لقد أكرم الله تعالى الطائفة المؤمنة في غزوة أحد بآيات عظيمة، وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بمعجزات باهرة، كانَتْ مُعِينًا للمؤمنين على ثباتهم رغم هزيمتهم، ومقوية لهم في مِحْنَتِهم رغم قلتهم وكثرة عدوهم. ولما اشتد الكرب على المؤمنين، وقوِيَ كَلَبُ الكافرين، وتمكنوا من رِقَاب المُؤْمِنين، وعظم خوف الصحابة رضي الله عنهم من نتائج هذه الغزوة، ودَبَّتِ الفوضى في أوساطهم، ونالهم من التعب ما نالهم، وعلاهم من الغم ما علاهم، وغشيهم من الكرب ما غشيهم؛ ألقى الله تعالى عليهم النعاس وهو النوم الخفيف؛ لينسيهم غمهم، ويزيل تعبهم، ويجدد نشاطهم، فكان ذلك كرامة من الله تعالى لهم، وسكينة عليهم: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ ﴾ [آل عمران: 154].
قال الزُّبَيْر بن العوام رضي الله عنه: "لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين اشتدَّ علينا الخوف، وأرسل علينا النوم، فما منا أحد إلا وذقنه في صدره..."[2].
وقال أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه: "كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارًا، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه"؛ رواه البخاري[3].
وفي رِوَاية قال أبو طلحـة: "رفعت رأسـي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم يومئذ من أحد إلا يميد تحت جحفته من النعاس؛ فذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ﴾ [آل عمران: 154][4].
كان من آيات الله تعالى في هذه الغزوة، وإكرامه لعباده المؤمنين: استجابته تبارك تعالى لدعاء بعضهم، وإعطاؤهم ما سألوا؛ كما روى سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه: "أن عبدالله بن جحش قال له يوم أحد: ألا نَدْعُو الله، فَخَلَوَا في ناحية، فدعا سعد فقال: "يا رب إذا لقيت العدو، فلقني رجلاً شديدًا بأسه، شديدًا حَرَدُه - أي غضبه - أقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمَّن عبدالله بن جحش، ثم قال: "اللهم ارزقني رجلاً شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا، قلـت: "يا عبدي، فيم جُدِع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت". قال سعد: "يا بني، كانت دعوة عبدالله بن جحش خيرًا من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط"؛ رواه الحاكم، وقال الذهبي: "صحيح مرسل"[5].
ولما دعا أحد المشركين على نفسه بالسوء استجاب الله دعاءه، فأصابه العذاب كما روى بُرَيْدَة رضي الله عنه: "أن رجلاً قال يوم أحد: اللهم إن كان محمدًا على الحق فاخسف بي، قال: فخسف به"؛ رواه البزار[6].
ومن الآيات العظيمة في غزوة أحد: أن الملائكة حضروها، ودافعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الشيخان من حديث سعد رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه، عليهما ثياب بيض كأشدِّ القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد"[7].
وقد ذكر العلماء أن الملائكة كانوا لحراسة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله تعالى قد وعد المؤمنين بأنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين، وكان قد فعل، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مصافهم، وترك الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوا منازلهم رفع الله عنهم مدد الملائكة، فصدقهم الله وعده، وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء[8]. وبقي من بقي من الملائكة للدفع عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه من العدو.
ومن أعمال الملائكة في أحد: أنهم غسلوا من كان جُنُبًا من الصحابة رضي الله عنهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن حنظلة ابن أبي عامر: ((إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته))، فقالت: "إنه خرج لما سمع الهائعة وهو جُنُب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لذلك غسلته الملائكة))؛ رواه الحاكم[9].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أصيب حمزة بن عبدالمطلب وحنظلة بن الراهب وهما جنب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت الملائكة تغسلهما))؛ رواه الطبراني بإسناد حسن[10].
وأظلت الملائكة عبدالله بن حرام رضي الله عنه كما روى ابنه جابرٌ رضي الله عنه قال: "لما قتل أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وينهوني عنه وهو لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تبكين أو لا تبكين، فما زالت الملائكة تُظِلُّهُ بأجنحتها حتى رفعتموه))؛ رواه الشيخان[11].
وكان رضي الله عنه حريصًا على الشهادة، طالبًا لها، صادقًا في طلبه إيَّاها، قال جابر: "لمَّا حضر أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: "ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك، غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عليَّ دينًا فاقض، واستوص بأخواتك خيرًا، فأصبحنا فكان أول قتيل، ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته هُنَيَّةً غير أذنه"؛ رواه البُخَارِيّ[12].
وقد أكرمه الله تعالى بكرامة عظيمة، قال جابر رضي الله عنه: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم": ((يا جابر، مالي أراك منكسرًا؟)) قال: "قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا"، قال: ((أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟)) فقال: "بلى يا رسول الله". قال: ((ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وكلَّم أباك كفاحًا، فقال: "يا عبدي، تمن عليَّ أعطك". قال: "يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية"، فقال الرب سبحانه: "إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون"، قال: "يا رب، فأبلغ من ورائي"، قال الله تعالى: ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]))؛ رواه الترمذي وابن ماجه[13].
ومن أعظم الآيات في هذه الغزوة: مصير قتلى الصحابة رضي الله عنهم فقد روى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله عزَّ وجلَّ أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طِيْبَ مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: "من يُبلِّغ إخواننا عنَّا أنا أحياءٌ في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب"، فقال الله عزّ وجلَّ: "أنا أبلغهم عنكم؛ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]))؛ أخرجه أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح[14].
أيها الإخوة: كانت تلك بعض الآيات والكرامات التي منَّ الله تعالى بها على المؤمنين في هذه الغزوة العظيمة. وآياتها عظيمة، وكراماتـها كثيـرة، وما لا نعلمه منها أكثر وأكثر. ورغم مُصاب المُسلمين فيها فإن فيها خيرًا عظيمًا، لهم بما ناله الشهداء منهم من الدرجات، والمنازل العالية عند ربهم، وبما استفاده الأحياء منهم من الدروس والعبر، وفي مقدمة ذلك: التزام الطاعة، والبعد عن المعصية التي كانت من أهم أسباب الهزيمة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الشهادة في سبيله، وأن يعزَّ دينه، ويُعْلِي كلمته، وينصر عباده المؤمنين، إنه سميع مجيب، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
y.,m Hp] (1) hgNdhjK ,hg;vhlhjK ,hglu[.hj lïd hgNdhjK ûS,é ,hglu[.hj ,hg;vhlhjK