(يا أيها اللذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
أما بعد :
فإن خير الكلام : كلام الله، وخير الهَدْي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
ثم أما بعد ----------------------------------------------------------------------- أن يكون المسلم متميزا فى باب معين من أبواب الخير فهذا شىء عظيم يستحق أن يثني عليه الناس به ويذكرونه ولكن أن يكون المسلم فقيها وعالما ومحدثا ومجاهدا وأميرا للجيوش وقائدا لأساطيل أعالى البحار وقاضيا ومعلما ومدافعا عن السنة وقامعا للبدعة ومرابطا فى سبيل الله حتى الموت، فهذا النوع من الرجال الأبطال لابد أن نؤرخ له وبماء الذهب خاصة أن أبناء المسلمين الآن لا يعرفون عنه شيئا .
=هو الأمير الكبير والفقيه البارع والمحدث الثقة وأمير المجاهدين أبوعبد الله 'أسد بن الفرات بن سنان' ولد سنة 142 هجرية بمدينة 'حران' من أعمال ديار بكر بالشام ثم انتقل إلى بلاد المغرب مع أبيه 'الفرات بن سنان' سنة 144 هجرية والذى كان قائدا للمجاهدين الذين خرجوا لنشر الإسلام فى بلاد المغرب، واستقر مع أبيه بالقيروان،ونشأ منذ صغره على حب العلم وحفظ كتاب الله حتى أتمه فى مرحلة الصبا وأصبح هو نفسه معلما للقرآن وهو دون الثانية عشر . =============================================== = يقول عنه الذهبي أسد بن الفرات الإمام العلامة القاضي الأمير مقدم المجاهدين أبو عبد الله الحراني ثم المغربي مولده بحران سنة أربع وأربعين ومئة قاله ابن ماكولا وقال غيره سنة خمس ودخل القيروان مع أبيه في الجهاد وكان أبوه الفرات بن سنان من أعيان الجند روى أسد عن مالك بن أنس الموطأ وعن يحيى بن أبي زائدة وجرير بن عبد الحميد وأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن وغلب عليه علم الرأي وكتب علم أبي حنيفة أخذ عنه شيخه أبو يوسف وقيل إنه تفقه أولا على الإمام علي بن زياد التونسي قيل إنه رجع من العراق فدخل على ابن وهب فقال هذه كتب أبي حنيفة وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك فأبى وتورع فذهب بها إلى ابن القاسم فأجابه بما حفظ عن مالك وبما يعلم من قواعد مالك وتسمى هذه المسائل الأسدية وحصلت بإفريقية له رياسة وإمرة وأخذوا عنه وتفقهوا به وحمل عنه سحنون بن سعيد ثم ارتحل سحنون بالأسدية إلى ابن القاسم وعرضها عليه فقال ابن القاسم فيها أشياء لا بد أن تغير وأجاب عن أماكن ثم كتب إلى أسد بن الفرات أن عارض كتبك بكتب سحنون فلم يفعل وعز عليه فبلغ ذلك ابن القاسم فتألم وقال اللهم لا تبارك في الأسدية فهي مرفوضة عند المالكية قال أبو زرعة الرازي كان عند ابن القاسم نحو ثلاث مئة جلد مسائل عن مالك وكان أسد من أهل المغرب سأل محمد بن الحسن عن مسائل ثم سأل ابن وهب فلم يجبه فأتى ابن القاسم فتوسع له وأجاب بما عنده عن مالك وبما يراه قال والناس يتكلمون في هذه المسائل قال عبد الرحيم الزاهد قدم علينا أسد فقلت بم تأمرني بقول مالك أو بقول أهل العراق فقال إن كنت تريد الآخرة فعليك بمالك وقيل نفذت نفقة أسد وهو عند محمد فكلم فيه الدولة فنفذوا إليه عشرة آلاف درهم وقد كان أسد ذا إتقان وتحرير لكتبه لقد بيعت كتب فقيه فنودي عليها هذه قوبلت على كتب الإفريقي فاشتروها ورقتين بدرهم وعن ابن القاسم أنه قال لأسد أنا أقرأ في اليوم والليلة ختمتين فأنزل لك عن ختمة يعني لاشتغاله به قال داود بن أحمد رأيت أسدا يعرض التفسير فقرأ " إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني " فقال ويل أم أهل البدع يزعمون أن الله خلق كلاما يقول أنا قلت آمنت بالذي يقول إني أنا الله وبأن موسى كليمه سمع هذا منه ولكني لا أدري كيف تكلم الله مضى أسد أميرا على الغزاة من قبل زيادة الله الأغلبي متولي المغرب فافتتح بلدا من جزيرة صقلية وأدركه أجله هناك في ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة ومئتين وكان مع توسعه في العلم فارسا بطلا شجاعا مقداما زحف إليه صاحب صقلية في مئة ألف وخمسين ألفا قال رجل فلقد رأيت أسدا وبيده اللواء يقرأ سورة يس ثم حمل بالجيش فهزم العدو ورأيت الدم وقد سال على قناة اللواء وعلى ذراعه ومرض وهو محاصر سرقوسية ولما ولاه صاحب المغرب الغزو قال قد زدتك الإمرة وهي أشرف فأنت أمير وقاض -------------------------------------------------------------------------- =فتح صقلية=------------------------------------- تعتبر جزيرة صقلية أكبر جزر البحر المتوسط مساحة وأغناها من حيث الموارد الاقتصادية وأفضلها موقعا، ولقد انتبه المسلمون لأهمية هذه الجزيرة مبكرا منذ عهد الصحابة حيث حاولوا فتحها فى عهد عبد الله بن سعد رضي الله عنه ثم معاوية بن حديج ثم عقبة بن نافع ثم عطاء بن رافع وكان آخرهم عبد الرحمن بن حبيب وذلك سنة 135هجرية، ثم وقعت الفتن الداخلية ببلاد المغرب بين العرب والبربر وانشغل المسلمون عن جهاد العدو الذي انتهز الفرصة وأغار على سواحل المغرب عند منطقة إفريقية مما جعل المسلمون يتوحدون و يتهيؤن للرد على هذا العدوان البيزنطى .
في هذه الفترة وقعت العديد من الاضرابات بجزيرة صقلية والتي كانت تتبع الدولة البيزنطية حيث وقع نزاع على حكم الجزيرة بين رجلين أحدهما اسمه 'يوفيميوس' وتسميه المراجع العربية 'فيمي' والآخر اسمه 'بلاتريوس' وتسميه المراجع العربية 'بلاطه' وانتصر 'بلاطه' على 'فيمي' الذي فر هاربا إلى إفريقية واستغاث بزيادة الله ابن الأغلب حاكم إفريقية وطلب منه العون في استعادة حكمه على الجزيرة، فرأى زيادة الله فيها فرصة سانحة لفتح الجزيرة .
استنفر 'زيادة الله' الناس للجهاد وفتح صقلية فهرعوا لتلبية النداء وجمعت السفن من مختلف السواحل و بحث ابن الأغلب عمن يجعله أميرا لتلك الحملة البحرية الكبيرة فلم يجد خيرا ولا أفضل من الأسد الجسور والبطل المقدام 'أسد بن الفرات' على الرغم من كبر سنه في هذه الفترة ربيع الأول 212 هجرية أي سبعين عاما، وكان هذا الاختيار دليلا على فورة المشاعر الإسلامية في هذه الفترة والأثر الكبير لعلماء الدين الربانيين على الشعب المسلم، وكان أسد بن الفرات يبدى رغبته فى هذه الغزوة كواحد من المسلمين لأنه كان محبا للجهاد عالما بمعانى ومقتضيات آيات النفرة فى سبيل الله ودور العلماء فى ذلك وكان يريد أن يكون جنديًّا متطوعًا لا يريد الإمارة، فلما أعطيها تألم وقال للأمير: أَبَعْدَ القضاء والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة؟! فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت إليك الإمارة فأنت قاضٍ وأمير، وكان أول من جمع له المنصبان، واجتمع الناس لوداع الجيش والأمير أسد بن الفرات، فقال أسد للناس في وداعهم: (والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط، وما رأى أحد من أسلافي مثل هذا قط، وما بلغته إلا بالعلم، فعليكم بالعلم، أتعبوا فيه أذهانكم، وكدوا به أجسادكم تبلغوا به الدنيا والآخرة). وأيضا كان يكره الشهرة والرياء ولكن ابن الأغلب أصر على أن يتولى قيادة الحملة العسكرية وأيضا يكون قاضيا للحملة أي جمع له القيادة الميدانية والروحية لعلمه بمكانة أسد بن الفرات وأثره في الناس وحبهم له .
---------قتال حتي الموت----------------
خرج أسد بن الفرات من القيروان في حملة عسكرية كبيرة قوامها عشرة آلاف من المجاهدين المشاة وسبعمائة فارس بخيولهم فى أكثر من مائة سفينة كبيرة وصغيرة خرجت من ميناء سوسة على البحر المتوسط وسط جمع عظيم من أهل البلد الذين خرجوا لتوديع الحملة المجاهدة.
تحرك الأسطول الإسلامى يوم السبت 15 ربيع الأول سنة 212 هجرية متجها إلى جنوبي جزيرة صقلية وبالفعل وصلت الأساطيل المسلمة إلى بلدة 'فازر' في طرف الجزيرة الغربي بعد ثلاثة أيام من الإبحار أى يوم الثلاثاء، ونفذ أسد بن الفرات على رأس جنده إلى شرقي الجزيرة، وهناك وجد قوة رومية بقيادة الثائر 'فيمي' الذي طلب مساعدة 'ابن الأغلب' لاستعادة حكمه على الجزيرة، --------------------------------- وعرض 'فيمى' على 'أسد بن الفرات' الاشتراك معه في القتال ضد أهل صقلية ولكن القائد المسلم العالم بأحكام شريعته المتوكل على الله عز وجل وحده يرفض الاستعانة بالمشركين تأسيا بالنبى صلى الله عليه وسلم الذي رفض الاستعانة باليهود يوم أحد .
استولى 'أسد' على العديد من القلاع أثناء سيره مثل قلعة بلوط والدب والطواويس حتى وصل إلى أرض المعركة عند سهل 'بلاطه' نسبة إلى حاكم صقلية، وعندها أقبل 'بلاطه' في جيش عدته مائة ألف مقاتل، أي عشرة أضعاف الجيش المسلم وعندها قام أسد بن الفرات في الناس خطيبا فذكرهم بالجنة وموعود الله عز وجل لهم بالنصر والغلبة وهو يحمل اللواء في يده ثم أخذ يتلو آيات من القرآن ثم اندفع للقتال والتحم مع الجيش الصقلي الجرار واندفع المسلمون من ورائه ودارت معركة طاحنة لايسمع منها سوى صوت قعقعة السيوف وصهيل الخيول والتكبير الذى يخترق عنان السماء والأسد العجوز أسد بن الفرات الذي جاوز السبعين يقاتل قتال الأبطال الشجعان حتى أن الدماء كانت تجري على درعه ورمحه من شدة القتال وكثرة من قتلهم بنفسه وهو يقرأ القرآن ويحمس الناس، وتمادت عزائم المسلمين حتى هزموا الجيش الصقلي شر هزيمة، وفر بلاطه من أرض المعركة وانسحب إلى مدينة 'قصريانة' ثم غلبه الخوف من لقاء المسلمين ففر إلى إيطاليا وهناك قتل على يد بني دينه بسبب جبنه وإحجامه عن قتال المسلمين.
بعد هذا الانتصار الحاسم واصل أسد بن الفرات زحفه حتى وصل إلى مدينة 'سرقوسة' و مدينة 'بلرم' فشدد عليها الحصار وجاءته الإمدادات من 'إفريقية' واستطاع أسد بن الفرات أن يحرق الأسطول البيزنطي الذي جاء لنجدة 'بلرم' وأوشكت المدينة على السقوط ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان؛ حيث حل بالمسلمين وباء الطاعون فهلك بسببه عدد كبير من المسلمين فى مقدمتهم القائد المقدام 'أسد بن الفرات' فلاقى حمام الموت مرابطا مجاهدا بعيدا عن أهله وبيته وحلق دروس العلم، مجافيا لفراشه وداره، مؤثرا مرضات ربه ونصرة دينه، وذلك فى شعبان سنة213هجرية، فجمع بين خصال الخير كلها من علم وورع، وجهاد وشهادة، فياليت علماء الأمة يتعلمون شيئا من سيرة هذا البطل الذى سقط من ذاكرة المسلمين الآن . ===مصادر = سير الاعلام = = البداية والنهاية= = الكامل في التاريخ==