{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} الآية رقم (7)
إنّ هذا القرآن معجب مدهش معجز!
فأغلب تعبئة الشعب العربي ضد إسرائيل كانت تتم بممارسات إسرائيل، وإنّ تطاول اليهود واستعلاءهم وإساءتهم هي التي تعبّئ المسلمين ضدّهم. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ}: أي حتى إذا جاء وعد مرة الإفساد الثانية -وهي برأيي ما يجري في زماننا-، ماذا سيكون؟
{لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}
فما هذه اللازم؟ أهي لام الأجل؟ أم هي لام العاقبة، أم الصيرورة؟
وفعلاً إنّ موقعها لعجيب، وكأنها تريد التعليل لما يأتي بعدها أو تكون النتيجة أن تقع عليكم إساءة وجوهكم وتقبيحها إساءة بإساءة، وهل جزاء الإساءة إلا الإساءة؟ وكيف تسيء وأنت المسيء بالاحتلال ثم يعفو عنك من وقعت عليه إساءاتك المتكررة من احتلال ومن التبعات الثقال التي ترتبت على الاحتلال؟
إنّ إساءةً واحدة كفيلة بمسح العفو من القاموس والنفوس، فكيف بمسلسل إساءات عديد الحلقات، بل لا تنتهي حلقاته؟ {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}: أي ليُسيئوا إليها ويُجلّلوها بالخزي والعار والفضيحة نتيجة انكشاف سوءة هذه النفوس القبيحة المجرمة التي تتسربل بثياب السلام والتعايش والحوار والتفاوض، وأنها الضحية والمظلومة وهي الجلاد القاتل الظالم. فإذا انتهت خديعة الدعاية، وخديعة التجميل للوجه القبيح اللئيم تكون بدأت مرحلة إساءة {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} فالسلام يجمّل القبيح ولا يجْمل بالمسلم القوي الذي يحبه الله والذي لا يسكت عن حق مفقود أو مسلوب! وإنّ واجبنا إساءة وجوه مغتصبي حقّنا وأرضنا المعتدين على أقصانا المهددين إياه ليل نهار بالتهويد والهدم والمصادرة. أفنسالمهم ولا نذكر مصادرة مسجد الخليل، وتحويل عشرات المساجد إلى خمارات ومستودعات؟!
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}.
{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ}:
المقصود بالمسجد هنا في الآية المسجد لأقصى. ودخوله دخول فتح وتحرير وقوة لا دخول استئذان وتصريح من قوة محتلة غالبة سوى المسلمين. فهذا ليس دخولاً، وإنما هو إذعان وقهر، أن تدخل تحت حراب عدوك، وله الصولة في بلدك وأنت تستأذن في الدخول وتنتظر "الفيزا" حتى تصدر، وتقف في الطابور حتى تفتش ويشيّك عليك أمنياً، ثم تدخل أو لا تدخل. ليس هذا من الصور التي عنتها الآية، اللهم إلا بالرفض المطلق! وليدخلوا المسجد إذاً دخول عزّ ودخول قوة وعنوة وقهر خصوم. وعدم التصريح باسمه أعتقد أنه لشدة وضوحه وانفهامه من السياق. فقد ذكر مسجدان قبل هذه الآية، ومعاذ الله أن يكون لهم سبيل أي بني إسرائيل أن يصلوا إلى المسجد الحرام، فما كان لهم ذلك ولن يكون. فبقي متعيناً أنه المسجد الأقصى. {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: ونجد الأمر طويلاً أن نعيد عند كل جملة أن هنا إعجازاً بيانياً ومعجزة غيبية مستقبلية سيجليها الواقع، وقد كان. في بعض الجوانب ونحن ننتظر البقية الباقية والبعض الآخر. {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ}، نحن بانتظار هذا الشق من الوعد.
وليس معنى الانتظار بطبيعة الحال، أن تأتي الأمور ونحن قعود، هذا لا يخطر بالبال، وإنما الإعداد والاستعداد والحشد والتعبئة وانتظار اللحظة المواتية إن على صعيد الذات أو على صعيد القوى المحلية والعالمية. {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}: وهنا أكثر من إشارة وأكثر من بشارة. لقد كان الإسراء فتحاً روحياً دينياً، وكان الفتح العمري فتحاً سياسياً عسكرياً وعندما قال القرآن. {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فإنه يعني هذا الفتح الأخير. أي الفتح العمري ولقد بشر الله به قبل أن يوجد، وهذه شهادة عظمى لعُمر لو كان يفقه الذين يطيلون ألسنتهم في هذا العظيم العبقري صاحب الفتح الأول والدخول الأول الذي قاس النص الكريم دخولنا القادم عليه. والذي نعلمه أن الفتح القادم والدخول الآتي عسكري كما كان الفتح العمري، ولكن النص هنا ذكر أمراً ثالثاً إضافياً هو: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} فهذا زائد على الدخول العمري: إنه التدمير الشامل لما علا اليهود. وهو تدمير للعلو السياسي والعلو العسكري والعلو الاقتصادي، والعلو في الحواجز، والعلو الإعلامي، والعلو العمراني ...
فقد علوا في البنيان وتطاولوا ليخنقوا الأقصى وليشوهوا جماله عندما يحاط بغابات الإسمنت الجامدة الصلدة الصماء الشوهاء الشاهقة فيتقزم – وحاشاه – أمام علوها. هذا كله سيُدمَّر، ويعود الأقصى شامخاً كما كان عبر الزمان. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم). ولقد جاء هذا الوعد الثالث مقترناً باللام كاسبقيه: ليسوءوا .. وليدخلوا .. وليتبروا .. وكل ضمائر الغائب تعود على المسلمين.
واللافت للنظر أن ضمير الغائب الوحيد على اليهود هو ضمير: ( عَلوْا )، وكما قلت في أكثر من مناسبة: أنا سنحولهم من ضمير المخاطب الحاضر إلى ضمير الغائب، ونحن الذين كان يعبّر عنا بضمير الغائب سنعود إلى الشهود والحضور والوجود من جديد بإذن الله. *
من دروس الآية (7):
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} الآية رقم (7)
1- إن الله يعلم أن بني إسرائيل لن يحسنوا ومع هذا يقنن ويقول: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} وحقاً إن هذا لكلام إله عظيم سبحانه.
2- أعدى أعداء بني إسرائيل أخلاقهم السيئة وظلمهم وهي التي تعبئ الناس ضدهم وتحشّد كل الناس عليهم وتؤلب الخلق ضدهم، ثم يسألون لماذا يكرهنا الناس؟ اسألوا أنفسكم!
3- كشف خبيئة بني إسرائيل الخبيثة واجب الوقت وفريضة المرحلة، وجزء من المعركة، وفصل في الحرب ضدهم، فلتكتب عنهم الكتب والدراسات الجادة والعميقة في حملة منظمة تحت عنوان: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}.
4- ضرام المعركة سيكون أشده حول المسجد، ولعل المسجد يكون الشرارة وصاعق التفجير في المعركة المقبلة، ولا يزال المجرمون يتحرشون بالمسجد حتى يستيقظ النيام وينتبه الغافلون، فإذا صَحَت الأمة وصحَّت فالويل للأمة الظالمة المحتلة.
.........................
من دروس آية:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]
د. أحمد نوفل
1. لله في الأمم والكون والمجتمعات سنن يجب مراعاتها وفهمها جيداً ونحن نفسر كلامه سبحانه في آيات القرآن.
2. الأصل في معاملة الله للعباد الرحمة, والعذاب والهلاك ليس لأول معصية, ولكن إذا تمادى القوم الكافرون واعتدوا وتجاوزوا حدّهم وطغوا وبغوا وطال أمد تطاولهم, أُخِذُوا.
3. {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} ينبغي ألا يُفهم بحال بأنّ الله أمر القوم ففسقوا, فالله لا يأمر إلا بالعدل والإحسان, فالله إذاً أمرهم بالإيمان، فتركوا أمر الله وفسقوا فاستحقّوا العقاب.
4. حِلم الحليم عظيم، وعقابه وعذابه بعد حِلمه عقاب وعذاب أليم وعظيم، ولذلك قيل: اتّقِ غضب الحليم. 5. الترف والمترفون هم سبب تلف المجتمعات وتعريضها للعذاب والمهلكات
اسلاميات