القاعدة الخامسة: السكن والاستقرار في التزام الأمر وترك المناهي
قال الله تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]
وهذه قاعدةٌ أخرى، تتضمّنها هذه الآية الكريمة، فهلا تأمَّلناها، وتأمّلنا تأثيرها على استقرار الحياة الزوجية! وهي وإن كانت قد جاءت في سياق موضوع المنافقين، ومعناها المناسب للسياق: ولو أنهم فعلوا ما تركوه من أمر النبي صلى الله ليه وسلم ، إلاّ أن دلالتها تتجاوز ذلك.
يقول الله تعالى: ﴿وَلَو أَنَّهُم فَعَلُوا مَا یُوعَظُونَ بِهِۦ﴾ أي: في كل شأنٍ من شؤون الحياة عمومًا، وتتناول دلالتها الحياة الأسريَّة والزَّوجيَّة، ﴿لَكَانَ خَیرا لَّهُم وَأَشَدَّ تَثبِیتا ﴾ والتثبيت في التزام الأوامر المتعلقة بالأسرة يعود إلى تحقيق السَّكن والاستقرار والسعادة في الحياة الأسريّة.
إنَّ الله تعالى قد وعظنا وبيَّن لنا سبل الهداية، ورسولنا صلى الله ليه وسلم ، قد تركنا على البيضاء، كما قال صلى الله ليه وسلم: (وَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ) ، فلم يبقَ إلا أن نتَّبع ما أُمرنا به، وأن نفعل ما وُعظنا به؛ حتى نؤسِّس حياتنا على أسس ثابتة راسخة، إذا هبَّت عليها ريح الفُرقة والتّنازع؛ لم تؤثِّر فيها شيئًا!
وفي هذه القاعدة، التي يتضمَّنها قوله تعالى: ﴿لَكَانَ خَیرا لَّهُم وَأَشَدَّ تَثبِیتا ﴾، إشارة أخرى: وهي أن التثبيت يشتد ويزيد بحسب الاستقامة، وعليه فلا حد من الطمأنينة والاستقرار، ينعم بها الملتزم بأمر الله، بل هو في حال ارتقاء متواصل؛ ما دام متَّبعًا لما أنزل الله، مخالفًا لدواعي الطبع ونوازع الهوى اتعاظًا بمواعظ الله. فمهما كان الخير الذي أنت فيه؛ فإنه يزيدُ ويتضاعف، ومهما كانت المودة والرحمة التي بينك وبين أهلك، وبينك وبين زوجك؛ فإنها ترتقي كلما ارتقيت في التزام أمر الله، كما قال تعالى: ﴿نُّورٌ عَلَىٰ نُور یَهدِی ٱللَّهُ لِنُورِهِۦ مَن یَشَاۤءُ ﴾
تأمَّلوا حال الخيمةَ التي توضع وتُنصب في البَرِّ، إذا لم تُثبَّت أعمدتُها وأطنابها، كيف تسقط وتتهاوى إذا هبَّت عليها أيُّة ريحٍ، أما إذا كانت أعمدتها وأطنابها ثابتةً مستقرَّةً؛ فإنَّ الرياح تأتيها عن يمين وشمال، دون أن تؤثر فيها، واسألوا أهل البادية الَّذين يعيشون حياتهم في البرِّيَّة، كم هبَّت عليهم من الرياح والعواصف، ومع ذلك بقيت بيوتهم البسيطة ثابتة! قد وجدوا من خلال الواقع والتجارب، أنَّ تقوية الأسس والأعمدة والأطناب هو القاعدة القويّة لبيوتهم، التي تكفل بقاءها ثابتةً بإذن الله تعالى.
إنَّ الحياة الأسريَّة كذلك لا تسلم من العواصف، ومن محاولاتِ الآخرين زعزعةَ استقرارها، وهؤلاء الآخَرون قد يكونون من أقاربنا، بل من أنفسنا، ومن أولادنا، فالعلاقة الزوجيّة، تتناوشها كثيرٌ من السِّهام الطائشة! أو التي تهدف إلى إحداث الشقاق بين طرفيها؛ الزَّوج وزوجه، وذلك قد يكون من أقرب الأقارب، كما قد تُستخدم فيه مختلف الوسائل والأساليب، المنافية للشَّريعة، من اللجوء إلى السَّحرة، وإلى غير ذلك من الوسائل التي تهدف إلى زعزعة استقرار الأسرة، فإذا كانت العلاقةُ بين الزوج وزوجه ثابتة وقوية وعميقة، قائمة على الالتزام بما ورد إليهم من المواعظ والأحكام الشَّرعيَّة التي جاء بها القرآن، كما قال تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]
والمواعظ والأحكام الشّرعية التي جاءت بها السُّنَّة المطهّرة، كما قال تعالى: ﴿وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُم عَنهُ فَٱنتَهُوا﴾ [الحشر:7]؛ فإذا كانت العلاقة بين الزوجين، قائمةً على هذا الأصل الرَّاسخ؛ فعندئذٍ تثبت هذه الأسرة في وجه العواصف، وتتكسر النصال الخائبة على النصال!
إنّ الحياة العامة مؤثرةٌ في الحياة الخاصَّة، كما أنَّ الحياة الخاصَّة مؤثرةٌ في الحياة العامَّة؛ فإذا كان الرّجل مستقيمًا صالحًا في حياته الخاصّة، في عبادته، في صلاته، في أخلاقه، والمرأة كذلك، فإنَّ هذا يؤثر إيجابًا على حياتهما الزّوجيّة، أيضًا فإنَّ قوة العلاقة بين الزوجين، تؤثر في الحياة العامة لكلٍّ منهما، من حيث قدرة الرجل، وقيامه بالواجبات الشرعية العامة للأمة، وكذلك من حيث قدرة المرأة على مهامِّ الدَّعوة والعمل الخيريِّ وسط النساء، والفصل بين كلٍّ من الحياة الخاصَّة والحياة العامَّة، ليس معقولًا، بل هو فصام نكد، إذ كيف لرجلٍ عاجزٍ عن حلِّ مشكلاته الأسريّة، أن يعالج ببعض الجهد مشكلات أمَّته؟ فالحياة الخاصَّة والحياة العامَّة كلاهما صنوان وهذه من تلك، وهذا يجعل قول الله تعالى: ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا﴾ [النِّساء]، بما يكتنفه من عموم، مؤثرًا في حياة الأسرة! وإذا أسَّسنا حياة الأسر أسرة أسرة على أسس قويَّة راسخة، حمينا بإذن الله المجتمع كلَّه من تلك العواصف والقلاقل التي تؤثّر على استقراره.
,,,,,,,,,
القاعدة السادسة: البيوت العامرة بالقرآن يغمرها اللطف الإلهيُّ
قال الله تعالى : ﴿وَٱذكُرنَ مَا یُتلَىٰ فِی بُیُوتِكُنَّ مِن ءَایَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلحِكمَةِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا ﴾ [الأحزاب].
الخطابُ في هذه الآية، موجَّهٌ إلى أمَّهات المؤمنين، زوجات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وتأمَّلوا كيف كان ختامها بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِیفًا خَبِیرًا ﴾ وهذا معنىً عظيم؛ يوصل الخير إليكم ويدفع الشر عنكم بطريق لا تحتسبونها!
وفي هذه الآية رسالة وتوجيهٌ من الخبير سبحانه لكلِّ مؤمنٍ، أن يجعل بيته عامرًا بتلاوة القرآنِ الكريم، فهو كلامُ الله سبحانه ..
وقد عرفنا من السُّنَّة حال البيت إذا لم يكن عامرًا بتلاوة القرآن! روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الْبَيْتُ الَّذِي لَا يُقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنُ، كَمَثَلِ الْبَيْتِ الْخَرِبِ الَّذِي لَا عَامِرَ لَهُ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ) ..
وفي روايةٍ عند أحمد، صحَّحها الأرناؤوط: (فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنْ الْبَيْتِ، إِنْ يَسْمَعْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ) .
إذن البيتُ العامرُ بتلاوة القرآن والذِّكر، تتحقَّق فيه أسباب السَّعادة، ويتحقَّق فيه الاستقرار، بإذن الله تعالى ..
أمَّا البيتُ الغارقُ في الأغاني والملاهي، والبرامج المحرمة، والأفلام الماجنة، والغِيبة والنَّميمة؛ فحري بأن يكون مأوىً للشَّياطين، كالبيت الخرب فيه وحشة!
كما إذا دخلتَ إلى بيت خربٍ من البيوت القديمة، فماذا أنت واجدٌ فيه غيرُ الحشرات والحيَّات والعقارب وهوام الأرض! فيا أخا الإسلام هل تريد أن يكون البيت مأوى للشياطين، أم تريده محلًا للطف الإلهيِّ والاستقرار والسكينة؟
إذن، فلنعمرها بذكر الله تعالى ، وبتلاوة القرآن وتدبره وقراءة تفسيره، ولأجل هذا الغرض، حريٌّ بالزوجين، أن يؤسِّسا حلقةً للعلم في بيتهما، تكون مائدةً للقرآن، ينهلان وينهل من معينها أبناؤهم، فهنا لا مكان للشيطان، بل يفرُّ كما في رواية الإمام أحمد، أو ينفر كما عند الإمام مسلم، وكلها معان متقاربة.
فإذا كان الشيطان يفرُّ وينفر، من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة، فكيف بالذي يُعمر بالقرآن كلِّه؟! سيكون بلا شك أشدَّ فرارًا وهربًا.
جعل الله بيوتنا عامرةً بذكره، ومحلًا للطفه ومودَّته وحبِّه سبحانه ، فإنه إذا أحبَّنا سرى الحبُّ بيننا، والاستقرارُ إلى قلوبنا، والتآلفُ إلى نفوسنا، والله أعلم.
,,,,,,,,,
القاعدة السابعة: قدم في الاختيار الزَّوج الصَّالح
قال الله تعالى : ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم ]
هذه الآية فيها إشارات:
أولًا: تتضمَّن هذه الآية أمرًا موجَّهًا إلى أولياء الأمور بإنكاح مَن تحت ولايتهم من الأيامى وهم: مَن لا أزواج لهم، من رجال ونساء، ثُيَّبٍ وأبكار، وهذا الأمر يدلُّ على أن الإنكاح واجب على الفور عند توفر شرطه، على الراجح، ويؤكد ذلك أنّ الآية تضمَّنت جوابًا على ذريعةٍ يحتجُّ بها كثيرٌ من الناس، فيؤخِّرون الزواج بناءً عليها، ألا وهي: الفقر، وقلة ذات اليد، فأجاب الله سبحانه على المتذرعين بذلك بقوله تعالى: ﴿إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم﴾.
فالمبادرة إلى الزَّواج تحقق الاستقرار والهدوء النَّفسيَّ، وأكثر الشباب تكون حالهم المادية في مستقبل حياتهم ضعيفة، ثم يتزوجون فرزق الله من يشاء، ولا شك أن المسؤولية وبناء الأسرة من دواعي السعي والعمل الدؤوب.
ثانيًا: قوله تعالى: ﴿وَٱلصَّٰالِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ﴾ فيه إشارةٌ إلى أنَّ من عوامل الاستقرار الأسريِّ، التي ينبغي مراعاتها: حسن اختيار الزوج أو الزوجة، وكثيرٌ من النَّاس تساهل في هذا الأمر، فلم يراعِ جانبَ الصَّلاح، برغم أهميته الكبيرة.
ثالثًا: في الآية إشارة مهمَّة: إلى أن بعض الناس قد يُراعي جانب الغنى والقدرة المادية، على حساب الصلاح، والله سبحانه يبيّن أنَّ المهم هو الصلاح: ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡۚ﴾، أمَّا فقره فإنَّ الله يغنيه.
وحال كثير من النَّاس اليوم بخلاف ذلك! يردُّ الخاطبَ –وإن كان صالحًا- لأنَّه فقير، ويزوج الغني وإن ضعف صلاحه، ويقول: يعقل ويصلح بعد الزواج! والله تعالى يقول: ﴿إِن یَكُونُوا۟ فُقَرَاۤءَ یُغۡنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیم﴾.
فإذا صدق الأبُ أو وليُّ المرأة وأحسن اختيار الزوج لابنته، مراعيًا الصلاح، فإنَّ هذا وعدٌ من الله أن يُغنيه، المهم أن يكون واثقًا وموقنًا ومؤمنًا بوعد الله، وأن يكون سببُ قَبوله له هو صلاحه، أخذًا بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (إذا خطب إليكم من ترضَون دينه وخُلقه؛ فزوِّجوه. إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض)(1)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يزوّج بناته على اليسير، كما روي عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قَالَ: (لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَاطِمَةَ رضي الله عنها ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهَا شَيْئًا، قَالَ: مَا عِنْدِي، قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ)(2)
وأيضًا ما روي عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله ليه وسلم جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إِنِّى قَدْ وَهَبْتُ نَفْسِى لَكَ، فَقَامَتْ قِيَامًا طَوِيلًا، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! زَوِّجْنِيهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ بِهَا حَاجَةٌ! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: (هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَىيءٍ تُصْدِقُهَا إِيَّاهُ؟ فَقَالَ: مَا عِنْدِي إِلاَّ إِزَارِي هَذَا! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: إِنْ أَعْطَيْتَهَا إِيَّاهُ جَلَسْتَ لاَ إِزَارَ لَكَ، فَالْتَمِسْ شَيْئًا! فَقَالَ: مَا أَجِدُ شَيْئًا. قَالَ: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيءٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، مَعِي سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، لِسُوَرٍ سَمَّاهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله ليه وسلم: قَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ)(3)
وقد حضرتُ عقد زواج أحد الشَّباب الطّيبين، وكان والد الفتاة رجلًا صالحًا، فعندما سأله العاقد: ما هي شروطك؟ قال: أن يُعلِّمها كتاب الله سبحانه ، وأن يُحفِّظها جزء عمَّ! ولم يشترط شيئًا من عَرَض الدّنيا، بل عندما دفع الزوج المهرَ كان كبيرًا، غضب الأب.
بينما بعضُ النَّاس الآنَ -مع كل أسف- يقدِّمُ صاحبَ المال والوجاهة والمنصب وعرَضَ الدُّنيا، على الصَّلاح، وكثيرًا ما جاءني من يستفتيني فيمن جاء يخطب ابنته، يقول: هو غير مستقيم، لكنَّه ذو مالٍ أو ذو منصب، والأعجب أنَّني أسأله أحيانًا عن عمله؛ فأفاجأ بأنه يعمل في بنكٍ ربويٍّ، أو في مجال من المجالات المحرّمة، فأقول له: كيف تزوّجه وهو سيغذي ابنتك من الحرام؟ فيقول: سيصلح بإذن الله ويهتدي بعد زواجه. فأقول له: هل ابنتُك صالحةٌ مستقيمة؟ فيقول: نعم، ويُثني عليها لصلاحها، قلت: وما يضمنُ أن يكون هو سببًا لانحرافها أو عدم استقامتها! بل هذا واقع ومشاهد.
وأيضًا فإنَّ الزوجة إذا لم تكن صالحةً، قد تكون سببًا لانحراف الزَّوج، وقد رأيت أناسًا كانت تبدو عليهم سيما الاستقامة، ثمَّ بعد زواجهم بأشهرٍ قلائل؛ بدت على ظواهرهم علامات الفتور، والله أعلم ببواطنهم، فأتساءل عن السَّبب وأفتش، فأجده ضعف استقامة الزَّوجة، فبعض الزوجات قلَّ من يُقاومها، وخاصة إذا أحبَّها زوجُها، وملكت قلبه، فعندئذٍ يتسرَّب إليه الضّعف شيئًا فشيئًا، فحري بأهل الزَّوج أن يجتهدوا في اختيار المرأة الصالحة لابنهم.
إنَّ الصَّلاح من أهمّ عوامل الاستقرار الأسريّ، لقد رأيتُ بيوتًا لا يجد أهلها ما يأكلونه إلاّ قليلًا، لكنهم يغبطون على ما هم فيه من استقرار وصفاء ومودة، وقد رُزق بعضهم مع ذلك أبناء صالحين، ولا غرو فالشيء من معدنه لا يستغرب! وحسبنا بيت النبوة، فإنه كما ورد في الحديث، عن عروة، عن عائشة، أنَّها قالت: (إن كنَّا لننظر إلى الهلال ثلاثةَ أهِلَّةٍ في شهرينِ، وما أُوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار فقلت ما كان يعيشكم؟ قالت الأسودان التَّمر والماء)(4)
وكان بيته صلى الله عليه وسلم أسعد البيوت! وكان بوسعه أن يملأه ذهبًا لو شاء! فقد عُرِضت عليه الدُّنيا فأباها، إيثارًا لما عندَ الله في الآخرة.
والمهم هو أن نؤثر الصلاح، وأن نجتهد منذ البداية في اختيار الزوج الصالح أو الزوجة الصالحة، فالسعادة ثمة!
قد يقول قائل: هل تعني هذه الآية الكريمة: ﴿وَأَنكِحُوا۟ ٱلۡأَیَٰمَىٰ مِنكُمۡ وَٱلصَّٰلِحِینَ مِنۡ عِبَادِكُمۡ وَإِمَاۤئِكُمۡ﴾ ألا نُزوّج الفاسق مطلقًا؟
فأقول: لا، إنما تعني أن نجتهد في اختيار الزَّوج الصَّالح، وأن نشدد في ذلك إن كانت الزوج صالحة، وأمّا ضعيفُ الدِّين فنُزوِّجه بمن هي على شاكلته، وقد سمعتُ سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، في برنامج ”نور على الدَّرب“ مرة وقد سأله سائلٌ من بلدٍ لا يُقيمون حدود الله على من لم يُصَلِّ، قال السائل: إنَّ رجلًا خطب ابنتي، وهو لا يصلي، وابنتي أيضًا لا تصلي! فنصحه الشيخ، ثمّ قال له: إذا كانوا كلُّهم لا يُصلُّون فزوِّجوه، فهكذا نقول، وهذا من فقهه رحمه الله كما قال الله سبحانه : ﴿ٱلۡخَبِیثَٰتُ لِلۡخَبِیثِینَ وَٱلۡخَبِیثُونَ لِلۡخَبِیثَٰتِۖ وَٱلطَّیِّبَٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَٰتِۚ﴾ ، فإذا جاء رجلٌ ضعيفٌ في دينه، وخطب فتاةً ضعيفةً في دينها؛ فيُزوَّج؛ لأن عدم تزويج ضعيفِ الدِّين قد يكون سببًا للفساد.
أسأل الله تعالى أن يُصلح شبابنا، ويجنِّبهم سبل الغواية والفساد.
(1) رواه الترمذي (1084) وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
(2) رواه أبو داود (2125)، والنسائي في الكبرى (5542).
(3) صحيح البخاري (5149).
(4) صحيح البخاري (2567)، وصحيح مسلم (2972).
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
القاعدة الثامنة: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
قال الله سبحانه : ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾
هذه جملةٌ قصيرةٌ، من آيةٍ عظيمةٍ، وردت في سورة البقرة، لو أنَّ الزَّوجين تدبَّراها وفقِها معانيها ودلالاتها؛ لحلَّ الاستقرارُ والسَّكنُ في رحاب الأسرة؛ ولاجتهد كلٌّ منهما في معاملة زوجه، معاملةً تحقِّق لهما معًا الأنس والراحة.
كم في هذه الكمات القصيرة من معانٍ عظيمة! ولكي ندرك عظمتها، دعونا نتأمَّل في دلالات مفهوم اللباس ووظائفه، وإنَّها لدلالاتٌ كبيرة، أليس يستر عوراتنا؟ ألسنا نختار من اللباس ما نراه جميلًا، ومناسبًا في مظهره ومخبره؟ ألسنا نراه يتناسب مع اختلاف الفصول، فنختار في الشتاء الملابس الثقيلة، لتقينا قرص البرد، ونختار في الصيف الملابس الخفيفة، ذات الألوان الهادئة، لتخفف من لفح الحرِّ؟
إنَّ اللِّباس تعبيرٌ إنسانيٌّ جميل، فمظهر الإنسان مع ثيابه، سواءٌ من حيث نظافتها أو من حيث جمالها، يعبِّر عنه، وعن إحساسه وشعوره، وقد قال رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً) ، وفي روايةٍ أخرى: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلًا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ذَاكَ الْجَمَالُ، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ) .
وبناءً على دِلالات ومعاني اللِّباس، لنتخيَّل كيف تكون العلاقةُ بين الزوجين، إذا تعامل كلٌّ منهما مع الآخر باعتباره لباسًا له! لا ريبَ أنَّها ستكون حياةً محفوفةً بالأنس والمودَّة والرَّحمة، ومصداقًا لهذا المعنى، أذكر أنَّ أحدَ طلابِ العلم من القارَّة الهنديَّة، كان يُترجم كتاب ”ليدَّبَّروا آياته“ الذي يُصدره مركز تَدبُّر بالرياض، وفي يوم من الأيام، أثناء قيامه بترجمة هذا الكتاب، طرأ خلاف بينه وبين زوجته وهي في بلدها، وهو في الرياض، فتشاجرا واختلفا وربما اقتربا من حافَّة الطَّلاق، وقال لها إنّه سيتَّصل بوالدها، ثمَّ عاد إلى عمله في ترجمة الكتاب، فكان من التوفيق أنَّ مرَّ عليه قول الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ فوقف عند معانيه التدبرية التي ذكرها المؤلف، وفيها شيء ممَّا أشرتُ إليه آنفًا، ونظر في المعاني المكنونة في لفظ ”اللِّباس“، فما هو إلا أن نهض واتَّصل بزوجته، وأخبرها بأنّه قد صرف النَّظر عما قاله، فتعجَّبتِ المرأة من سرعة تغيُّره من حالٍ إلى حال؛ فبيَّن لها أنَّه الآن يقوم بترجمة معاني قول الله تعالى: ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ ، وقد وجد فيها من الدّلالات العميقة ما لم يكن يخطر على باله، من حقيقة العلاقة بين الزوجين، فقال لها: أنتِ لباسٌ لي، وأنا لباسٌ لك، لا يليق أن يمزَّق اللباس ولا أن يخلع هكذا ارتجالًا! بل لابد من أسباب ووسائل واحتياطات، هي الطرق الشرعيَّة المعتبرة.
ولو أنَّ إنسانًا اشترى ثوبًا جميلًا ثمينًا، ثم أصاب الثَّوبَ خرقٌ يسيرٌ، فإنّ العقل لا يقضي بإتلافه ورميه! بل يجدد ويصلح ويخاط ويرقع؛ ما لم يتشوه أو يهترئ ويتلف، وإذا كان إتلاف اللباس الصالح لعارض يسير من السفه وتضييع المال، فكيف بلباس الزوجية!
ما أعجب هذه الآيةَ التي وقفنا عندها! ﴿هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾ ، ما أعظم دلالتها! وما أروع أثرها في تحقيق سعادتنا واستقرارنا، إذا تدبرناها، وذلك برغم قصر موضع الشاهد منها، فلنتدبَّر كلام الله سبحانه كلَّه.