هذه رسالة مكلومة من أمك المسكينة.. كتبتها على استحياء بعد تردد وطول انتظار.. أمسكت بالقلم مرات فحجزته الدمعة! وأوقفت الدمعة مرات، فجرى أنين القلب.
يا بني.. بعد هذا العمر الطويل أراكرجلا سويا مكتمل العقل، متزن العاطفة..
ومن حق عليك أن تقرأ هذه الورقة وإنشئت بعد فمزقها كما مزقت أطراف قلبي من قبل!
يا بني.. منذ خمسة وعشرين عاماكان يوما مشرقا في حياتي عندما أخبرتني الطبيبة أني حامل! والأمهات يا بني يعرفنمعنى هذه الكلمة جيدا! فهي مزيج من الفرح والسرور، وبداية معاناة مع التغيراتالنفسية والجسمية.. وبعد هذه البشرى حملتك تسعة أشهر في بطني فرحة جذلى، أقومبصعوبة، وأنام بصعوبة، وآكل بصعوبة، وأتنفس بصعوبة. لكن ذلك كله لم ينتقص من محبتيلك وفرحي بك! بل نمت محبتك مع الأيام، وترعرع الشوق إليك!
حملتك يا بني وهناعلى وهن، وألما على ألم.. أفرح بحركتك، وأسر بزيادة وزنك، وهي حمل عليثقيل!
إنها معاناة طويلة أتى بعدها فجر تلك الليلة التي لم أنم فيها ولميغمض لي فيها جفن، ونالني من الألم والشدة والرهبة والخوف ما لا يصفه قلم، ولايتحدث عنه لسان..
اشتد بي الألم حتى عجزت عن البكاء، ورأيت بأم عيني الموتمرات عديدة! حتى خرجت إلى الدنيا فامتزجت دموع صراخك بدموع فرحي، وأزالت كل آلاميوجراحي، بل حنوت عليك مع شدة ألمي وقبلتك قبل أن تنال منك قطرة ماء!
يابني.. مرت سنوات من عمرك وأنا أحملك في قلبي وأغسلك بيدي، جعلت حجري لك فراشا،وصدري لك غذاء.. سهرت ليلي لتنام.. وتعبت نهاري
لتسعد.. أمنيتي كل يوم: أنأرى ابتسامتك. وسروري في كل لحظة: أن تطلب شيئا أصنعه لك.. فتلك هي منتهى سعادتي!
ومرت الليالي والأيام وأنا على تلك الحال خادمة لم تقصر، ومرضعة لم تتوقف،وعاملة لم تسكن، وداعية لك بالخير والتوفيق لا تفتر، أرقبك يوما بعد يوم حتى اشتدعودك، واستقام شبابك، وبدت عليك معالم الرجولة، فإذا بي أجري يمينا وشمالا لأبحث لكعن المرأة التي طلبت!
وأتى موعد زواجك، واقترب زمن زفافك، فتقطع قلبي، وجرتمدامعي، فرحة بحياتك الجديدة، وحزنا على فراقك! ومرت الساعات ثقيلة، واللحظاتبطيئة، فإذا بك لست إبني الذي أعرفك. اختفت ابتسامتك، وغاب صوتك، وعبس محياك،، لقدأنكرتني وتناسيت حقي! تمر الأيام أراقب طلعتك، وأنتظر بلهف سماع صوتك.
لكنالهجر طال والأيام تباعدت! أطلت النظر إلى الباب فلم تأت! وأرهفت السمع لرنينالهاتف حتى ظننت بنفسي الوسواس! هاهي الليالي قد أظلمت، والأيام تطاولت، فلا أراكولا أسمع صوتك، وتجاهلت من قامت بك خير قيام!
يا بني: لا أطلب إلا أقلالقليل.. اجعلني في منزلة أطرف أصدقائك عندك، وأبعدهم حظوة لديك! اجعلني يا بنيإحدى محطات حياتك الشهرية لأراك فيها ولو لدقائق..
يا بني.. احدودب ظهري.،وارتعشت أطرافي، وأنهكتني الأمراض، وزارتني الأسقام.. لا أقوم إلا بصعوبة، ولا أجلسإلا بمشقة، ولا يزال قلبي ينبض بمحبتك!
لو أكرمك شخص يوما لأثنيت على حسنصنيعه، وجميل إحسانه.. وأمك أحسنت إليك إحسانا لا تراه ومعروفا لا تجازيه.. لقدخدمتك وقامت بأمرك سنوات وسنوات! فأين الجزاء والوفاء؟! ألهذا الحد بلغت بك القسوةوأخذتك الأيام؟!
يا بني.. كلما علمت أنك سعيد في حياتك زاد فرحي وسروري.. وأتعجب وأنت صنيع يدي.. أي ذنب جنيته حتى أصبحت عدوة لك لا تطيق رؤيتي، وتتثاقلزيارتي؟! هل أخطأت يوما في معاملتك، أو قصرت لحظة في خدمتك؟! اجعلني من سائر خدمكالذين تعطيهم أجورهم.. وامنحني جزءا من رحمتك..
ومنّ عليّ ببعض أجري.. وأحسنفإن الله يحب المحسنين! يا بني أتمنى رؤيتك! لا أريد سوى ذلك! دعني أرى عبوس وجهكوتقاطيع غضبك.
يا بني.. تفطر قلبي، وسالت مدامعي، وأنت حي ترزق! ولا يزالالناس يتحدثون على حسن خلقك وجودك وكرمك!
يا بني.. أما آن لقلبك أن يرقلامرأة ضعيفة أضناها الشوق، وألجمها الحزن! جعلت الكمد شعارها، والغم دثارها! وأجريت لها دمعا، وأحزنت قلبا، وقطعت رحما..
يا بني: هاهو باب الجنة دونكفاسلكه، وأطرق بابه بايتسامة عذبة، وصفح جميل، ولقاء حسن.. لعلي ألقاك هناك برحمةربي كما في الحديث : «الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب، أو احفظه» [رواه أحمد]
يابني: أعرفك منذ شب عودك، واستقام شبابك، تبحث عن الأجر والمثوبة، لكنك اليوم نسيتحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «إن أحب الأعمال إلى الله الصلاة في وقتها، ثم بر الوالدين، ثمالجهاد في سبيل الله» [متفقعليه].
هاك هذا الأجر دون قطع الرقاب وضرب الأعناق، فأين أنت من أحبالأعمال؟!
يا بني: إنني أعيذك أن تكون ممن عناهم النبي صلى الله عليه وسلمبقول : «رغمأنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه! قيل: من يا رسول الله؟ قال : من أدرك والديه عندالكبر، أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» [رواه مسلم]
يا بني.. لن أرفع الشكوى، ولن أبثالحزن، لأنهما إن ارتفعت فوق الغمام، واعتلت إلى باب السماء أصابك شؤم العقوق،ونزلت بك العقوبة، وحلت بدارك المصيبة..لا، لن أفعل..لا تزال يا بني فلذة كبدي،وريحانة فؤادي وبهجة دنياي!
أفق يا بني.. بدأ الشيب يعلو مفرقك، وتمرالسنوات ثم تصبح أبا شيخا، والجزاء من جنس العمل، وستكتب رسائل لابنك بالدموع مثلماكتبتها إليك.. وعند الله تجتمع الخصوم!
يا بني.. أتق الله في أمك.. «والزمها فإن الجنةعند رجليها»كفكف دمعها،وواس حزنها، وإن شئت بعد ذلك فزق رسالتها!
واعلم: أن من عمل صالحا فلنفسه ومنأساء فعليها..
دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442
اللهم اغفر لوالدينا وارحمهما كما ربيانا صغارا
رب اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب
اللهم اجعلنا بارين بآبائنا وأمهاتنا واجعلهما سببا لدخولنا الجنة
جزاكم الله خيرا على الموضوع المؤثر
توقيع : فاروق ابوعيانه
اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى ، وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .