مقدمة سورة البقرة
نحن بشر تحيط بنا المخاوف، الوساوس، الشكوك، الأوهام من اشياء متعددة هذه المخاوف لا يمكن أن تبدد إلا من خلال شحنة إيمانية وقوة إيمانية دافئة، القوة الإيمانية في هذه السورة العظيمة وبخاصة في آية الكرسي حين يقرأها المؤمن وهو مؤمن بها وهو مستشعر لعظمة ما يقرأ مستحضر للآيات التي قرأ مستحضر لكل حرف في تلك السورة وفي تلك الآية.
سورة البقرة تتألف من ثلاثة أجزاء:
الجزء الأول منذ بدايته أقام دعائم الهداية، المقصد الأساس في السورة، السورة سورة هداية، سورة نور في الدنيا وفي الآخرة لأصحابها، لمن يقوم بحقها، أقام دعائم الهداية على التوحيد الخالص الصادق الذي هو مراد الله عز وجل ولذلك ابن القيم لديه كلمة جميلة يقول: إن كل آية في القرآن متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه. فالجزء الأول في سورة البقرة أقام دعائم الهداية على التوحيد وبيّن منذ البداية أن لا عمل يصحّ إلا حين يُبنى على ذلك التوحيد (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَفِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إيمان، توحيد، يقين
ثم تعرض السورة في الجزء الأول مواقف متعددة متنوعة لبني إسرائيل في سياق التذكير لهذه الأمة، الأمة التي نزل عليها القرآن أول ما نزل، أمة العرب. هذا الكتاب الذي أنزله الله على هذه الأمة عرض لها نماذج من تعامل بني إسرائيل مع منهجهم، مع دعوة نبيهم موسى عليه السلام مع التوراة كيف تعاملوا، الرب سبحانه وتعالى أكّد هذه الوصية (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) والوصية ليست لبني إسرائيل دون غيرهم، الوصية لكل الأمم، الوصية لهذه الأمة التي نزل فيها القرآن (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) والحديث عن القوة هنا يتضمن كل أشكال وأسباب القوة المادية والمعنوية حين تأخذ القرآن وتأخذ سورة البقرة وأوامر سورة البقرة خذها بقوة، خذها بقلبك، خذها بطاعة، خذها بخضوع وانكسار ورغبة حقيقية في تطبيقها في واقع حياتك ودافع عنها بقوة لأن المنهج يحتاج أن تدافع عنه. إذا كنت أنت مؤمنًا بهذا المنهج حق الإيمان عليك أن تدافع عنه، لأنك بطبيعة الابتلاء والحياة ستواجه أشكالًا من التحديات، أشكالًا من الصعوبات ألوانًا من الابتلاءات، إن لم تكن لديك القوة الكافية لمواجهة تلك التحديات إذن قطعًا ستفشل في أداء ذلك المنهج
ترد الآيات في سورة البقرة في الجزء الأول مرة بعد مرة قضية العصيان الذي وقع في هذه الأمة إلى الشرك بأنواعه المتعددة، إلى عدم خلوص التوحيد، التوحيد القضية الأولى، ولذلك تقول عنهم الآيات (قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (93)) عبادة العجل التي وقعت في بني إسرائيل، البعد عن التوحيد، التخبط، الزيف، الإنحراف عن المنهج، المماطلة في تنفيذ أوامر الله (قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) وقالوا في آية أخرى (قُلُوبُنَا غُلْفٌ (88)) أُغلقت، وهي بالفعل قد أُغلقت، كيف أُغلقت؟ الآيات في سورة البقرة تحدثنا عن أشكال من العقوبات التي أصابت قلوب تلك الأمة التي ترنحت في القيام بمنهج الله سبحانه وتعالى وتنفيذه في واقع الحياة، قسوة (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ (74)) وغُلف وختم، لم كل هذه العقوبات على القلوب؟ لأن الإنسان حينما يُغلق قلبه أمام المنهج فإن العقوبة من جنس العمل!
(وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ))
هذه الوصية العظيمة لأجل مواجهة التحديات، الحياة ليست مفروشة بالورود، طريق الحياة وطريق تطبيقك للمنهج في حياتك وفي واقعك ليس مفروشًا بالرياحين والورود بل ربما يأتيك في بعض الأحيان العديد من الصعوبات والأشواك والصخور كيف ستواجه كل ذلك إن لم يكن في قلبك وفي حياتك سورة البقرة العظيمة وهذا القرآن العظيم الذي تحمله بقلبك وتدافع عنه بكل ما أوتيت من قوة؟!
.......................
الجزء الثاني في سورة البقرة بدأ بالحديث عن القبلة وتحويل القبلة نحو المسجد الحرام وتحمل الأمة المسلمة التي نزل عليها الكتاب القرآن، الأمة الوسط، مسؤولية الشهادة على الأمم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143)) إذن هي الرسالة هي الأمانة هي تحقيق وحمل تلك الأمانة التي ضيّعها بنو إسرائيل من قبل ونحن بحاجة كأمة أن لا نضيّعها وما جاء في الجزء الأول من حديث عن بني إسرائيل إنما جاء في سياق التحذير لهذه الأمة من أن تقع فيما وقع فيه بنو إسرائيل من تضييع للأمانة من تضييع لذلك المنهج الرباني المنزل عليهم في التوراة في واقع الحياة وفي سلوكهم وتعاملهم. هذه الأمة تحملت تلك المسؤولية ولذلك الجزء الثاني واضح جدًا فيه التعاليم المختلفة الآيات التي تحدثت عن القصاص، الآيات التي تحدثت عن الدين، التي تحدثت عن الوصايا التي تحدثت عن الزواج عن الطلاق عن الحج عن الصيام عن العبادة ما تركت شيئًا إلا وتحدثت عنه، جمعت كل التعاليم جمعت كل الأوامر التي تقيم المنهج في واقع الحياة، التي لا يمكن لمجتمع أن يعيش بعيدًا عنها، ربي سبحانه وتعالى ما خلق البشر فوضى وما أراد لعباده أن يتركهم هكذا يعبثون ويلعبون ويجربون القانون تلو القانون والدستور تلو الدستور، أبدًا، ربي سبحانه وتعالى ما كان ليترك عباده هَملًا بلا منهج، ولذلك منذ اللحظة التي نزل فيها آدم ربي سبحانه وتعالى أعطى له ذلك المنهج فقال (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38)) إذن هو المنهج مرة أخرى وهذا المنهج هو الذي تتحدث عنه هذه الآيات العظيمة في الجزء الثاني من سورة البقرة.
سورة البقرة تعلّم الإنسان من خلال الأوامر والنواهي كيف يتقي الله كيف يقول لنفسه (لا) حين ينبغي أن يقول لها (لا)، وعلى قدر ما تكون عظمة الله عز وجل في قلب ذلك المؤمن الذي تبنيه السورة في آياتها آية بعد آية على قدر ما يكون تعظيم ذلك الإنسان لأمر الله ووقوفه عن نواهيه ولذلك الكلام متواصل في السورة في الجزء الثاني عن (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا) لأنه على قدر ما تولّد في قلبي من توحيد وتعظيم لربي عز وجل الآمر الناهي على قدر ما يكبر ويتحقق ذلك الأمر في واقعي وفي حياتي، خشية الله عز وجل تبنيها سورة البقرة. ويأتي الكلام عن الجهاد في سبيل الله ليس من باب التسلط على شعوب العالم أبدًا أو إكراه العالم على الدخول في الدين، أبدًا، وإنما من باب آخر من باب إيصال الرسالة التي تحمي الإنسانية من غوائل وزيف الشر والفساد التي تقتلع بذور الشر والفساد في النفوس والأمم، لا بد لهذه الرسالة أن تصل وتصل بالحسن ولكن إذا اقتضى الأمر أن يكون هناك مواجهة فالمؤمن يواجه ولكن دون ظلم ولا اعتداء على أحد فالله لا يحب المعتدين
يتبع