ما تفسير قول الله عز وجل
﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾؟
أولاً: لِنَعْلَمْ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ الإِضْلَالَ بِيَدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا أَنَّ الهِدَايَةَ بِيَدِهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، فَكَمَا أَنَّ اللهَ تعالى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَضْلَاً مِنْهُ، فَهُوَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَدْلَاً، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعَاً﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَـسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾.
فَلَا شَيْءَ في الوُجُودِ عَلَى الحَقِيقَةِ إِلَّا وَهُوَ مَخْلُوقٌ للهِ تعالى، صَادِرٌ عَنْ إِرَادَتِهِ ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾. فَاللهُ تعالى هُوَ خَالِقُ الهِدَايَةِ، وَهُوَ خَالِقُ الضَّلَالِ، فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَضْلَاً، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَدْلَاً.
ثانياً: إِضْلَالُ اللهِ تعالى لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ يِكُونُ بِالعَدْلِ، فَاللهُ تعالى بَيَّنَ الأَصْنَافَ الذينَ يُضِلُّهُمْ سُبْحَانَهُ وتعالى، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلَاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلَاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾.
وبناء على ذلك:
فَإِغْوَاءُ اللهِ تعالى لِإِبْلِيسَ لَا شَكَّ بِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْ إِرَادَتِهِ تعالى، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِ وَفِسْقِهِ، قَالَ تعالى عَنْ إِبْلِيسَ: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾. وَهَذَا الفُسُوقُ بِسَبَبِ الاسْتِكْبَارِ، وَهَذَا الأَمْرُ جَاءَ بِبَيَانٍ وَاضِحٍ في القُرْآنِ العَظِيمِ: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾. فِسْقٌ وَاسْتِكْبَارٌ وَعِنَادٌ وَإِصْرَارٌ؛ فَهَلْ إِضْلَالُهُ ظُلْمٌ أَمْ عَدْلٌ؟ ﴿كُلَّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورَاً﴾. هذا، والله تعالى أعلم.
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
من هم العلماء المقصودون بالآية الكريمة؟
قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. يَعْنِي العُلَمَاءَ الذينَ هُمْ أَهْلُ الخَشْيَةِ وَالخَوْفِ مَنَ اللهِ تعالى، فَلَا يَخْشَى اللهَ تعالى إِلَّا العُلَمَاءُ، وَقَدَّمَ لَفْظَ الجَلَالَةِ عَلَى الفَاعِلِ حَتَّى يُفِيدَ أَنَّهُ لَا يَخْشَى اللهَ تعالى إِلَّا العُلَمَاءُ، وَلَو قَدَّمَ الفَاعِلَ لاخْتَلَفَ المَعْنَى، وَلَصَارَ: لَا يَخْشَى العُلَمَاءُ إِلَّا اللهَ، وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٍ لِأَنَّ هُنَاكَ مِنَ العُلَمَاءِ مَنْ يَخْشَوْنَ غَيْرَ اللهِ تعالى.يَقُولُ المُفَسِّرُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَيْ إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِهِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ المَعْرِفَةُ لِلْعَظِيمِ القَدِيرِ العَلِيمِ المَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الكَمَالِ المَنْعُوتِ بِالأَسْمَاءِ الحُسْنَى، وَكُلَّمَا كَانَتِ المَعْرِفَةُ بِهِ أَتَمَّ وَالْعِلْمُ بِهِ أَكْمَلَ، كَانَتِ الخَشْيَةُ لَهُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عَبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. قَالَ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الخَشْيَةُ هِيَ التي تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: العَالِمُ مِنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبَ اللهُ فِيهِ، وَزَهِدَ فِيمَا سَخِطَ اللهُ فِيهِ، ثُمَّ تَلَا الحَسَنُ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾.
وبناء على ذلك:
فَالعُلَمَاءُ بِدِينِ اللهِ تعالى وَشَرِيعَتِهِ، وَالعُلَمَاءُ العَارِفُونَ بِاللهِ تعالى وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَالعُلَمَاءُ بِكِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، هَؤُلَاءِ هُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ خَشْيَةً مِنَ اللهِ تعالى، وَأَكْمَلُهُمْ تَقْوَى للهِ تعالى.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ خَيْرَاً بِالعُلَمَاءِ الذينَ يَدْرُسُونَ العُلُومَ الكَوْنِيَّةَ، فَإِنَّهُ يَرْزُقُهُمُ الخَشْيَةَ مِنْهُ.
فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاللهِ تعالى أَعْلَمَ كَانَ أَكْثَرَ خَشْيَةً مِنْهُ، وَأَوْجَبَتْ لَهُ خَشْيَةُ اللهِ تعالى الابْتِعَادَ عَنِ المَعَاصِي، وَالاسْتِعْدَادَ لِلِقَاءِ اللهِ تعالى؛ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ العِلْمِ. هذا، والله تعالى أعلم.
يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾.
هل يستفاد من هذه الآية أن النار تجذب الناس إليها جذباً، فمن زحزح عنها فاز؟
أولاً: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ البَشَرِ مَعصُومٌ، عَدَا الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» رواه الحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثانياً: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُنَا الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَاً مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ».
قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ثالثاً: يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءَاً يُجْزَ بِهِ﴾.
وبناء على ذلك:
فَمَنِ الذي يَنْجُو يَوْمَ القِيَامَةِ سِوَى الذي يُزَحْزِحُهُ اللهُ تعالى عَنِ النَّارِ، وَيُدخِلُهُ الجَنَّةَ؟
فَالفَوْزُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ: الأُولَى: أَنْ يُزَحْزَحَ العَبْدُ عَنِ النَّارِ، وَلَو إلى أَهْلِ الأَعْرَافِ؛ هَذَا فَوْزٌ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يُدْخَلَ الجَنَّةَ؛ فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقُلْ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ فَقَدْ فَازَ؛ وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ؛ بَل جَمَعَ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ فَقَالَ: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾.
لِأَنَّ العَبْدَ عِنْدَمَا يَرَى الأَهْوَالَ وَأَلْوَانَ العَذَابِ في النَّارِ، وَيَمُرُّ عَلَيْهَا، ثُمَّ يُنَجِّيهِ اللهُ تعالى مِنْهَا، وَيُدْخِلُهُ الجَنَّةَ لِيَرَى فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَـشَرٍ؛ هَذَا هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِهِ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.
ما هو المقصود من قوله تعالى
﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾؟
كَلِمَةُ الجَمَلِ تَأْتِي بِمَعْنَاهُ المَعْرُوفِ، الجَمَلُ وَلَدُ النَّاقَةِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الحَبْلِ الغَلِيظِ المَفْتُولِ مِنْ حِبَالٍ، فَاللهُ تَبَارَكَ وتعالى يَتَحَدَّثُ عَنِ المُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ وَالمُسْتَكْبِرِينَ عَلَى شَرِيعَتِهِ، أَنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ، وَلَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ أَبَدَاً، فَقَالَ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ﴾.يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هُوَ الجَمَلُ ابْنُ النَّاقَةِ.
وَيَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: حَتَّى يَدْخُلَ البَعِيرُ في خُرْقِ الإِبْرَةِ.
وبناء على ذلك:
فَالمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾. هُوَ تَعْلِيقُ دُخُولِهِمُ الجَنَّةَ بِأَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ عَقْلَاً وَعَادَةً وَطَبْعَاً، سَوَاءٌ كَانَ الجَمَلَ ابْنَ النَّاقَةِ، أَو الحَبْلَ الغَلِيظَ المَفْتُولَ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَدْخُلَ في ثُقْبِ الإِبْرَةِ. هذا، والله تعالى أعلم.
ما هو تفسير قول الله عز وجل: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾؟
قَدْ وَرَدَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ عِنْدَمَا نَكَلُوا عَنِ القِتَالِ، وَقَالُوا لِسَيِّدِنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾.فَدَعَا عَلَيْهِمْ قَائِلَاً: ﴿رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَـفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾.
فَقَالَ تعالى: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾. فَوَقَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ في التِّيهِ، يَسِيرُونَ دَائِمَاً، لَا يَهْتَدُونَ للخُرُوجِ مِنْهُ.
وَكَانَتْ فِيهِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَخَوَارِقُ كَثِيرَةٌ، مِنْ تَظْلِيلِهِمْ بِالغَمَامِ، وَإِنْزَالِ المَنِّ وَالسَّلْوَى عَلَيْهِمْ، وَمِنْ إِخْرَاجِ المَاءِ الجَارِي مِنْ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ تُحْمَلُ مَعَهُمْ عَلَى دَابَّةٍ، فَإِذَا ضَرَبَهَا مُوسَى بِعَصَاهُ انْفَجَرَتْ مِنْ ذَلِكَ الحَجَرِ اثْنَتَا عَـشْرَةَ عَيْنَاً تَجْرِي لِكُلِّ شِعْبٍ عَيْنٌ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المُعْجِزَاتِ التي أَيَّدَ اللُه بِهَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ.
وَيَقُولُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ﴾.
قَالَ: فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى؛ وَهَذَا قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ بَعْدَهُ بِمُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ مَاتَ مُوسَى الْكِلِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقَامَ اللهُ فِيهِمْ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيَّاً خَلِيفَةً عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَمَاتَ أَكْثَرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ هُنَاكَ فِي تِلْكَ المُدَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَى يُوشَعَ وَكَالِبَ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ في قَوْلِهِ: ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾. هَذَا وَقْفٌ تَامٌّ، وَقَوْلِهِ: ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾. مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: ﴿يَتِيهُونَ في الأَرْضِ﴾.
فَلَمَّا انْقَضَتِ المُدَّةُ خَرَجَ بِهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَبِسَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْجِيلِ الثَّانِي، فَقَصَدَ بِهِمْ بَيْتَ المَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا، فَكَانَ فَتْحُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
فَلَمَّا تَضَيَّفَتِ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ وَخَشِيَ دُخُولَ السَّبْتِ عَلَيْهِمْ قَالَ: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ؛ فَحَبَسَهَا اللهُ تَعَالَى حَتَّى فَتَحَهَا وَأَمَرَ اللهُ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ يَدْخُلُونَ بَيْتَ المَقْدِسِ أَنْ يَدْخُلُوا بَابَهَا سُجَّدَاً، وَهُمْ يَقُولُونَ حِطَّةٌ، أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا، فَبَدَّلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ (مَقَاعِدِهِم)، وَهُمْ يَقُولُونَ: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ. هذا، والله تعالى أعلم.