ثانيا: الموقف
هول المطلع
لما طُعِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له رجل: إني لأرجو أن لا تمس جلدك النار، فنظر إليه، ثم قال:
« إن المغرور لمن غررتموه، والله لو أن لي ما على الأرض لافتديت به من هول المطلع».
وهول المطلع يريد به عمر موقف الناس يوم القيامة، وما يشرِفون عليه من أهوال الآخرة.
التوازن بين الخوف والرجاء!
رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كعبا يوما قد استرسل في تحديث الناس بأحاديث الرجاء، فقال له:
ويحك يا كعب! إن هذه القلوب قد استرسلت، فاقبضها، فقال كعب:
«والذي نفسي بيده، إن لجهنم يوم القيامة لزفرة ما من ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا يخرُّ لركبتيه، حتى إن إبراهيم خليل الله ليقول: نفسي نفسي، حتى لو كان لك عمل سبعين نبيا لظننت أنك لا تنجو».
الوقاية من هول المطلع!
لما حضر عنبسة بن أبي سفيان الموت اشتد جزعه، وجاء الناس يعودونه، فجعل عنبسة يبكي ويجزع، فقال له القوم: يا أبا عثمان .. ما يبكيك وما يحزنك وقد كنت على سمت من الإسلام حسن وطريقة حسنة؟ فازداد حزنا وشدة بكاء، وقال:
ما يمنعني أن لا أبكي وأن لا يشتد حزني من هول المطلع، وما يدريني ما أشرف عليه غدا، ما قدَّمتُ من كثير عمل تثق به نفسي أنه سينجيني غدا، وإن أوثق شيء في نفسي لكلمات حدثتني بها أختي أم حبيبة بنت أبي سفيان، حدثتني أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد على فراشها يقول:
«ما من مسلم يحافظ على أربع ركعات قبل صلاة الظهر وأربع بعدها، فتمسُّه النار بعدهن إن شاء الله أبدا»، فما تركتهن بعد إلى ساعتي هذه، وإنها لأوثق خصال في نفسي.
أرض الموقف:
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«يُحْشَر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَة النَّقِيِّ، ليس فيها عَلَمٌ لِأحد».
صحيح مسلم رقم: 2790
ومعنى عفراء أي بيضاء مشوبة بحُمْرة، وقرصة النقيِّ أي كرغيف مصنوع من دقيق خالص من القش والنخالة، والأرض يومئذ ليس فيها أي علامة يُستَدلُّ بها، وليس فيها ما يستر البصر.
قال القاضي عياض:
«ليس فيها علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثَر، ولا شيء من العلامات التي يهتدي بها في الطرقات، كالجبل والصخرة البارزة».
قال تعالى:
(يوم تبدل الأرض غير الأرض) [إبراهيم: 48]:
وسواء كان التبديل في ذات الأرض أو في صفاتها؛ فإن الذي يعنينا أن أرض الدنيا قد انقطعت العلاقة معها، وأن الأولين والآخرين من جميع الخلائق سيُجمَعون في صعيد واحد على أرض جديدة عجيبة، ومن عجائب هذه الأرض ما ذكره عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
«تبدَّل الأرض أرضًا، كأنها فضة، لم يُسفَك فيها دم حرام، ولم يُعمَل عليها خطيئة».
وذكروا في حكمة نقاء أرض المحشر وانبساطها: أن يوم القيامة يوم عدل وظهور حق؛ فاقتضت حكمة الله أن يكون المحل الذي يقع فيه الحساب مطهَّرا من المعاصي والظلم (لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ) وليكون تجليه سبحانه على عباده المؤمنين على أرض طاهرة تليق بعظمته.
من هو أول الخلق حياة بعد النفخة الثانية؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إِنِّي أَوَّلُ مَنْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْآخِرَة» . صحيح البخاري رقم: 4813
وفي صحيح مسلم:
«أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر» .
ثم يقوم من بعده الخلق أجمعون، ويقفون في يوم عظيم طويل مقداره خمسين ألف سنة.
ويحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلا –أي غير مختونين- فحتى هذه الجلدة التي تم نزعها من الرجل والمرأة أثناء الختان ترد إليك لتُبعَث بها، هذه القلفة نزعت منك منذ أربعين أو خمسين أو ستين عاما، وألقيت في القمامة، فذابت وانتهى أمرها منذ عشرات السنين، ثم تبعث وتبعث معك بعد مئات أو آلاف السنين، ألا يدل هذا على أن الله تعالى قادر على الإحياء بعد الإماتة؟
جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
«يا رسول الله! ينظر بعضهم إلى بعض! قال: يا عائشة الأمر أعظم من ذلك وأكبر من ذلك».
وفي رواية عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، واسوأتاه .. ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: شُغِل الناس، قلت: ما شُغْلُهم؟ قال: «نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل».
أول من يُكْسَى من الخلق إبراهيم:
في صحيح البخاري ومسلم:
«وإن أول الخلائق يُكسَى يوم القيامة إبراهيم». صحيح البخاري رقم: 4625 ومسلم رقم: 2860
لكن .. ألا يتعارض هذا مع ما جاء في الحديث أن الإنسان يُبعَث في الثياب التي مات فيها:
«إِنَّ الْمَيِّت يُبْعَث في ثيابه التي يموت فيها». السلسلة الصحيحة رقم: 1671
جمع الإمام ابن حجر بين هذه الأحاديث بأن بعضهم يحشر عاريا، وبعضهم كاسيا.
أو يحشرون كلهم عراة، ثم يكون أول من يُكسَى الأنبياء، فأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيُحشَرون عراة، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم.
حال الناس مع وقفة يوم القيامة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
قال: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه«. البخاري رقم: 4938 ومسلم رقم: 2862
وفي لفظ آخر:
«حتَّى يغيب أَحَدُهُم في رَشْحِه إلى أنصاف أذنيه«.
وكثرة العرق يوم القيامة لا يتصورها عقل، ففي صحيح مسلم:
«إن العَرَق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم«.
صحيح الجامع رقم: 1679
أي ينزل فيها من كثرته شيء كثير جدا، فالسبعين في الحديث للتكثير لا للتحديد.
ويتفاوت الناس في العرق بحسب معاصي كل عبد، فالغارق في المعاصي يُلجِمه العرق إلجاما، وتفصيله خرَّجه مسلم من حديث المقداد، عن النَّبيِّ ^ قال:
«فيكونون في العَرَق كقدر أعمالهم، فمنهم مَنْ يأخذه إلى عَقِبَيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حَقْويْهِ، ومنهم من يُلجمه إلجاما».
وورد إشكال هنا:
إن الجمع إذا وقفوا في ماء على أرض معتدلة، فإنها تغطيهم على السواء، ولا يتفاوتون، وأجيب عن هذا بأن هذا من خوارق العادات يوم القيامة، والإيمان بها من الواجبات.
وسبب كثرة العرق دنو الشمس من الرؤوس مع تزاحم الخلق، فتدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، وسواء كان الميل هو وحدة قياس المسافة المعروفة أو أو الميل الذي تُكْتَحَلُ به العين، فإن المسافة قريبة قريبة، ويستمر هذا الحال خمسين ألف سنة، لا يذوقون فيها طعاما، وما شربوا شراباً حتى تتقطع الأكباد من العطش.
الأجساد تختلف!
اقتراب الشمس في الدنيا مترا واحدا من الأرض يحرق الأرض بمن عليها، لكن اقترابها جدا من الارض يوم القيامة، لا يُحدِث هذا الأثر، فالأجساد غير الأجساد.
لكن ابشروا!
فالمؤمنون في مأمن من كل هذا، ولذا قال سلمان الفارسي رضي الله عنه عن حر الشمس:
«ولا يجد حَرَّها مؤمن ولا مؤمنة».
قال القرطبي يشرح قول سلمان:
«إن هذا لا يضر مؤمنا كامل الإيمان أو من استظل بالعرش».
ومن استظل بظل العرش سبعة كما ورد في صحيح الأحاديث. قال الإمام ابن أبي شامة المقدسي:
وقال النَبِيُّ المُصطَفى إِنَّ سَبعَةً .. يُظِلُّهُم اللَه العَظيمُ بِظِلِّهِ
مُحِبٌّ، عَفيفٌ، ناشئٌ، مُتَصَدِّقٌ .. وَباكٍ، مُصَلٍّ، والإِمامُ بِعَدلِه
أضف إليها من أنظر معسرا أو وضع دينا عن مدين.
في الحديث:
«من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله».
صحيح الجامع رقم: 6106
لكن ماذا عن طول يوم القيامة؟!
آلاف السنوات تمر على المؤمنين يوم القيامة كأنها ساعات، أليس الله على كل شيء قدير؟!
لقد مات عزير مائة عام ثم بعثه الله، ونام أصحاب الكهف ما يزيد أكثر من ثلاثمائة عام ثم بعثهم، فلما سئلوا: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر». صحيح الجامع رقم: 8193
تعب اليوم وإلا تعب الغد!
قال الإمام الغزالي:
«وكل عرَق لم يخرجه التعب في سبيل الله من حج، وجهاد، وصيام، وقيام، وتردد في قضاء حاجة مسلم، وتحمل مشقة في أمر بمعروف ونهي عن منكر، يستخرجه الحياء والخوف في صعيد يوم القيامة».
وهذا مصداق قول الله تعالى عن أهل النار:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) [الغاشية: 2-3]:
لم يخشعوا في الدنيا، فخشعوا في الآخرة، ولم يتعبوا في الدنيا، فتعبوا يوم القيامة.
عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضا فبشَّره قائلا:
«أبشِر! فإن الله تعالى يقول: هي ناري أسلِّطها على عبدي المؤمن في الدنيا؛ لتكون حظه من النار يوم القيامة» .
صحيح الجامع رقم: 32 والصحيحة رقم: 557
أي مرضك هو عقوبتك المعجَّلة لما اقترفت من الذنوب، بدلا من أن تؤجَّل لك إلى الآخرة، حيث العذاب الأبقى والأشد .
دكتور خالد ابو شادي