منظور: لسان العرب، 10/509، والمعجم الوسيط 2/1022.
([6]) أبو نعيم الأصبهاني: حلية الأولياء 1/144، وقال الصوياني: رواه أبو نعيم... وظاهر هذا السند الإرسال لكن يشهد له ما سبق. انظر: السيرة النبوية 1/93.
hsjh` tk hgt]hx>>>>>>>>>>ofhf fk hghve>>>> hlhvm hgt]hxofhf çQêçW