القاعدة السابعة والأربعون: خيرُكم خيركم لأهله
وهذا الحديث مرتكز أساس تدور حوله وترجع إليه أكثر القواعد النبوية، وامتثاله يكفل تحقيق الوئام في البيوت، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيُركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركُم لأهلي). وهذا يرسم المنهج ويوضح القدوة، ويبين الدرجة العالية الرفيعة لمن كان خيره لأهله، والواقعُ اليومَ محزنٌ؛ إذ تَرى كثيرًا من الأزواجِ خيرَهم قد بلغ الأبعدين، وحُرِم منه الأقربون، والأقربون أولى بالمعروف!
والخيرُ هنا شاملٌ لأمور الدِّين والدُّنيا، فيكون خيرًا لأهله في أمور دِينهم واستقامتهم، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، يعلِّمُهم القرآن والسنَّةَ ويُزكيهم، يدلُّهم على خير الأمور ولو كانت غيرَ واجبةٍ، وينهاهم عمّا لا يليق ولو كان غيرَ محرَّمٍ.
وهو خيرٌ لهم في أمور دنياهم ومعاشِهم، يعاملهم بالرفق والرحمة، وحسن الخلق، اقتداءً بمن هو خيرٌ لأهله، صلى الله عليه وسلم، وقد كان خُلُقُه القرآنَ، وأثنى عليه ربُّه تعالى أعظمَ ثناءٍ فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم]، لا يغضَب لأمر دنيا، يُخاطب أهله بأجمل العبارات، ويُلاطفهم بأسمى المعَاملات، ويمشي في خدمتهم، ولا يَبخل عليهم بما قُدِّر له من رزقٍ، يَعفو ويصفح، بشوش الوجه، طَلْقُ المحَيَّا، يبث الجميلَ، ويطوي ويستر القبيحَ، وهو قدوتنا في شأنه كلّه، خيرٌ لأهله ولصحابته ولأمَّتِه وللعالمين أجمع.
فيا باغي هذه الخيرية هلمَّ، فقد شُرِعَت لك أبوابها، كن حليمًا مع أهلك، أشعرهم بحبِّك وحنانِك، قاسمهم وقتَك واهتمامَك، اُعف عن زلّاتهم، وتجاوز عن هفواتِهم، كن حازمًا في أمر الشرع من غير عنفٍ، ليِّنًا من غير ضعفٍ، منفقًا من غير مَنٍّ، ولا سَرَفٍ، باذلًا قبل الطَّلَبِ، تتحسس حاجاتهم وتُشْعِرهم أنّك معهم ولو كان بدنُك بعيدًا، تشفق على مريضهم، وتعطف على صغيرهم، تبدؤهم بالسلام، وتردُّ التَّحيَّةَ بخيرٍ منها، وتفسح لهم في المجالس، إنْ غِبت فقدُوك، وإن حضرت سَعدوا بك، لا تكن كَلاًّ عليهم، خذ بمنهج التغافل ما استطعتَ، مرهم بالصلاة والزكاة، كأبينا إسماعيلَ عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم]، ليرضى عنك وعنهم ربك، خذ بمجامع الأخلاق الفاضلة، تنل السعادة والهناءَ وطيبَ العيشِ، تَسْعد بهم ويسعدون بك، ومع ذلك تكن بذلك في طاعةٍ لربك، واستجابةٍ لقدوتك صلى الله عليه وسلم، وأبشر بحسن العاقبةِ والمآل! {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:]، هل هناك أغلى من محبة الله تعالى وغُفرانه؟!
لبيك ربنا لبيك ربنا!
وفي ذيل هذه القاعدةِ قاعدةٌ أُخرى يمكن أن تجعل ملحقة بها وهي:
قاعدةٌ نبويَّةٌ: لَيْسَ أولئكَ بخيارِكُمْ.
وهذا جزءٌ منْ حديثٍ رواهُ أبو داودَ وصححهُ الألبانيُّ، والحديثُ طويلٌ وفيهِ يقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لقدْ طافَ بآلِ محمدٍ نساءٌ كثيرٌ يَشكُونَ أزواجَهُنَّ ليسَ أولئكَ بخيارِكم)، وهؤلاءِ النسوةُ اللاتي جئنَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ما دفعتهن إلاّ حاجات، لم يأتين ليتكثرن أو يجرن فهن يَعْلَمْنَ أنهنَّ إنْ كَذبن علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وحاشاهُنَّ منْ ذلكَ، سدده الوحي، وعندهن من الوازع ما يردعهن، فهنَّ صحابياتٌ جَليلاتٌ، فشكواهُنَّ لها أسبابُها الحقيقيةُ، من تقصيرٍ أو إساءةٍ أو ضربٍ -كما في الحديث- أو غير ذلك، فاستجابَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وبيَّنَ أنَّ من يفعل ذلك ليسوا من خيارِ أصحابِهِ، تنفيرًا منه عن ذلك الخلق.
وكما مرَّتْ معنا الوصيةُ للمرأةِ بشكرِ زوجِها والتحذيرُ من ضدِّ ذلك في حديث: (أنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى امرأةٍ لا تشكرُ لزوجِها وهيَ لا تَسْتَغْنِي عنْه)، فهنا جاءتِ الوصيةُ وجاءَ التحذيرُ للرجالِ؛ (ليسَ أولئكَ بخيارِكم).
وفي قوله: بآلِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إخبار بأنَّ النساءَ جئنَ يشكينَ لأمهاتِ المؤمنينَ، وأمهاتُ المؤمنينَ نقلنَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم هذهِ الشكوَى، وفي هذا إرشادٌ لزوجاتِ العلماءِ والدعاةِ إلى ما ينبغي لهن وهو أنْ يستقبلنَ بعضَ الشكاوَى التي تُقدَّمُ لأزواجِهِنَّ منْ أجلِ علاجها، وأنْ يَكُنَّ واسطاتِ خيرٍ بدونِ إثقالٍ علَى أزواجِهنَّ، وبدونِ إحراجٍ للنساء، وإنّما توسطًا في الخير، ومساهمة في حلِّ المشكلات، كما كانتْ أمهات المؤمنين يفعلن.
فالشاهدُ أنَّ الذي يُؤذِي أهله، وتَكْثُرُ شَكْوَى زوجتِه منهُ بحيث لا يحتوي الشكاية بيته، ليسَ منَ الخيارِ، وهلْ يرضَى أحدٌ منا أنْ يُوصَفَ بهذا الوصفِ، وعلَى لسانِ الصادقِ المصدوقِ صلى الله عليه وسلم!
كلَّا -واللهِ-، فلهذَا علينا أنْ نَحْرِصَ علَى أنْ نُحققَ الخَيرِيَّةَ في البيتِ، بأنْ تكونَ المرأةُ شاكرةً صابرةً ومحتسبةً، والرجلُ محسنًا إلى أهلِه، وإن وقع شيء عالجه، ولم يضطرها إلى رفع الشكوى إلى من يرفع ظلامتها! وهذا لا يكون من المرأة غَالبًا إلاّ إذا ضاقتِ بها السبلُ وتقطعت بها الأسباب فلمْ تَجدْ أذنًا في البيت صاغية، ولا أملًا لعلاج مشكلتها أو كشف ظلامتها فيه.
<<<<<<<<<<<<<
القاعدة الثامنة والأربعون: الظفرُ بذاتِ الدِّينِ غنيمةٌ
قاعدةٌ نبويةٌ: (تُنكحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالِها ولحسبِها وجمالِها ودينِها فاظفرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يداكَ) .
هذا الحديثُ العظيمُ فيه حصرٌ لواقعٍ معتبرٍ في حياةِ الناسِ، ويدلُ على أفضلِ ما يُعتبرُ في مثلِ هذهِ الحالاتِ، فاظفرْ بذاتِ الدينِ تربتْ يداكَ، وما ينبغي بيانه هنَا هو أنَّ هناكَ مَنْ يُخْطِئونَ في فَهْمِ هذا الحديثِ وهذهِ القاعدةِ العظيمةِ، ويتصورُ أنَّ المطلوبَ أن تَظْفَرَ بذاتِ الدينِ، وتُغفِلَ المالَ والحَسَبَ والجَمَالَ، وهذَا غيرُ صحيحٍ، لكنَّه ذَكَرَ أنَّ هذهِ الأشياءَ الأربعةَ هيَ أغلبُ مَا ينتظرُهُ الناسُ، ويُريدونه من الزواجِ معَ اختلافِهم، فمنْهم مَنْ ينظرُ إلَى المالِ فقطْ عندما يريدُ أنْ يتزوجَ، وآخرُ ينظرُ إِلَى الجَمَالِ فقطْ، وثالثٌ ينظرُ إلَى الحَسَبِ والنَّسَبِ، ورابعٌ ينظرُ إلَى الدينِ، والصحيحُ أنْ ينظرَ الإنسانُ لهذهِ الاعتباراتِ باعتدالٍ مناسبٍ، لكنَّ الشيءَ المهمَ الذي لا يُتنازَل فيه ولا عنْه هو اعتبارُ الدِّينِ؛ لأنَّه هوَ الأساسُ في الحياةِ الزوجيةِ، ولكنْ ينظرُ باعتبارٍ لباقِي الجوانبِ. فلوْ أنَّ إنسانًا اقتصرَ في اختيارِه علَى المرأةِ الديِّنة فحسْب، فربما يجدُ فيها منَ العيوبِ في خَلقها أو حتى في نسبِها ما يُنفِّرُه عنْها، ومما يدلُّنا علَى هذا قصةُ الصحابيةِ الجليلةِ التي جاءتْ تطلبُ الفِراقَ منْ زوجِها رضي الله عنهم أجمعينَ، وطلبتِ الخُلْعَ، وقالتْ إنني أكرهُ الكفرَ في الإسلامِ، وكانتِ العِلَّةُ التي ذَكَرَهَا العلماءُ أنَّها أبغضته لأنَّ وجهَه لم يكن بالمنزلة التي تصبو إليها، معَ أنه صحابيٌّ جليلٌ رضي الله عنه فالإسلامُ يُراعِي هذهِ المشاعرَ.
لكن في هذا الحديثِ تنبيهٌ على الخطأِ الأكبر الذي يقعُ فيه كثيرٌ مِنَ الناسِ، بل أكثر الناس، ألَا وهوَ أنهم يُراعُونَ الجَمالَ فقطْ أوِ الحسَبَ فقطْ أو المالَ فقطْ، دونَ نظرٍ إلى الدينِ، فجعلَ الحديثُ الْمُرتَكَزَ الأساسَ هوَ الدينَ، فإذا أرادَ الرجلُ أنْ يتزوجَ فليكنْ أولَ ما يَسْأَلُ عنه دينها، فإذا اطمأنَّ لدينِها واستقامتِها، فليبدأْ بالسؤالِ عنِ الأمورِ الأخرَى، وبخاصَّةٍ ما يتعلَّقُ بجانبِ الجَمالِ، فالدِّينُ لا يتمسكُ باختيارِ الجميلةِ، ولا يدعو إذا وُجدت امرأةٌ جميلةٌ إلى أن تُتركَ.
لكن ثمة معنًى آخرُ وهو أنه قدْ تكونُ امرأة مِنَ النساءِ فيها نقصٌ في الجَمالِ، ولكنّها تُعَوِّضُ ذلكَ بحسنِ خُلُقها وتحببِها إلى زوجِها قال الله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، فتظهرُ بجمالٍ يجدُهُ الزوجُ، فهذا أيضا مرعي. ولكنَّ الحديثَ أبانَ عنِ الأمرِ العامِ خوفًا منْ أنْ يتزوجَ رجلٌ بامرأةٍ ثمَّ ينتهِي أمرُه إمَّا إلى طلاقِها كمَا طلبتْ هذهِ الصحابيةُ فِراقَ زوجِها، أو يلجأ إلى إهمالِها والإعراضِ عنْها، وهذا يضرُّها ويشقُّ عليها، ومَا في هذهِ المرأةِ منْ نقصانٍ هوَ منْ خَلقِ اللهِ عز وجل وقَدَرِ اللهِ عليها، وعليها بالصبرِ، وسيأتيها زوجُها المناسبُ، وقد يأتي زوجٌ يَقْبَلُها علَى مَا فيها، وكمَا أنَّ فيها بعضَ العيبِ وهوَ نقصُ الجمالِ، فقدْ يأتي إنسانٌ أيضًا لديهِ ظروفٌ معينةٌ ونقص محدّد فيتفقُ الطَّرفانِ.
أما المالُ فالأَولَى ألا نُعطيَه اعتبارًا كبيرًا، وإن كانَ البعضُ -معَ كلِّ أسفٍ- أصبحَ يعتبرُه الميزانَ، ومعلومٌ أنَّ المالَ إذا كَثُرَ بيدِ الزوجةِ قدْ يكونُ منْ أسبابِ الشقاءِ والفِراقِ، لكنَّ هذهِ ليستْ قاعدةً على العمومِ، فالصالحاتُ منْ أهلِ الثراءِ يساعدْنَ أزواجَهُنَّ، وأقوى شاهدٍ علَى ذلك ما فعلتْه أمُّ المؤمنينَ خديجةُ رضي الله عنها معَ النبيّ صلى الله عليه وسلم،حيثُ واسَتْهُ بمالها معَ دينِها وأخلاقِها وإيمانِها، فهيَ أولُ مَنْ آمنَ مِنَ النساءِ، فاجتمعتْ فيها هذه الصفاتُ رضي الله عنها، وهيَ أمُّ أولادِه رضي الله عنهم، وهذَا لا يَعنِي أنه لا اعتبار للمالِ، ولكنْ لا يكونُ هوَ المرتكزَ.
وأما مراعاةُ الحسَبِ فهوَ مهمٌ جدًا؛ لأنَّ الإنسانَ قدْ يقبلُ امرأةً ضعيفةَ الحسبِ والنسبِ لكنَّ المجتمعَ الذي حولَه وبخاصةٍ في داخلِ أسرتِه قدْ لا يَقبلونَ هذَا، ومراعاةُ الحسَبِ في مثلِ هذهِ الحالِ يكونُ لِصالحِ المرأةِ لأنها قدْ تُهان إذا لم يرع، و هذا أمر يَغْفُلُ عنه بعضُهم، فإذَا تزوجَ رجلٌ بامرأةٍ وقبيلتُه أو جماعتُه أو عائلتُه يشعرونَ بأنها أقلُّ نسبًا منهم، فهذهِ المرأةُ هيَ التي تُضارُّ؛ لأنكَ لا تستطيعُ أنْ تملكَ ألسنةَ الآخرينَ، فيتعرضونَ لغمزِها ولمزِها، بلْ ربما يُعيَّر أولادُها بعدَ ذلكَ بأمِّهم، فالإنسانُ في غنىً عنْ هذا الأمرِ، ودائمًا أذكرُ قاعدةً يسيرةً ولاسيما إذا جاءني منْ يشتكِي منْ هذا الأمرِ، فأقولُ إن تزوجتِ المرأةُ مِنْ عائلتِها أوْ منْ قبيلتِها فإنها لا تُعيّر، ولا تُنتقصُ، وأذكرُ في يومٍ منَ الأيامِ أنَّ شابًا جاءني، وسألتُه عنْ سببِ عدمِ زواجهِ، فأخبرني أنَّ السببَ والدُه حيثُ لم يسمحْ لهُ أنْ يتزوجَ منْ جهةٍ معينةٍ، وإذَا ذهبَ إلى آخرينَ رفضوا تزويجَه؛ لأنه منْ العائلةِ الفلانيةِ، فلمْ يجدْ حلًا، فأخبرتُه أنَّ الحلَّ يسيرٌ جدًا، فسألتُه إنْ كانَ لهُ بناتُ عمٍّ، فأجابني بالإيجابِ، فقلتُ تزوجْ إحداهنَّ، فأبوكَ لنْ يعترضَ لأنها ابنةُ أخيه، ولنْ ينتقِصَها إطلاقًا، وعمُّك لنْ يردَّكَ لأنكَ ابنُ أخيهِ، ففرحَ بكلامي وفعلًا ذهبَ وخَطَبَها، وتزوَّجها وهيَ أمُّ أولادِه، وتحققتْ لهما سعادةٌ كبيرةٌ.
والمهمُ أنْ يكونَ هذا الحديثُ نِبراسًا لنا في حياتِنا (تُنكحُ المرأةُ لأربعٍ)، فلنظفرْ بذاتِ الدينِ، ومرةً أخرى نقول: إنَّ هذهِ الأحاديثَ أوِ الآياتِ لا تُؤخَذُ منْ وجهٍ دونَ آخرَ، فيُحرصُ علَى ذاتِ الدينِ، بحيثُ يكونُ هوَ الأساسُ والمعتمدُ، ثم تُراعى بقيةُ الجوانبِ دونَ إفراطٍ ولا تفريطٍ، وبهذا نجدُ السعادةَ -بإذنِ اللهِ-.
موقع المسلم