مريم تعرضت لامتحان وابتلاء شديد صعب وكذلك أصحاب الرسالات، ما من صاحب قيمة ولا رسالة ولا مشروع إلا وكان سنة الله في خلقه أن يتعرض للابتلاء والامتحان.
والثبات يعلّم الإنسان المؤمن كيف يثبت في وجوه الخطوب والمحن يثبت فلا تحدي ولا تزيغ به التحديات والخطوب ولا تميل به الصعوبات والشدائد، ثابت، راسخ.
هذه المرأة كانت تتولى نفسها وقلبها بالذكر والابتهال والقنوت والركوع والسجود لله سبحانه فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل وأن يبشرها بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريمï»؟. والآيات في سورة مريم تصف موقف مريم، تصف حالة مريم الإنسانة وما أصابها من الخوف والهلع والقلق والشدة والضيق إلى الدرجة التي قالت
(يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا )
هذه مريم الإنسانة، طبيعي جدًا أن الإنسان حين يتعرض لمحنة تبدأ عوامل القلق والخوف في نفسه، عوامل الضعف البشري الإنساني المعتاد الذي لا شيء فيه ولكن الثبات يأتي هنا تمامًا ربي سبحانه وتعالى أمر أمرًا فتلك الفتاة التي كانت تديم الركوع والسجود بين يديه عليها أن تديم الامتثال لأمره وطاعته حين يبتلي وحين يأمر بأمر فكان ذاك.
(قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
ترسّخت تلك الحقيقة في قلب مريم فما كان منها إلا ما يكون من المؤمن الثابت التفويض وتسليم الأمر لله الواحد الأحد ألا له الأمر من قبل ومن بعد سبحانه. سلّمت أمرها لله وجاءت قومها وهي تحمله وتحمل معه الثبات في قلبها واليقين وتدرك تمامًأ ما ستواجَه به من قبل قومها من اتهامات ومن افتراءات وتطاول عليها وهي الطاهرة العفيفة المبرّأة من كل سوء، امتحان صعب!
ولكن اليقين الذي كان في قلبها والإيمان جعلها تثبت، جعلها تقف صامدة أمام كل تلك التحديات فجاءت به بمنتهى الشجاعة. جاءت لتواجه المجتمع، جاءت لتواجه الأهل والناس والأقارب والعشيرة وما كان ذلك سهلاً عليها! ولكن الثبات واليقين بالله سبحانه وتعالى سهّله عليها.
كلما كان الإنسان مليء القلب بالثبات والرسوخ لأمر الله واليقين به وحسن الظن به كلما فتح الله أمامه الأبواب المغلقة كلما سهّل عليه الشدائد والصعاب كلما جعل تلك المحن تنزل على قلبه وكأنها منح وعطايا وكان ذلك الأمر في مريم.
وكان ذاك الجزاء أن جعلها الله وابنها آية للعالمين وأنزل فيها القرآن الذي يُتلى وأنزل فيها كل تلك الآيات البينات جزاء الثبات، جزاء اليقين، جزاء الامتثال لأوامر الله. والوقفة رائعة، العبادة والقنوت والركوع والسجود والتفرغ لعبادة الله لا بد أن يكون لها ما يصدّقها في الواقع من الثبات حين تشتد الخطوب وتتوالى على الإنسان الابتلاءات. الإنسان معرّض والركوع والسجود وذكر الله زاد المؤمن في المحن، زاد المؤمن الذي يمدّه بطاقة إيجابية، زاد المؤمن الذي يمده بقوة لا يفهمها الكثير من البشر يتعجبون لحاله كيف يثبت والمحن تتوالى عليه كيف يثبت؟!
إنما يثبته الله
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (27) إبراهيم)
وكذلك في الآخرة.
.......................
(إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ )
الكلمة التي جاء بها كل الأنبياء، الكلمة التي ثبت عليها كل الأنبياء الكلمة التي جاء بها الأنبياء للناس ليجعلوا من الحق والعدل قيمة عليا والحق لا يمكن أن يترفع بأناس لا يثبتون عليه.
الله قادر على أن يرفعه بقول كن فيكون لكن الله سن للبشر سنن وقوانين ومن تلك السنن أن يكون للحق وللعدل وللقيم وللصدق آل وأناس يدافعون عنه، أناس على استعداد لبذل المال والنفس في سبيله، في سبيل أن يرتفع عاليًا وقد أدرك عيسى تلك المعاني ولذلك سورة آل عمران تعرض نماذج من البشر العاديين ليسوا من الأنبياء ولكنهم ثبتوا ولذلك يأتي لاحقًا
(فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ )
ثبات أمام التحديات والشدائد والمحن والكروب، هذا الثبات كيف يُصنع؟
توجه عيسى عليه السلام لما أحس من قومه المكائد والكفر
(قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)
عيسى عليه السلام يدرك أن الله ناصره لكنه أراد أن يؤسس أن الحق لا بد أن يكون له من أناس ينصرونه بأرواحهم
(قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)
هذه الفئة من البشر نصرت الحق،
دافعت عنه لماذا أراد عيسى أن يؤكد هذه المعاني؟
الإنسان في الحياة مهما امتد به العمر سينقطع فكل نفس ذائقة الموت ولكن الحق ممتد وباقي، أمر الله وتعاليمه باقية ولا بد أن يكون لذلك امتداد ولا بد للنبي وأتباع الأنبياء وأصحاب الحق أن يحمِّلوا من بعدهم الرسالة، رسالة الأمانة، رسالة التوحيد والقيم والحق والعدل، لا بد أن يعلموا هؤلاء من يحملوا بعدهم ذاك الهمّ أن الحق غالي، أن الحق يدافع عنه بالأرواح أن الحق تبذل في سبيله التضحيات ليحق الله الحق بكلماته ويقطع بعد ذلك دابر الكافرين والظالمين المناهضين للحق وقيم العدل.
ولذلك عيسى عليه السلام الذي أحيط بكمّ من الكروب والمحن ما هزته الشدائد ولا غيّرته الدسائس ولا المكر ولا الكيد ولا المحن ولا الصعوبات، فالله يمكر له (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ).
كانت النتيجة أن الله سبحانه وتعالى رفعه إليه، أن الله سبحانه وتعالى جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا، جعل أنصار الحق والعدل والقيم الذين ثبتوا على ذلك فوق الذين كفروا وهذه قاعدة وقانون:
من يثبت على الحق والعدل لا بد أن الله يرفعه لا بد أن الله ينصره. وليس النصر فقط في الدنيا وإنما في الآخرة ويوم القيامة.
أما أولئك الكفرة، أولئك الذين يبيعون ويشترون بالحقّ وبالعدل وبالقيم فأولئك لا خلاق لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة وما لهم من ناصرين.
(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )
ليس المطلوب من المؤمن أن يحمل الناس أو يُكرههم على الحق وإنما المطلوب منه أن يُظهر ذلك الحق بالحوار والحكمة والموعظة الحسنة ثم يترك للناس حرية الاختيار في اتخاذ القرار وفي كل الأحوال يضرب المثل الأعلى والأسمى في الثبات على ذاك الحق مهما كلفه الثمن.
............................
الولاء والانتماء لا يكون لأفراد ولا لأشخاص ولو كان هؤلاء الأشخاص صفوة الخلق من الأنبياء، الولاء والانتماء يكون للدين، الولاء والانتماء يكون للتوحيد، الولاء والانتماء يكون للشريع الذي جاء به الله سبحانه وتعالى والأنبياء ومن بعدهم رجال الدين، هؤلاء جميعًا إنما يحملون أمانة توصيل الرسالة ولكن الانتماء لا يكون لهم كأشخاص، ألغت سورة آل عمران تلك الفوارق والحواجز لتقطع دابر العنصرية والتعصّب.
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُون)
لا تجادل بأشياء باطلة
ابراهيم عليه السلام كان سابقًا على اليهودية والنصرانية من الناحية التاريخية ومن الناحية الزمنية فلِمَ تحاجّون، لِمَ تريدون أن تخضعوا كل شيء لأهوائكم، لِمَ تأتون إلى الحق بأفكار مُسبقة تريدون أن تُخضعوا الحق لها؟
الحق لا ينبغي أن يُخضع لآراء مسبقة، الحق يُخضَع له ولا يخضه هو لشيء،
(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (69))
ليس كل أهل الكتاب على حد سواء، أنت مهما كان انحرافات البعض منهم لا ينبغي لك أن يدفع بك الهوى والتعصّب والعنصرية لأن تنظر إلى كل الفئة أو الطائفة أو أصحاب الدين بمنظار واحد. لا يحق لك ذلك، لا ينبغي لك، أنت تؤمن بالله أنت تؤمن بمبادئ القرآن والقرآن حرّم الظلم وحرّم التعميم حرّم أن تعمم الأحكام على شعوب أو على طوائف فيقال الشعب الفلاني كذا، النصارى كذا، اليهود كذا، أبداً، طائفة فريق أمة فرقة ولكن لا تعمم لأن التعميم ظلم والظلم قد حرّمه القرآن بشتى صوره وأشكاله وأنواعه.
(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا (75)).
لا تنظر ولا تجحِف في النظرة إليهم على حد سواء لا بد أن يكون هناك تفرقة، لا بد أن تعامل الناس بمعيار العدل والحق ولا تعاملهم بمعيار التعميم ولا تعاملهم وكأنهم بشر على طائفة وعلى قلب واحد، منهم الأشرار ومنهم الأخيار، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق، الناس طرائق، الناس مشارب مختلفة حتى وإن انتموا لدين واحد، حتى وإن كانوا يدينون بدين واحد أو ينتمون إلى حزب واحد أو إلى طائفة أو ما شابه مما تعارف عليه الناس.
القرآن يعلمني الإنصاف
القرآن يعلمني العدل حتى في الكلمة التي أقولها،
لا تعمم.
ولذلك جاء بعد ذلك في نهاية الآيات لتعيب على بعض أهل الكتاب ما قالوه وخاصة اليهود
(لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
لا يهمنا من خالفنا، نسرق منهم، ننهب منهم، نصادر أموالهم وحياتهم لا يهم
(لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ)
ولكن هذا المبدأ مبدأ مرفوض في القرآن، لماذا؟
لأن القرآن يعلمني أن أكون أميناً مع من ائتمنني ومن أمَّنَنِي سواء أكان خائناً أم كان أميناً، هذا ما يعلمني عليه القرآن. القرآن يعلمني أن أمارس الأمانة بمطلقيتها، القرآن يعلمني أن أمارس الأمانة بإطلاق لا أفرق بين الناس، أنا أمين سواء أكان ذاك الذي أتعامل معه أمين أم خائن لا يهم ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم
"أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك".