ما أشبه الليلة بالبارحة, الآن التاريخ يعيد نفسه؟ أم لأن حقيقة الصراع بين الحق والباطل واحدة, وإن تبدلت شخصياته وأحداثه وتغيرت صوره وأشكاله, وتنوعت أسبابه ومظاهره, وإن اختلفت أزمانه وأماكنه؟ فبالأمس قالوا: (ساحر مجنون), واليوم يقولون عنه صلى الله عليه وسلم, ما يقولون ولا فرق.. المهم حربه وعداوته. إنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم, الحديث عنه حديث ذو شجون, تسعد به النفوس وتأنس به القلوب, لكن كل من أراد أن يقص أو يكتب عنه صلى الله عليه وسلم, مهما حاول فلن يزيد عن أصبع صغيرة تومئ من بعيد على استحياء إلى الشمس في عليائها فماذا تراه يضيف؟!. وكل من يحاول الإساءة إليه أو النيل منه مهما أوتي فهو كمن ينفخ في نور الشمس ليطفئها, فماذا يفعل؟!, فكم من محاولات على مر التاريخ قد بذلت, وكم من مؤامرات تحاك على أن تسلخ الأمة الإسلامية من هويتها, والنيل من دينها وعقيدتها ونبيها, وتجريدها من عوامل قوتها ورغم ذلك كله حفظ الله دينه وكتابه وعصم نبيه وأعلى كلمته, وباءت كل محاولاتهم الدنيئة بفشل ذريع, وردت طعنات سهامهم إلى نحورهم, وحاق المكر السيئ بأهله, فأنى يُطفأ نور أراد الله له أن يسطع؟. نرجع بالذاكرة إلى الوراء قليلا, فقد أجمعت قوى الشر آنذاك أمرها وجيشها وأقبلت بحدها وحديدها على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام, تتخطفهم بسيوفها ورماحها, وترميهم بسهامها, واضطربت الأمور, وفر الناس من حول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم, إلا نفرا قليلا من أصحابه وأهل بيته, ودبت الإشاعة وحام الموت من فوق الرؤوس وانكشف القوم وأوشكت الهزيمة أن تقع, وفي هذه اللحظة الفارقة يحث رسولنا صلى الله عليه وسلم دابته لتركض نحو صفوف المشركين وهو ينادي: (أنا النبي لا كذب, أنا ابن عبد المطلب), هكذا أراد رسولنا بأبي هو وأمي أن يتحدى ويبرهن أنه رسول الله حقا وأن الله تعالى حافظه وناصره وحتى وإن اجتمع الأعداء حوله. كان من المنطقي والطبيعي أن يتوارى مثل هذا النداء في هذه اللحظات العصيبة الشديدة لكنه منطق الحق ونداء اليقين وصوت الصدق, جاء النداء النبوي الواثق قويا مدويا في أرجاء الأرض وأعماق التاريخ, يتردد صداه كلما ألمت بالأمة ملمة أو وقعت بها حادثة, منذ تلك اللحظة وحتى يومنا هذا. ودارت الأيام دورتها, وها هو النبي صلى الله عليه وسلم يتعرض لعدوان جديد, ومؤامرة دنيئة, فقد عشنا معا في الأيام القليلة الماضية محنة ما يسمى: "بالرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم", التي اهتز لها العالم كله, بعد أن رأى جماهير أمتنا المسلمة تهب من كل حدب وصوب شرقا وغربا، شمالا وجنوبا, شيبا وشبانا نساءا وأطفالا على اختلاف أقطارهم وأجناسهم, واختلاف ألسنتهم وألوانهم وأفكارهم وتوجهاتهم, يجمعهم جميعا نداء واحد وراية واحدة (نحن فداؤك يا رسول الله), فرحنا نردد مع الكون رجع الصدى (هو النبي لا كذب), إي وربي هو النبي لا كذب, فكان هذا الملف مشاركة منا لجموع المسلمين الثائرين, ومحاولة منا للقيام ببعض الواجب نصرة لإمام الأنبياء ورسولنا وخاتم المرسلين الحبيب محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم. حاولنا فيه - ما استطعنا - أن نوازن بين عاطفة الحب العظيم الجارفة له صلى الله عليه وسلم التي استبدت بقلوبنا فأقضعت مضاجعنا وأسالت مدامعنا لعجزنا وتقصيرنا وبين قول الحق وميزان العدل.
· لمن هذا الملف؟ إننا نتوجه بهذا الملف إلى كل المنصفين العقلاء في هذا العالم, إلى المؤمنين به صلى الله عليه وسلم وغير المؤمنين به, إلى المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم, ليعلموا أنهم لا يؤمنون حتى يكون هو صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم وولدهم والناس أجمعين, ليكتشفوا كل يوما طرفا جديدا من عظمته صلى الله عليه وسلم ليعلموا أن عليهم حق محبته ونصرته وفدائه بأنفسهم وبأغلى ما يملكون. وكذلك إلى غير المؤمنين به, ليعرفوا قدره وصدقه وعظمته, لنقول لهم: (تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء). استمعوا إلينا ولو لمرة بآذان قلوبكم وعقولكم, أصغوا إلينا ولو لمرة بمنطق الحق والعدل والمساواة التي تدعونها, فإن أعجبكم وإلا كُفيتمونا. فقد أساء البعض منكم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فهلا عرفتموه كما هو وكما نراه نحن، لا كما يردد عنه أعداؤه؟. هذا حديثنا إليكم عنه.
· فماذا في هذا الملف؟ فقد تابعنا هذا الحدث لحظة بلحظة, نرصد تطوراته وتداعياته وردود أفعاله, رأينا كل الأطراف وهي تتحرك وتتكلم بحسن نية أو خبث طوية, رأينا جموع الثائرين وسمعنا دوي الصامتين. لكن أعجبتنا هبَّة الأمة الغاضبة التي أدهشت كل المراقبين وقلبت الموازين.. تلك الأمة التي داست بأقدامها أقوالا تناثرت هنا وهناك عن حرية التعبير, و(حرمة الميتين), عن حوار الحضارات واحترام المقدسات, عن تسامح النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيئين له والمستهزئين به, وقفنا مع كل التفاصيل بالتحليل, وناقشنا كل الآراء والأفكار بالبرهان والدليل, اتفقنا مع بعضها أحيانا, واختلفنا أحيانا أخرى. فكان لزاما علينا أن نعود إلى الكتاب والسنة, عدنا إلى شرعته وسيرته, رسمنا صورة كاملة عنه صلى الله عليه وسلم, نقلب صفحات حياته صلى الله عليه وسلم, دعوته وجهاده, حلمه وتواضعه, معجزاته ودلائل نبوته, أخلاقه وشمائله, الإيمان به وحقه على أمته. قلنا شتان بين أن يسامح في حق نفسه وأن نفرط نحن في حقه. قلنا نعم للدعوة والحوار ولا لإجهاض نهضة الأمة وثورة أبنائها للذود عن حرماتها ونبيها.
· دروس من الحدث: لكننا وقبل الدخول في هذا الملف, لنا وقفة مع بعض الدروس التي يدركها المتتبع لهذا الحدث دونما أدنى عناء, يجب أن نقف معها لا بالتأمل والتعلم فهذا كلام مللناه ولكن بما هو أبعد من ذلك مما يجب على أمة في مثل ما نحن فيه. وأول هذه الدروس: أن الأمة بحاجة شديدة إلى قيادة ربانية راشدة تهفو إليها النفوس وتجتمع حولها القلوب, بحاجة إلى قيادة ترى في النبي صلى الله عليه وسلم قدوتها وأسوتها, قيادة تحدد للأمة أهدافها وتوحد صفها وجهودها وتستثمر طاقتها, نحن بحاجة إلى أمثال صلاح الدين الأيوبي يوم الصليبيين, وسيف الدين قطز يوم التتار, هذه حقيقة لعل الجميع يعلمها, لكننا غفلنا عنها أو تغافلنا, أعادت الأزمة اكتشافها ودقت ناقوس خطورتها فقد خرجت الأمة بجموعها كالمحيط الهائج أو السيل المتدفق الجارف العرمرم الذي لم يجد من يشق له نهرا فتفرق سدى, كانت تلك الجموع بحاجة إلى من يجمع كلمتها ويرسم طريقها ذودا عن حرمات الإسلام ومقدساته, وتحريرا لأبنائه وأرضه ودياره وتطبيقا لمنهجه وشريعته. وأما الثاني: فقد صنع الحدث رؤية إستراتيجية واحدة ومحددة لإدارة صراعنا الحضاري مع الآخر, فالصراع له أشكاله ومجالاته, ووسائله وأدواته, ولكن ذلك كله لابد أن يكون في إطار رؤية موحدة ومنظومة متكاملة لأننا حين وقعت المحنة (محنة الرسوم المسيئة) لم نجد ردة فعل منظمة بدلا من تشتت الجهود واختلاف الآراء وكثرة المتحدثين باسم الإسلام بين من ينكر على المتظاهرين ومن يؤيدهم, ومن يشجعهم ومن يسخر منهم, لماذا هذا التشرذم؟ أقول جازما بسبب غياب الرؤية الإسلامية الواضحة المحددة النابعة من الكتاب والسنة الصحيحة, رؤية تحدد للأمة ما هي غايتها, وأهدافها, وهويتها, وثقافتها, عقيدتها وحضارتها, طريقها وأدواتها, علاقاتها ومعاملاتها, من توالي ومن تعادي؟ من تسالم ومن تحارب؟. أما الثالث: فقد أكدت هذه المحنة على أنه لا مكان للضعفاء في هذا العالم, فهو عالم لا تحكمه قيم ومبادئ ولا قوانين ولكن تتحكم فيه موازين القوة, فلا مكان ولا احترام ولا حقوق إنسان إلا للأقوى, إلا لمن قد ملك قبل قوته وسلاحه إرادته وقراره, وشواهد الواقع تؤيد ذلك وتقرره, فمسلمو اليوم رغم هذا الجمع الغفير (مليار وثلث) إلا إنهم كغثاء السيل وهم الطرف الأضعف في كل قضية وصراع, وهم المتهم الأول وراء كل تفجير.. إرهابيون هم إن دافعوا عن أرضهم أو عرضهم!! متعصبون هم إذا ثاروا لنبيهم ومقدساتهم!!, إن وقفة إنصاف مع أنفسنا تقول: إن ـأعدائنا ما تجرءوا على نشر هذه الرسوم في صحفهم إلا لما علموا مدى ضعفنا وهو أننا لا نرد طامعا ولا نقهر طاعنا وإلا فأين حقوقنا ومقدساتنا من معاداة السامية أو ما يعرف بالهولوكست (محرقة اليهود على يد النازية)؟!, أين حرماتنا التي تنتهك؟, وأطفالنا ونساءنا يذبحون في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي كل مكان, فعلينا أن نتعلم الدرس وأن نأخذ بأسباب قوتنا واستقلال إرادتنا. وأما الدرس الرابع: وهو نتيجة مباشرة للسابق أن أسباب قوتنا هي العودة إلى ديننا وإتباع نبينا, فقد أجمعت كلمة المنصفين من المراقبين أن هذا الحدث هو الوحيد منذ عقود طويلة الذي استطاع أن يحرك جسد الأمة الهامدة ويوقظها بعد طول غفلة ورقاد ويبعث فيها الأمل النابض لتدب في أوصالها روح الحياة من جديد وإذ بالعزائم لمعالي الأمور تنهض, وإذا بالهمم بنور الإيمان تقوى, فيقف المؤمن بعزة وشموخ كالجبل الأشم منافحا عن رسوله ومناضلا عن دينه, غير عابئ بما كان من قبل يكبله من حرص على رزق أو خوف على أجل!! فيا لها من قومة جعلت القلب يتحرر من أغلال الدنيا وأثقال الأرض وينطلق نحو عظائم الأمور, لأنه (أي الحدث) أكد على التحدي المشترك والهدف الواحد, وصدق عمر رضي الله عنه: (لقد أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله). الدرس الخامس: لقد سقطت أقنعة الغرب الزائفة, لقد كشف هذا الحدث الغطاء عن وجه الغرب الحقيقي وأماط اللثام عن حضارته المزعومة.. عن الازدواجية الظالمة والحرية الانتقائية, لقد أبطل هذه الشعارات البراقة التي يتشدقون بها في محافلهم ومنتدياتهم, الحرية والمساواة والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان وإذ بهم يرفضون في صلف وكبرياء شديدين أن يقدموا ولو بكلمة واحدة مجرد اعتذار عن فعلهم البغيض بل إنهم يقولون في تحد سافر لمشاعر المسلمين كما جاء على ألسنة وزراء الاتحاد الأوروبيإننا نقدس الحرية كما يقدس المسلمون نبيهم), (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا), لكننا نعود ونقول ليس ذلك بجديد فمازال التاريخ يذكرنا ولكننا ننسى أو نتناسى.
وأخيرا.. كان الدرس الأعظم.. إنه الحب العظيم للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا يزال يسكن قلوب المسلمين الموحدين ويدفعهم إلى فعل ما لم يتوقعه أحد, فلكم كانت بحق لحظات فارقة تلك التي عشناها بقلوبنا لحظة بلحظة ونحن نرى الجموع المسلمة على اختلاف أجناسها وأوطانها وتعدد مشاربها وأطيافها, وهي تزحف من مشارق الأرض ومغاربها في مظاهرات صاخبة عارمة, غضبا لربها وذودا عن نبيها, ودفاعا عن حرماتها, إنه مشهد مهيب حقا, جعل كل من يراقبه يتعجب ويسأل: ما الذي جمع بين كل هؤلاء وهؤلاء جميعا؟ما الذي جعلهم يتدفقون هكذا في مسيرات حاشدة غاضبة مستمرة؟ رغم ما أصاب البعض منهم من إثخان وقتل وجراحات!! إنه ذلكم الحب العظيم لحبيب رب العالمين, الذي ملك عليهم قلوبهم وخالط وجدانهم, وسرى في عروقهم ودمائهم, إنه الحب العظيم لإمام الأنبياء وخاتم المرسلين, الذي فاق حب النفس والمال والأهل والولد والناس أجمعين, نعم إنه الحب العظيم للرسول الكريم الذي حدا بهذه الجموع الغفيرة كي تهب ثائرة منتفضة لنبيها وتهتف من أعماق قلوبها وهي تتحدى كل قوى الكفر والظلام سواء من كفار الغرب أو من منافقي الشرق وتصرخ في وجوههم جميعا: هو النبي لا كذب.. هو ابن عبد المطلب, فكأنه رجع الصدى لصيحة نبينا الخالدة يوم حنين: (أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب), وها هم أولاء كفار اليوم ينهزمون أمام رجع الصدى كما انهزم أجدادهم من قبل أمام صيحة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
اللهم صلى وسلم وبارك عليك يا حبيبى يا رسول الله
والله ما أنصفناك و لا حق لنا الانتماء اليك فسامحنا
أنت لا تحتاج انتصارا منا فالله قد كفاك المستهزأين
أعداؤك ولو للعدم ِ
وبقيت عزيزا كالعلم ِ
تاريخك شمس تتجلى
بل أنت حياة للأمم ِ
جزاك الله خيرا أخى الفاضل على المشاركة
توقيع : فاروق ابوعيانه
اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتنى ، وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت .