القاعدة الثلاثون: العَدْلِ واجبٌ
قال الله تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء:129].
هذهِ الآيةُ الكريمةُ نَزلتْ فِي حقِّ الزوجِ المعدِّدِ الذي لديهِ أكثرُ منْ زوجةٍ تأمره أن يقارب العْدلَ بينهنَّ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}، وهناكَ خللٌ في فهمِ هذهِ الآيةِ عندَ كثيرينَ، فيظنونَ أنَّهُ يجوزُ الميلُ اليسيرُ، وليسَ في هذهِ الآيةِ أيُّ دَلالةٍ علَى ذلكَ، لكنَّها تُراعِي واقعاً إنسانيًا، فالإنسانُ مَهْما حَرِصَ علَى العدْلِ فَيَصْعب أنْ يأتيَ بالعدْلِ التامِّ غيرِ الناقصِ، إذِ الضَّعفُ والتقصيرُ منْ طبعِ البشرِ، والميلُ اليسيرُ إذا لمْ يكنْ لليد فيه حيلة ولا بسببِ تفريطٍ أوْ تساهلٍ فإنَّه معفوٌّ عنْهُ، أمَّا تَعمُّدُ الميلِ فهذَا ظلمٌ، والظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ، وهوَ محرَّمٌ كمَا في الحديثِ: "يَا عبادي إنِّي حرَّمتُ الظلمَ علَى نفسِي وجعلتُه بينكمْ محرّمًا فلا تظَّالَمُوا".
والعجيبُ أنَّ بعضَ الناسِ يعرفُ أنَّه لوْ أخذَ رِيَالًا بغيرِ حقٍ منْ أيِّ إنسانٍ فإنَّه ظلمٌ لا يجوزُ فيتورَّعُ عنْهُ، وهذَا الشّعور محمودٌ ولا شك، لكنَّه لا يُبالِي أنْ يَقَعَ في الظُّلمِ والميلِ في حقِّ زوجِهِ أو إحدَى زوجاتِه أوْ في حقوقِ أولادِهِ، معَ أنَّهُ لا فَرْقَ بينَ الحالَينِ فذاكَ ظلمٌ محرمٌ، وهذَا ظلمٌ محرمٌ أيضًا.
إنَّ مِنْ صورِ الميلِ والظلمِ المحرمِ الذيْ يقعُ فيهِ بعضُ الأزواجِ، أنهُ إذَا أحبَّ إحدى زوجاتِه أكثرَ منْ غيرِها، فضَّلها بالعَطايا والهَدايا والأموالِ والمسكنِ والمطعمِ والملبسِ، وغيرِ ذلكَ، ومِنْ صورِهِ أيضًا أنْ يُفضِّلَ أولادَها علَى أولادِ الأُخْرَياتِ، بالعطاءِ والمنحِ وسائرِ الحقوقِ الواجبةِ للأبناءِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حذَّرَ مِنْ هذَا، كمَا في حديثِ بشيرِ بنِ سعدٍ عندما نَحَلَ ولدَه النُّعمانَ بنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه نِحلةً وجاءَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَه علَى مَا أعْطاهُ، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا"؟ قَالَ: لَا، قَالَ: "أَلَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمُ الْبِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا"؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: "فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ"، وفي بعضِ ألفاظِ الحديثِ: "فَإنِّي لا أَشْهَدُ عَلى جَورٍ"، وفي لفظٍ آخَرَ: "فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي"، وَهذَا لا يَعنِي أنَّه يجوزُ أنْ يميلَ في عطائِه ويُشهِدَ آخَرِين، بلْ هوَ منْ بابِ الردْعِ والتهديدِ، لأنَّه بيَّنَ أنَّه جَوْرٌ، وَهُناكَ نَهْيٌ عنِ الجَورِ والظلمِ والبَغِي والعُدْوانِ.
ولا شكَّ أنَّ الميلَ لإحدَى الزوجاتِ إنْ تَعدَّاه إلَى ميلٍ وتفضيلٍ لأولادِها عنْ بقيةِ الأولادِ فهُوَ ظلمٌ فوقَ ظلمٍ، وهوَ منْ أسبابِ وقوعِ العداواتِ بينَ الأبناءِ، حيثُ يَرَى بعضُهم أنَّ والدَهم قدْ فضَّلَ إخوانَهم عليْهِم فيُبغضونَهم ويَحقِدونَ عليهم وقدْ يسعَوْنَ في إضرارِهم، وهذَا مِنْهم ظلمٌ أيضًا، إذْ لا ذنبَ لِإخوانِهم في ذلكَ، إنَّما هوَ ذنبُ الوالدِ، إلاّ إذا رضوا هم بهذا الظُّلم وأقروه.
قدْ يقولُ قائلٌ كانَ الواجبُ علَى الإخوةِ الآخَرينَ أنْ يرفضُوا أيَّ ميلٍ لهمْ دونَ إِخوانِهم، وهذَا صحيحٌ إنْ تعلَّقَ الأمرُ بعطاءٍ ماديٍّ، فلوْ أعْطَى هؤلاءِ أَلْفَ رِيَالٍ ولمْ يُعطِ الآخَرينَ، أوْ أعْطَى الآخَرينَ أقلَّ منْ ذلكَ، فهُنا يجبُ علَى الابنِ أنْ يَرْفُضَ هذا الأمرَ وأنْ يَعْتذِرَ لِأبيهِ بالأسلوبِ المناسبِ ويُذكِّرَهُ بحَديثِ النُّعمانِ ويطلبَ منهُ التسْويةَ في العَطايا، ولكنْ قدْ يكونُ الميلُ أحيانًا معنويًا بالتقاءِ الأبِ بأبنائِهِ منْ زوجةٍ وجلوسِه معَهم أكثرَ منَ الآخَرِين، فهُنا لا يَنبغِي لهمْ أنْ يَقومُوا ويتركوا الأبَ، أو يقولوا لهُ لا نَجْلِسُ معَكَ حتَّى تَجلِسَ مَعَ إخْوَانِنِا، فهذا عقوقٌ ويترتبُ عليهِ مفاسدُ عظيمةٌ، ولكنْ يَنْصَحُونَ الأبَ ويَتَلَطَّفُونَ معَهُ، وَيقولونَ اتقِ اللهَ فِينا جميعَا، وفي الوقتِ نفسِه يُبادِرُونَ بصِلَةِ إخوانِهم والإحسانِ إليْهم.
والعدلُ مطلوبٌ معَ الجميعِ، حتَّى معَ الزوجةِ ولوْ كانتْ واحدةً، فتُعطَى حقوقَها ولا تُظْلَم، فإن حدثَ تقصيرٌ أوْ خللٌ غيرُ مرادٍ ولا مقصودٍ ولا متكررٍ، وإنَّما هوَ ميْلٌ عارضٌ، سواءٌ معَ الزوجاتِ أوْ معَ الأولادِ، أوْ حتَّى معَ الزوجةِ الواحدةِ، فهُنا يأْتِي التصافحُ والتغافرُ، وعلَى الزوجِ أنْ يُبادِرَ باسترضاءِ مَنْ وقعَ عليهِ مثلُ هذا الظلمِ غيرِ المقصودِ.
ومما يَنبغِي ملاحظتُه أنَّ الاسترضاءَ ليسَ بالضرورةِ أنْ يكونَ بالتسويةِ، وإنَّما يُمكنُ أنْ يكونَ بفعلِ ما يُرضِي كلَّ طرفٍ، فبعضُ الزوجاتِ قدْ تَرْغَبُ في السَّفَرِ أكثرَ مِنَ الأخرَى، وأختُها ربَّما تَرغَبُ في المالِ أكثرَ مِنَ السَّفَرِ، فيأتي زوجُهما فيُرضِي هذهِ بالمالِ ويُرضِي هذهِ بالسَّفرِ، بِشَرطِ أنْ يكونَ التراضِي بينَهما حقيقيًا وعنْ طِيبِ نفسٍ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4]، فبعضُهم قدْ تقولُ له زوجتُه أنا راضيةٌ وهيَ ليستْ راضيةً، لكنْ تقولُ: ماذَا أفعلُ؟ لوْ قلتُ لهُ لستُ راضيةً لفَعَلَ وَفَعَلَ، ولهَدَّدَ وتَوَّعَدَ، وربَّما هَجَرَنَا وربَّما طَلَّقَنَا، فليسَ هذا هوَ الرِّضا الشَّرعيُّ، إذ الرضا الشرعيُّ ما كانَ مِنْ قلبٍ صادقٍ.
وأخيرًا، فَبرَغْمَ أنَّ المخاطَبَ بالآيةِ هوَ الزوجُ، إلّا أنَّ المرأةَ قدْ تُقَصِّرُ في حقِّ الزوجِ لانشغالهِا بأعمالِ المنزلِ أوِ الأولادِ وغيرِ ذلكَ، فهذا نوعٌ منَ الميلِ والظلمِ، فعليها أنْ تَحْرِصَ علَى العدلِ، وعلى القيامِ بحقوقِه وما يُحقِّقُ سعادتَه، فإنْ وَقعَ تقصيرٌ عارضٌ فتُحاوِلُ أنْ تَسترضيَهُ وتُعَوِّضَه، وتُبيِّنُ له سببَ هذا التقصيرِ وتَعتذرُ عنْهُ.
إنَّ العدلَ منْ أُسُسِ السعادةِ والاستقرارِ والهناءِ والسَّكنِ، وكما يُريدُ المرءُ أنْ يَعدِلَ معَهُ غيرُه، فلْيَعْدِلْ هوَ معَ مَنْ تَحتَ يَديهِ مِنْ زَوجاتٍ أوْ أولادٍ أوْ غيرِ ذلكَ {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ}.
<<<<<<<<<<<<<<<<<
القاعدة الحادية والثلاثون: اصبر صبرًا جميلًا
قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5].
موضوعُ الصبرِ تكرَّرَ في القرآنِ الكريمِ قرابةَ تِسعينَ مرَّةً، وسببُ ذلكَ أنَّ الحياةَ لا تخلُو منْ منغِّصاتٍ ومكدِّراتٍ ومشاقَّ وصُعوباتٍ تحتاجُ إلى الصبرِ لتَجاوزِها والتغلبِ عليها، ودخولُ الجنةِ لا يكونُ إلّا بالصبرِ علَى ابتلاءاتِ الحياةِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، ولهذَا لمّا جاءَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يشكُونَ إليهِ مَا يَجِدونَ منْ أذى كفارِ قريشٍ، حثَّهم علَى الصبرِ كما صَبرَ مَنْ قَبْلَهُمْ فقَالَ: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ)، ثمَّ بشَّرَهُمْ بأنَّ العاقبةَ لِهذَا الدِّينِ: (وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ)، ثم قال: (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم وهوَ رسولُ اللهِ أوصاهُ اللهُ عز وجل بالصَّبْرِ علَى مَا سَيعرِضُ لهُ منَ المشَاقِّ فَقَال لهُ: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}.
ولئِنْ كنَّا نحتاجُ إلَى الصَّبرِ في كلِّ شؤونِ حياتِنا، فإنَّ حاجتَنا لهُ في العلاقةِ بيْنَ الزَّوْجَيْنِ أشدُّ، لِما يَحدُثُ في الحياةِ الزوجيةِ مِنْ إِشكالاتٍ ومُنغِّصاتٍ وعوارضَ تُسبِّبُ شيئًا مِنَ الغَضَبِ أوِ الكَدَرِ، فهُنا يُقَالُ لكلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} كي تستقيمَ الحياةُ وتَستمِرَّ. والمُلاحَظُ في الآيةِ الكريمةِ أنَّه مَا قَالَ {فَاصْبِرْ} فَقَطْ، بلْ أكَّدَه {فَاصْبِرْ صَبْرًا} أيْ مُطْلقًا وأيضًا وصَفَه بِقَوْلِه {جَمِيلًا}، أيْ لا تَشَكِّيَ معَهُ، كمَا كَان مِنْ يعقوبَ -عليه السلام- معَ أولادِه في موضِعَينِ: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18]و[يوسف:8]، ومِنَ العجيبِ أنَّه في الموضعِ الثاني قَالَ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا}، مَا قَال (بِهِمَا) أيْ يوسف وبنيامينَ فقطْ، بلْ جَمَعَ معَهُما أخاهما الذي بَقِيَ في مصرَ، معَ أنَّه شريكٌ في الخطأِ الأولِ، ومعَ هذا قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف:85]، فيرُدُّ عليهم بهذا الأسلوبِ الجميلِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فما شَتَمَهُم ولا سَبَّهُم ولكنْ خاطَبَهم بأفضلِ أسلوبٍ ووجَّهَهُم ورَبَطَهُم بالله عز وجل، فوافقَ فعلُه قولَه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
بعضُ الأزواجِ قدْ يَصبرُ علَى زوجتِهِ ولكنْ يَظهَرُ علَى وجهِه وتصرفاتِه الغضبُ، قدْ لا يُعاقِبُ زوجتَه ولا يَلومُها بكلمةٍ، لكنَّ حالَه وواقعَه يدلَّانِ علَى أنَّه لمْ يَصبِرْ صبرًا جميلًا، فمَا معنى أنْ يقولَ الرجلُ إنَّني صَبَرْتُ، وهيَ تَشْعُرُ أنَّ حياتَه قدْ تَغيرَتْ بعدَ ما صَدَرَ مِنْها؟ هذَا نوعٌ مِنَ العقابِ قدْ يَكونُ أشدَّ علَيها مِنَ الكلامِ أوِ الضربِ. كذلكَ بعضُ الزوجاتِ تَقُولُ أنا أَصْبِرُ، بينما هِي تَتَشكّى وَتَغضبُ ويَجِدُ زوجُها منْها الجَفاءَ والإعراضَ والصُّدودَ، بلْ حتَّى لوْ أرادَ قضاءَ وَطَرِهِ لَا تستقبلُهُ بنَفْسٍ طَيبةٍ، فليسَ هذا بالصبرِ الجميلِ، الصبرُ الجميلُ كاسمِه، جميلٌ في حقيقتِه، في دَلالتِه، في عواقبِه، كأنَّ شيئًا لمْ يكنْ، وهوَ الذي لا تَشكِّيَ معَهُ، بلْ فيهِ إحسانٌ كمَا فعَلَ يعقوبُ -عليه السلام- معَ أولادِه.
ومِنَ الصبرِ الجميلِ مَا كانَ مِنْ أحدِ طلابِ العلمِ، يقولُ: في يومٍ مِنَ الأيامِ تَصَرَّفَتْ زوجتِي تَصرُّفًا تَسْتَحِقُّ مَعَهُ العِقابَ، فلمْ أَتَكلَّمْ بِكَلِمَةٍ ولمْ أُشْعِرْهَا أنني غَضِبْتُ، وَعزمْتُ عَلَى ألّا أنامَ إلّا أن أكونَ وإيَّاها مِنْ أَسْعدِ النَّاسِ، فَقامَ بَدَلَ العِتابِ والعِقابِ بِتَصَرُّفٍ جميلٍ، يقولُ: فكانتْ تلكَ الليلةُ مِنْ أَسْعَدِ أيَّامِ حياتِنا، وَقدْ فسَّرَ فِعلَه هذا بأنَّه أولًا مِنْ توفيقِ اللهِ تعالى، ثمَّ إنَّه رأَى أنَّه لوْ بَقِيَ الغضبُ في نفسِه وكَتَمَه وَصَبرَ علَى مَضضٍ، فَسَينامُ ليلةً غيرَ هانئةٍ وسَيدْفَعُ الثَّمنَ، سَيَنامُ في كَدَرٍ ويقومُ علَى كَدَرٍ ويذهبُ إلى عملِه في تَوَتُّرٍ، قال: فوجدْتُ أنني لا بدَّ أنْ أَصْبِرَ صَبْرًا جميلًا، وذَكرَ مثلًا عجيبًا وطريفًا، يقولُ: لوْ كنتَ فِي البَرِيَّةِ وَوَضَعْتَ فِراشَك وأرَدْت أنْ تنامَ فَفُوجِئْتَ بحَجَرٍ تَحْتَكَ آلمكَ، هَلْ تَشْتِمُ الحَجَرَ أمْ تَصْبِرُ ثمَّ تُسَوِّي الأرضَ لِتَنام مرتاحًا إنْ لمْ تكنِ الظروفُ مهيأةً للانتقالِ منَ المَكانِ؟ فَكَذَلِكَ الحياةُ الزوجيةُ، لا بدَّ منَ الصَّبْرِ علَى مُكدِّراتِها، ولا بدَّ منَ الصبرِ علَى الزوجةِ صبرًا جميلًا، ثمَّ المبادرةِ للإصلاحِ، لأنَّ المرأةَ في الغالبِ عودتُها قريبةٌ؛ لأنَّها صاحبةُ عاطفةٍ وقلبُها رقيقٌ.
وَمِنَ النساءِ مَنْ تَصْبِرُ علَى زوجِها صبرًا جميلًا وتَضْرِبُ في ذلكَ أمثلةً رائعةً، فَمَهْمَا وَقَعَ مِنْ زوجِها في حقِّها ومهما أَخطَأَ عليها فهيَ لا تُغيِّرُ مِنْ حياتِها وأسلوبِها معَهُ أبدًا، وتَبْقَى تصرفاتُها وخدمتُها لهُ في حالةِ الغَضبِ والرِّضا متقاربةً قدرَ المُسْتطاعِ، وإلّا فإنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ أنْ يكتُمَ كلَّ شيءٍ، هذَا لا يَكادُ يكونُ موجودًا.
ومنَ الصبرِ الجميلِ منْ أزواجِ النبيِّ -أمهاتِ المؤمنين رضي الله عنهن- أنَّه لمَّا أحبَّ أنْ يُمَرَّضَ في آخرِ حياتِهِ عندَ عائشةَ تنازلنَ كلُّهنَّ عنْ حقِّهنَّ بطيبِ نَفْسٍ فَبَقِيَ عنْدَها حتَّى مات صلى الله عليه وسلم وهوَ بينَ سَحْرِها ونَحْرِها، معَ أنَّ كلَّ واحدةٍ مِنهنَّ تتمنَى لوْ يكونُ عندَها، ففي الحديثِ أنَّه حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، ثمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَخَذَتْ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ شِئْتِ زِدْتُكِ، وَحَاسَبْتُكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ)، فزوجاتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُريدُ الواحدةُ لحظةً واحدةً معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعَ ذلكَ يَتنازلنَ وَيَصْبِرْنَ ابتغاءَ ما عندَ اللهِ تعالى، كمَا حَدَثَ يومَ التَّخييرِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28، 29]، فَصَبَرْنَ وَاخْتَرْنَ كلُّهنَّ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخِرَةَ.
ومِنْ صورِ الصبرِ الجميلِ في الحياةِ الزوجيةِ، أنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانتْ تَغضَبُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ رسولُ اللهِ - بأبِي هُوَ وأمِّي- لكنَّ هذا لا يُوقِعُها في المحظورِ، ففي الحديثِ أنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لها: (إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى. قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ)، فكَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعرِفُ هذا مِنْ حالِها، لَكِنَّها لمْ تَفعلْ شيئًا آخَرَ.
وفي هذا الحديثِ درسٌ للرجالِ الذينَ يَرَوْنَ أنَّه ليسَ لأزواجِهم حقٌ في الغَضَبِ مِنْ تصرفاتِهِمْ مَهْمَا كانتْ، فهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلمِ، وَمَعَ ذلكَ تَغْضَبُ منهُ أحبُّ أزواجِه إليْهِ، وهذَا مِنْ مُقْتَضَى بَشَريّتِها وَبَشَرِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم {أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، ثمَّ إنَّه صلى الله عليه وسلم يَصْبِرُ عليها صبرًا جميلًا، ويَكتَفِي بأنْ يقولَ لها إنَّه يَعلمُ حالَ رضاها وحالَ غضبِها!
وَقدْ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْبِرُ علَى قومِه وعلَى القريبِ والبعيدِ، يَصبرُ علَى صحابتِه، وَيصْبِرُ علَى أهلِ بيتِه وما يَحْدُثُ مِنْ زوجاتِه، وَيَحْتَمِلُ مَا يكونُ منهنَّ، وأمَّا ما كانَ يَحْدُثُ مِنْ عقابٍ كَهَجْرِهِنَّ شهرًا، فمنْ بابِ التربيةِ والتشريعِ أيضًا؛ لأنَّ حياتَه صلى الله عليه وسلم ليستْ قاصرةً عليهِ وإنَّما هوَ مُشرِّعٌ لغيرِه، وبمجموعِ أفعالِه تَتضِحُ الأمورُ وتتضحُ الصورةُ ولا يَتسلَّلُ الشَّيطانُ لسُوءِ فَهمِ {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} فيَظُنُّ البعضُ أنَّها تَعنِي التساهلَ والتفريطَ، بل الحكمة والحزم وأخذ النفس بما فيه الصلاح.
<<<<<<<<<<<<
القاعدة الثانية والثلاثون: علاج المشْكِلاتِ بالتَّوْبَةِ وَالْاسْتِغْفَارِ
قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30].
هذهِ الآيةُ الكريمةُ تضعُ منهجَ حياةٍ للمَرْءِ في تَعامُلِهِ معَ ما يَحُلُّ به مِنْ مصائبَ، وما يمرُّ بهِ منْ مشكلاتٍ ومكدِّراتٍ، فعندمَا يعلمُ أنَّه لا يَنْزل به بلاءٌ إلَّا بمعصيةٍ وأنَّه لا يُرْفَعُ إلَّا بتوبةٍ، فإنَّ نَظْرَتَهُ للأحداثِ وتعاملَه معَها سيختلِفُ اختلافًا كليًّا، وهذَا ما سَمِعْتُهُ منْ أحدِ الدُّعاةِ وطلَّابِ العِلمِ، يقولُ: هذهِ الآيةُ في سورةِ الشُّورَى غيّرتْ حياتِي، يقولُ: كُنتُ إذا وَقَعَ خللٌ في البيتِ أُبَادِرُ بالِعتابِ في بعضِ الأحيانِ، لكنَّه بعدَ أنْ تَدَبَّرت هذهِ الآيةَ وفَقِهتُهَا تَغيَّرَتْ حياتي، فإِذا وَقَعَ تقصيرٌ يسيرٌ منَ الزوجةِ أوِ الأولادِ أعمل بقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237]، أمَّا إنْ كانَ التقصيرُ كبيرًا -وهذَا هو المرادُ- يقولُ: أُدْرِكُ أَنَّه مَا وَقَعَ إلَّا بِسَببي، فهُوَ أثَرٌ لخطأٍ وَقَعْتُ فيهِ قَبْلَ ذلكَ، فأنَا البادئُ والبادئُ أظْلَمُ، وهذا لا يَعْنِي بِالضَّرورةِ أنَّه وَقَعَ منْهُ خطأٌ في حقِّ زوجتِه أوْ في حقِّ أولادِه، بلْ قدْ يكونُ قصَّرَ في حقٍّ مِنْ حقوقِ اللهِ وَوَقعَ في معصيةٍ فعاقَبَهُ اللهُ بتقصيرِ زوجتِه وأولادِه أوْ خطئِهم في حقِّه، وهذا الفِقْهُ فَهِمَهُ بعضُ السَّلفِ مِنْ قَبْلُ، يقولُ الفضيلُ بنُ عِياضٍ رحمه الله: (إِنِّي لَأَعْصِي اللهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ حِمَارِي وَخَادِمِي)، أيْ يَرَى أثرَ المعصيةِ في خُلقِ الدَّابَّةِ وهيَ غيرُ مكلَّفةٍ، فَبَدَلَ أنْ تستجيبَ له وتَخضعَ يَجِدُ مِنْهَا أخلاقًا أخرَى، فَيَعْلَم أنَّ هذَا بسببِ المعصيةِ التي وَقَعَ فيها، يَقولُ صاحِبُنا: فإِذا وَجَدْتُ هذا بَدَأْتُ بمحاسبةِ نفسِي، وَرُحْتُ أستغفرُ اللهَ وأُصلِّي وأدعو وأُلِحُّ في الدُّعاءِ وَقَدْ أَتَصَدّقُ، وفي حالاتٍ كثيرةٍ لا يستغرقُ الأمرُ سِوَى وقتٍ يسيرٍ فَيكتشِفُ أنَّ الأمرَ تغيَّرَ تَمامًا معَ الزوجةِ والأولادِ، وربّما قَبْلَ أنْ يَنطقَ معَهم بكلِمَةٍ فيما وقَعُوا فيه منْ خطأٍ، بلْ قدْ يُفاجَأُ بزوجتِه تأتِي وتعتذِرُ لأنَّها أخطَأَتْ أوِ الأولادِ يَعتذِرُونَ، فكَما أنَّ الله تعالى سلَّطهُم عليهِ بذنبِهِ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، فكذلكَ رَفَعَ البلاءَ، وأصلَحَ قلوبَهم لَمَّا أَصْلَحَ ما بينَه وبينَ الله.
يقولُ: فهذَا أَصَبَحَ مَنْهَجًا في حياتِي، فَبَدلَ أنْ أَبْقَى علَى ذنبِي الأول وأُضيفَ إلَى ذلكَ مشكلةً أخرَى داخلَ البيتِ، جعلتُ هذهِ القاعدةَ مُنْطَلَقًا في عِلاقتِي الأُسْريةِ، فتغيّرتْ كلُّ حياتِنا للأفضلِ.
ومِنَ الأمثلة العمليةِ لهذهِ القاعدةِ أنَّ أحدَ الأزواجِ -وهوَ مِنْ طُلَّابِ العلمِ- يقولُ: وَقعتْ مشكلةٌ بينِي وبينَ زوجتِي وأَغْضَبَتْنِي فَصَبَرْتُ وَسَكَتُّ وخرجتُ منَ المنزلِ، كانَ يُمكنُ أنْ أَذْهَبَ إلَى زوجتِي الثانيةِ قَبْلَ مَجيءِ وقتِها، لكنّني رأيتُه نوعًا مِنَ الظلمِ وليسَ منَ العِقابِ المشروعِ، فَقَرَّرْتُ أنْ أنتظرَ في المسجدِ حتَّى يَحينَ وقتُ الذَّهَابِ إليها، فَأَقْضِيَ وقتِي في العِبادةِ والصلاةِ والتلاوةِ والدعاءِ والاستغفارِ، ولا شكَّ أنَّ هذا مِنْ توفيقِ اللهِ لهُ، فلمْ يَذْهَبْ إلَى غُرفةٍ في فندقٍ أوْ يتمشَّى في الشوارعِ، يقولُ: دخلتُ المسجدَ وأدَّيتُ السُّنةَ، فَشَعَرْتُ بشيءٍ يَدْفَعُنِي بقوةٍ للرجوعِ إلَى البيتِ مرةً أخرَى، يقولُ: قاومتُ أولَّ الأمرِ لكنّني في النِّهايةِ رَجعتُ، فلمَّا فتحتُ البابَ إذا بزَوْجتِي تَبتسمُ وتقولُ: واللهِ كنتُ أعرِفُ أنكَ سَتَرجِعُ. قلتُ: كيفَ؟ قالتْ: لأنَّكَ بعدَ خروجِكَ شَعَرْتُ أنّني أخطأتُ في حقِّك، وفي حقِّ اللهِ قبلَ ذلكَ، فبدأتُ أستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليهِ وأدعوهُ أنْ يُعيدَكَ إليَّ.
إنّنا لوْ فَهِمْنَا {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وعملنا بالقاعدةِ في كلِّ حياتِنا، وفي حياتِنا الزوجيةِ خصوصًا، سنجدُ أثرًا عجيبًا بإذنِ اللهِ، وَسَينقلِبُ الكَدَرُ فرحًا ومحبةً وسرورًا، والسرُّ في ذلكَ أنَّ القلوبَ بيدِ اللهِ عز وجل يُقلِّبُها كيفَ شاءَ، فإنْ أَصْلَحَ العبدُ ما بينَه وبينَ خالقِهِ أصلحَ لهُ ما بينَه وبينَ عبادِه، وبهذا يكونُ البيتُ سَكَنًا، والزوجةُ سكنًا، وتسودُ المودةُ والرحمةُ والرِّضا.
<<<<<<<<<
القاعدة الثالثة والثلاثون: إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا
قال الله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
هاتانِ الآيتانِ الكريمتانِ في سورةِ الطلاقِ عجيبتانِ جدًا، وَبرَغْم أنَّهما وَرَدَتَا في سياقٍ يتعلقُ بالحياةِ الزوجيةِ، إلّا أنَّهما تَصْلُحَانِ للتعاملِ معَ حوادثِ الحياةِ بصفةٍ عامةٍ، فلوْ أنَّ الإنسانَ تأملَ في المعاني العظيمةِ فِيهِما، واتخذَ القاعدةَ المأخوذةَ منهما في حياتِه كلِّها لتغيرَّتْ حياتُه بالكليَّةِ، ولَهَانتْ مشكلاتُه في عَينِه، ومنْها المشكلاتُ والمنغِّصاتُ التي تقعُ في بيوتِنا، فهِيَ بلا شكٍ نوعٌ مِنَ العُسْرِ، ولكنْ إنِ استحضَرَ المرءُ القاعدةَ انتقلَ مباشرةً إلى ترقُّبِ اليسرِ، كمَا تُبشِّرُ به الآيتان العظيمتان في سورة الشرح {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5-6].
والأمثلةُ علَى ذلكَ في الحياةِ كثيرةٌ جدًا؛ فمِنْ ذلكَ فاكهةٌ في الطائفِ والمناطقِ الباردةِ والجبليةِ تُسمَّى البَرْشُومِيِّ، قِشْرتُها الخارجيةُ مغطاةٌ بالشَوْكِ، فلا يُمكنُ أنْ يَأخذَها المرءُ بيدِه مباشرةً ولا بِسهولةٍ، فالشَّوْكُ مؤلمُ والحصولُ علَى الثَّمَرَةِ متعبٌ، لكنَّ خَلْفَ هذا التعبِ، وداخلَ هذا الشوكِ طعمٌ لذيذٌ جدًا، كذلكَ الذينَ يَجنُونَ العُودَ -وَهُوَ مِنْ أغلَى أنواعِ البُخورِ- يَذكُرونَ أنَّ استخراجَه صعبٌ ومُتعِبٌ، وكذلكَ الذينَ يَغوصونَ في البَحرِ للحصولِ علَى اللؤلؤِ الطبيعيِّ مِنَ الأصدافِ، لا يَصِلُونَ لهذا الجمالِ الثمينِ إلا بمكابدةِ المتاعبِ والعسرِ، عسرِ البحرِ وظلمتِهِ، ولكنْ في مُقابِلِ هذا العُسْرِ يُسْرٌ، حيثُ يَجِدُونَ الخيرَ مِنَ اللؤلؤِ والأصدافِ الجميلةِ.
فكأنَّ هذه الآيةَ تقولُ لنا إنَّ كلَّ عسرٍ في باطنِه يسرٌ عظيمٌ فابحثْ عنْهُ، فإنكَ لوْ وَجدْتَ إنسانًا كلَّما لَمسَ شوكَ فاكهةِ البَرشُوميِّ رمَاها لقُلتَ هذا سفيهٌ، فخذْها بحرصٍ واتقِ شوكَها وإنْ أصابَك شيءٌ منهُ فاصبرْ وستجدُ قريبًا في داخلِها الخيرَ الكثيرَ، وهكذا الحياةُ بالصبرِ على ما فيها منْ عسرٍ يُحصَّلُ اليسرُ.
فهذه المعاني العظيمةُ تجعلُ الإنسانَ يَنتقلُ مِنَ الضّيقِ والعُسْرِ والكَدَرِ، إلى الفرَجِ واليسرِ والصفاءِ بِتَرقُّبِ اليُسرِ وَتَرَقُّبِ الفَرجِ، {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، أيْ أمرًا خيِّرًا طيبًا كما تُبَيِّنُه الآيةُ الأخرَى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
والخُلاصةُ ألّا يقعَ المرءُ في الاستغراقِ في اللحظةِ الحاضرةِ، بلْ منذُ أنْ يَنْزِلَ بهِ العسرُ -سواءٌ كانَ مشقةً أوْ خِلافًا أوْ مشكلةً- فلْينتقلْ مِنْ حالِه مباشرةً ولْينتظِرِ اليُسْرَ، {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1]، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، فهذهِ القاعدةُ العظيمةُ إنْ حَكَمَتْ حياتَنا جَعَلَتْها هنيئةً طيبةً؛ لأنَّ الانتقالَ الذهنيَّ منْ حالِ الضيقِ إلى حالِ الفَرَجِ، يُريحُ المرءَ ويَجعلُهُ يَعيشُ حياةً أخرَى، وهناكَ كلمةٌ عظيمةٌ لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه الله تُبيِّنُ هذا الأمرَ بوضوحٍ وجلاءٍ، فقدْ نَقَلَ عنْهُ تلميذُه ابنُ القيمِ رحمه الله أنَّه كانَ يقولُ: (مَا يَصنعُ أعدائِي بِي؟ أنَا جَنَّتِي وبُستانِي فِي صدْرِي، إنْ رُحْتُ فهيَ معِي لا تُفارِقُنِي، إنَّ حَبْسِي خَلْوةٌ، وقَتْلِي شهادةٌ، وإِخْرَاجِي مِنْ بَلَدِي سياحةٌ) ، فبِاستحضارِ القاعدةِ العَظيمةِ، وبتحقيقِ الانتقالِ الذهنيِّ، تتحوَّلُ مباني السَّجنِ الضيقةُ المغلقةُ المظلمةُ إلَى خَلوةٍ معَ اللهِ عز وجل وفُرْصَةٍ للتألُّهِ والتَّعَبُّدِ، ويتحوَّلُ البعدُ عنِ الوطنِ والأهلِ وفِراقُ الأحبابِ إلَى سِياحةٍ، كمَا يَدْفَعُ الناسُ اليومَ أموالًا طائلةً مِنْ أجلِ أنْ يَنتقِلوا مِنْ بَلدِهم إلَى بلادٍ أُخرَى بعيدةٍ، فإذَا قتلوهُ في نهايةِ المطَافِ كانَ قتلُه شهادةً لأنَّه ما قُتِلَ إلّا مَظلومًا لِما يُبَلِّغه مِنْ عقيدةِ أهلِ السنةِ والجماعةِ يُريدُ بذلكَ أنْ تكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا.
وقدْ عَمِلَ بهذا أحدُ الدُّعاةِ وطلابِ العلمِ الذينَ سُجِنُوا سنواتٍ، اسْتَحْضَرَ هذهِ الآياتِ، واسْتَحْضَرَ كلامَ شيخِ الإسلامِ، يقولُ: وأَنَا في داخِلِ الزنزانةِ التي لا تَتَجاوزُ مترينِ ونصفَ في مترينِ ونصفٍ بمَا فيها دورةُ المياهِ، كنتُ مِنْ أَسَعَدِ النَّاسِ، حتَّى إنَّ إدارةَ السَّجنِ اسْتَغْرَبَتْ هذا الأمرَ، وجاءني مديرُ السَّجنِ وقَال: أَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ فَرَحِكَ واستقرارِك، فقلتُ لهُ: أَنَا في خَيرٍ، هَذِهِ نعمةٌ ساقَها اللهُ إليَّ، نعمْ بالتأكيدِ لا أُريدُ السَّجنَ وَلا أحدَ يُريدُه، أمَا وقدْ قدَّرَه اللهُ فكمْ فيْهِ مِنَ الِمنَحِ وَفيْهِ مِنَ الخَيْرِ. وَالعَجِيبُ أنَّ هذا الرجلَ عُرِضَ عليهِ بعْدَ عدةِ أشهرٍ أنْ يَخْرجَ مِنَ السِّجْنِ مُقَابِلَ القِيامِ بمَا لا يَرْضَاهُ، فَرَفضَ وَبقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ سنواتٍ، يقولُ: واللهِ إنّني أَعُدُّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَليَّ أَنّني لمْ أَضْعُفْ في تلكَ الحالةِ ولمْ أَستجبْ لمَـا عُرِضَ عَليَّ وهُوَ جائزٌ لي، وذلكَ لِما رأيتُه منَ المِنَحِ العظيمةِ العاجلةِ والآجلةِ {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.
إنَّ هذهِ السورةَ العظيمةَ اسمُها سورةُ الطَّلاق، والطَّلاقُ عُسْرٌ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بهِ فيهِ تنغيصٌ للحياةِ، لكنَّ المتأملَ في آياتِها يَجِدُ اليُسْرَ في باطنِها، فَهِيَ مِنْ أعظمِ سُوَرِ الفَرَجِ والفَتْحِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:2-3]، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، فَعَلَيْنا أنْ نأخُذَ مِنْ آياتِ الفَرجِ في هذهِ السورةِ ما نُطبِّقُه في بُيوتِنا، لا سيما أنَّها تتناولُ كثيرًا مِنْ أمورِ الحياةِ الزوجيةِ المتعلقةِ بالنساءِ، لِما فيها مِنْ عِنَايةٍ بشأنِ النّساءِ حتَّى في أمورِ حَيضِهِنَّ وعِدَّتِهنَّ وَسَكنِهِنَّ، بل وفي حالةِ الطلاقِ؛ كيفَ يقعُ وكيفَ يُراجِعُ الرجلُ زوجتَه، كيفَ يُمْسِكُها وكيفَ يُفارِقُها، ولِهذَا تُسَمَّى سورةُ النساءِ الصُّغْرَى.
وإنّني أنصحُ الجميعَ -وبصفةٍ خاصةٍ الزوجانِ- بتدبرِ هذهِ السورةِ، فسوفَ يَعودُ تدبرُها عَلَيْهِمَا بنفعٍ عظيمٍ، يقولُ لي أحدُ الرُّقاةِ المشهورينَ: إنَّه صارَ يَنْصحُ مَنْ يَقْرَأُ عليهم بتَدُبُّرِ سورةِ الطلاقِ والأخذِ بما فيها، يقولُ فوجدتُ حالَ هؤلاءِ الذينَ أَرْقيهِمْ تَختلفُ كثيرًا، ويقولونَ لي تغيَّرتْ حياتُنا بعدَ تدبرِ سورةِ الطلاقِ وبعدَ أخذِنا بما فيها.
فإذا تَعَامَلْنَا معَ مُشكلاتِنا في بيوتِنا في ضَوءِ هذهِ القاعدةِ تغيَّرتْ حياتُنا، فإذا وَقَعَ ما نَكْرَهُ مِنْ أزواجِنا أوْ أولادِنا، فَلْنَنتظِرِ الفرجَ والرحمةَ، ولا نَستعجلْ في التصرفِ والكلامِ واتخاذِ موقفٍ لا يُناسِبُ، إِذْ {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا}، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}، فلْنفعلْ ذلكَ لِتستقرَّ حياتُنا ونَسْعدَ في شؤونِنِا.