أما عن سنة الإبتلاء التي لايتم التمكين إلا بعدها :
يقول الدكتور : محمد علي الصلابي في كتابه فقه النصر والتمكين
سنة الابتلاء:
الابتلاء - بصفة عامة - سنة الله تعالى في خلقه, وهذا واضح من الآيات القرآنية الكريمة، قال تعالى: *وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ" [الأنعام: 165] وقال تعالى: *إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً" [الكهف: 7] وقال جل شأنه: *الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" [الملك: 2] وقال: *إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ" [الإنسان: 2]. والابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا، فلقد جرت سنة الله - تعالى- ألا يمكن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب. وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف، فقد شاء الله - تعالى - أن يبتلي المؤمنين، ويختبرهم ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك. ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يمكَّن، أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى، فإن الله - تعالى - ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة. وابتلاء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص، ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكن ورسوخ، وهذا الابتلاء للمؤمنين ابتلاء الرحمة لا ابتلاء الغضب، وابتلاء الاختيار لا مجرد الاختبار. فلو أن قائدا أراد إعدادا للفوز في معركة ضارية، أيكون من الرحمة بهم أن يخفف لهم التدريب ويهون عليهم الإعداد، أم تكون الرحمة الحقيقية أن يشد عليهم في التدريب على قدر ما تقتضيه المعركة الضارية التي يعدهم من أجلها؟ والمؤمنون هم حزب الله وجنوده - ولله المثل الأعلى - والمعركة التي يعدهم من أجلها هي المعركة العظمى، معركة الحق والباطل, والنتيجة المطلوبة من المعركة ليست مجرد النصر، وإنما هي بعد ذلك إقرار المنهج الرباني في الأرض بكل المعاني والقيم التي يحملها ذلك المنهج، وهي الأمانة التي تعرض لحملها الإنسان بقدر الله. وحمل الأمانة - بعد الانتصار على الباطل - لا يصلح له كل الناس، إنما يحتاج لقوم مختارين، يعدون إعدادا خاصا ليحسنوا القيام به . وقد علم الله تعالى أن الابتلاء هو وسيلة الإعداد لهذه المهمة العظيمة, وفي قصة طالوت شاهد على ذلك ؛ فطالوت كان مقدما على معركة ومعه جيش من أمة مغلوبة، عرفت الهزيمة في تاريخها مرة بعد مرة، وهو يواجه أمة غالبة، فلابد إذًا من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف أمام القوى الظاهرة الغالبة، هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها, فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء. فلابد للقائد إذًا أن يبلو جيشه وصموده وصبره، صموده أولاً للرغبات والشهوات وصبره ثانيًا على الحرمان والمتاعب. ولقد اختار طالوت هذه التجربة وهم عطاش ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه. *فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً" [البقرة: 249]. ولقد بين الله تعالى هذا الأمر للأمة الإسلامية حتى تكون على بينة من طريقها، ورسالتها وطبيعة هذا الطريق وتلك الرسالة. وجاء ذلك في مواضع متعددة، وبأساليب مختلفة في القرآن الكريم؛ من ذلك قوله تعالى: *وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ.." [البقرة: 155] وقوله تعالى: *أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ" [البقرة: 214]. وقال تعالى: *لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ" [آل عمران: 186] ومن الملاحظ من خلال الآيات الكريمة أن تقرير سنة الابتلاء على الأمة الإسلامية جاء في أقوى صورة من الجزم والتأكيد . وهذه سنة الله - تعالى - في العقائد، والدعوات، لابد من بلاء، ولابد من أذى في الأموال والأنفس, ولابد من صبر ومقاومة واعتزام. إنه الطريق إلى الجنة وقد (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات) كما أخبر النبي , ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها، طريق التربية للأمة الإسلامية، وإخراج مكنوناتها من الخير، والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف، والمعرفة لحقيقة الناس، وحقيقة الحياة، وذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا وأقواهم شكيمة، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها، والصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون. إن الابتلاء مكمل لحقيقة الإيمان، لأن الإيمان أمانة الله - تعالى - في الأرض، وهذه الأمانة لا يحملها إلا من هم أهل لها، وفيهم على حملها قدرة، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص، والذين يؤثرونها على الراحة والدعة، وعلى الأمن والسلامة، وعلى كل صنوف المتاع والإغراء . «وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء، وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته، وعلى حقيقة غايته ثم تتعرف الجماعة على حقيقة اللبنات التي تتألف منها، ومدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الشدة» .وفي هذا يقول الله تعالى: *أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ` وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" [العنكبوت: 2، 3]. الفتنة: الامتحان بشدائد التكاليف من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء, وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات، وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم . وقال ابن كثير - رحمه الله -: (والاستفهام في قوله تعالى: *أَحَسِبَ النَّاسُ" إنكاري، ومعناه: أن الله سبحانه لابد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من الإيمان كما جاء في الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل: يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء . ولقد بين رسول الله eأن الابتلاء صفة لازمة للمؤمن، حيث قال: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد وفي ظلال الآية الكريمة السابقة يقول سيد قطب - رحمه الله -: «إن الإيمان ليس كلمة تقال، إنما هو حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء, وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال، فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا، وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة، فيثبتوا، ويخرجوا من الفتنة صافية عناصرهم، خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب، لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، حتى يصبح خالصا ثمينا رفيعا، وهذا هو أصل كلمة «الفتنة» اللغوي، وله دلالته وظله، وإيحاؤه، وكذلك تصنع الفتنة في قلوب المؤمنين «حين تصهرهم بنار الابتلاء فتخرج من نفوسهم ما قد يكون فيها من خبث وشهوات وأهواء، حتى يكونوا خالصين لله متجردين له, صالحين لحمل الأمانة التي أناطها الله بهم ألا وهي أمانة كريمة، وهي أمانة ثقيلة، ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص، يصبر على الابتلاء ويعلو فوق المحن إن سنة الابتلاء جارية في الأمم والدول والشعوب والمجتمعات, والأمة الإسلامية أمة من الأمم، فسنة الله تعالى فيها جارية لا تتبدل ولا تتغير، إن الابتلاء سنة الله العامة في الحياة والأحياء، وسنته سبحانه في الرسل والرسالات، ورسول الله eليس بدعا من الرسل، فكان لابد أن تجري عليه سنة الابتلاء كما جرت على إخوانه المرسلين، ومع ما له eمن عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحمل الثقيل والعناء الطويل ، وتعرض الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات. لقد أجمع المشركون على محاربة الدعوة الإسلامية لأنها عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم؛ آي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة، وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها. ومن هذه الأساليب: 1- محاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول الله e, فذهبت وفود قريش إلى أبي طالب للتنبيه والتهديد بالمنازلة إن لم يكف ابن أخيه عن هذه الدعوة, ثم أرسلوا وفدا للمساومة حيث يطلبون محمدًا e مقابل رجل منهم «عمارة بن الوليد» ليقتلوا هذا الذي خالف دينهم وفرق جماعتهم وسفه أحلامهم - كما يدعون - فكانت قولة أبي طالب البالغة الدلالة: «والله لبئس ما تساومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا .ومما جعل أبا طالب يصر على موقفه صلابة الرسول eووثوقه بالحق الذي عليه، وعدم التنازل أو المداهنة في الحق الذي قامت عليه السموات والأرض. 2- الاتجاه إلى إيذاء المسلمين؛ فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ولم يقدموا على هذه المحاولة إلا حينما أدركوا وقوف أبي طالب ومن معه من عشيرته إلى جوار النبي e. وكان الهدف من هذه المحاولة هو الضغط على رسول الله eكي يتراجع ويكف عما يدعو إليه, ولكن المحاولة فشلت حينما أدركوا صلابة المؤمنين، وصلابة الرسول e. -3 عرض المغريات والمساومات، لقد تركت قريش المساند لرسول الله e«أبا طالب» لأن المحاولات فشلت معه، ولأن عصبته واقفة إلى صفه، ومن ثم لابد من مواجهة صاحب الدعوة لصرفه عن دعوته، فعرض عليه المال والشرف والسيادة على مكة, وجعله ملكا على قريش، وكان المفاوض للرسول eوالعارض عليه تلك العروض هو عتبة بن ربيعة في بداية الأمر, ثم عرضت عليه من قبل مجموعة من أشراف قريش, وبالرغم من ذلك الإغراء الذي تضعف أمامه القلوب البشرية ومن أراد الدنيا وطمع في مغانمها إلا أن رسول الله eاتخذ موقفًا حاسمًا في وجه الباطل دون مراغمة أو مداهنة، أو الدخول في دهاء سياسي أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش ، لأن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان بعيدًا عن المداهنة والتنازل، ولذلك كان رد رسول الله e: «ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتابًا, وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم . بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أم في الوسيلة الموصلة إليها . 4- مطالب التحدي: أخذ عناد المشركين يقوى ولجاجتهم تشتد, وقد أرادوا إحراج الرسول وتحديه بمطالبته بالإتيان بمعجزات تثبت نبوته. قال عبد الله بن عباس: قالت قريش للنبي: ادع لنا ربك أن يجعل الصفا ذهبًا ونؤمن بك، قال: «وتفعلون؟» قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: «إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة» قال: «بل باب التوبة والرحمة» . قال ابن عباس: «فأنزل الله عز وجل هذه الآية: *وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا" [الإسراء: 29]». لقد كان الهدف من تلك المطالب هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية وتآمرًا على الحق كي تبتعد القبائل العربية عنه e, لأنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست من طبيعة هذه الدعوة ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز الرسول eواتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه وسيتضح هذا في المحاولات القادمة. 5- المساومة لاقتسام العبادة والزعامة، وهي محاولة لإخماد صوت الدعوة بالاتفاق معا على حل وسط حتى يضمنوا بقاء مكانتهم أمام القبائل الأخرى، ومنعها أيضا من الدخول في هذا الدين الجديد, وهي محاولة ماكرة لأن السير في ركاب الباطل خطوة واحدة معنى هذا سقوط صاحب الحق في هاوية الانحراف ونزلت سورة الكافرون «للمفاضلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم نزلت نفيًا بعد نفي، وجزمًا بعد جزم، وتوكيدًا بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق والباطل, ولا اجتماع بين النور والظلام، والأمر لا يحتاج إلى مداهنة أو مراوغة أو مصالح مشتركة أو مسائل داخلية... إلخ . 6- الاستعانة باليهود: لقد وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة الحق, وكان المعبر عن هذا العجز النضر بن الحارث الذي صرخ قائلا: «يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد.. فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم . فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى اليهود لمعرفة حقيقة هذه الدعوة لا لكي يتبعوها ولكن لإدراكها أن رسول الله eلم يجب على مطالبهم التي طلبوها، ولمعرفتهم بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعا وأصحاب الحق أينما كانوا ومعرفتهم بأخبار الأولين، فقد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول فيحققوا بذلك هدفهم الدعائي أمام القبائل العربية, ولم يدروا بسلوكهم هذا أنهم نقلوا أخبار الدعوة الإسلامية إلى خارج مكة مهما كان غرضهم وهدفهم، وبالرغم من فرحة قريش بالأمور التعجيزية التي أتوا بها من عند يهود إلا أن الله أحبط محاولتهم بالإجابة عليها كما جاء في سورة الكهف عن أهل الكهف وذي القرنين ثم عن الروح في سورة الإسراء، فأقيمت الحجة على الملأ من قريش وزعماء اليهود . 7- الدعاية الإعلامية في المواسم ضد النبي eبأنه ساحر ليصرفوا الناس عنه. 8- الإيذاء النفسي في شخص رسول الله e, وقد تمثل هذا الإيذاء بالإعراض والتكذيب واتهامه بالشعر والسحر والكهانة والجنون وغمزه بكل عيب والاستهزاء به وشتمه وإيذائه بالكلمات القبيحة, ورسول الله eصابر محتسب ، وكذلك من أنواع الإيذاء النفسي إيذاء وتعذيب أصحابه وهو ينظر، وحثو التراب على رأسه وهو يصلي، ووضع الأوساخ والدماء على باب بيته والشوك في طريقه 9- الحصار الاقتصادي والاجتماعي، وقد تمثل هذا في محاربة تجار المسلمين كما ذكرنا من تهديد أبي جهل لمن أسلم من التجار بالإضافة إلى الحصار العام الذي تم في شعب أبي طالب، حيث تم حصار بني عبد المطلب وبني هاشم للضغط على أبي طالب وقومه للتخلي عن نصرة محمد e, وكانت بنود الاتفاقية «الصحيفة» التي كتبها زعماء قريش فيما بينهم على محاصرة بني هاشم وبني عبد المطلب مسلمهم وكافرهم على السواء: أ- عدم الزواج منهم أو إليهم. ب- وألا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم . وكانت اتفاقية قاسية عزموا على تنفيذ بنودها, ولذلك اتفقوا على تعليقها في جوف الكعبة للزيادة في توثيقها, وإن كانت هذه الوثيقة بهذه الكيفية تعطي ظلالا عن عجز قريش واختلاف كلمتها ولهذا خافوا من أنهم إذا ما اتفقوا دون كتابة وتعليق في الكعبة قد يحصل نكوص عن ذلك ولهذا فعلوا تلك الصحيفة وتعاقدوا عليها . وبالرغم من أن الحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب كان يشمل بني هاشم وبني عبد المطلب مسلمهم وكافرهم على السواء إلا أن هناك نوعا آخر من الحصار الاقتصادي مارسه كفار قريش على بقية المسلمين, فقد كان أبو لهب إذا ما قدمت القوافل التجارية إلى مكة يطوف الأسواق ويقول: يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد .. فأنا ضامن أن لا خسارة عليكم.. فيزيدون عليهم في السلعة أضعافا حتى يرجع المسلم إلى أطفاله وهم يتصايحون من الجوع ليست في يديه شيء، ثم يذهب التجار إلى أبي لهب فيعوضهم في تجارتهم .ومع هذا فلم يتراجع أحد منهم عن دينه، بل زاده ذلك العذاب صبرًا وتجلدا وعملا في سبيل دينه . 1- الإيذاء الجسدي: فقوى البغي والطغيان حينما تجد الثبات والصلابة عند المؤمنين قد بلغت مداها وأن الإيذاء النفسي والحصار الاقتصادي والاجتماعي، والعزل.. إلخ لا تجدي أمام صلابة الإيمان في نفوس الفئة المؤمنة، حينما تصبح تلك الصورة بارزة أمام قوى الطاغوت يطيش عقلها وتلجأ إلى البطش الجسدي مهما كلفها ذلك من عواقب([86]). ونلاحظ هنا من خلال ما سبق أن البطش قد وجه ضد المؤمنين من أصحاب رسول الله eفتعرضوا للتنكيل والتعذيب وتولت كل قبيلة شأن المسلمين من أبنائها سواء من الأحرار أم من العبيد، أم من النساء أم من الرجال، ومنهم من قتل تحت التعذيب كسمية أم عمار رضي الله عنهما، ولقد ضرب المسلمون الأوائل أروع المثل في الصبر وقوة التحمل([87]). وكان eوهو في تلك المحن والشدائد والبلاء يربي أصحابه على: - التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك. - التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا. - التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الشرك والعصيان. ومع هذا كله كان eمع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة، لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث يشاء, وتزيل الحواجز والعقبات والتي تعترض طريق الدعوة إلى الله . لقد فكر النبي eبالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من أهمها: 1- البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم، ويسلمون من أذى قريش وفتنتها حيث لا تطالهم يدها، ولا يمتد إليهم بطشها. 2- البحث عن بيئة تقبل الدعوة، وتستجيب لها، في مقابل عنت القرشيين وكنودهم، ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق الأرض، تحقيقا لأمر الله بالتبليغ للعالمين .وتم له ذلك وهاجر إلى المدينة ودخل مرحلة التمكين. لقد تعرض أصحاب رسول الله eلأشد أنواع التعذيب, فإذا كان المشركون الأولون يعذبون أولياء الله بالرمضاء والنار - في بعض الأحيان - فإن تعذيب آلات الكهرباء الطويل أشد، وإذا كان الكفار السابقون يصلبون أولياء الله على الجدران والأخشاب وفي جذوع النخل, فإن أعداء الله يصلبون أولياءه الآن على أعمدة الحديد المتصلة بتيار الكهرباء، وإذا كان أعداء الله كانوا يقلبون أولياء الله على حر الرمضاء ظهرا بربط أيديهم ويجرونهم بالحبال، فإن أعداء الله الآن يسحبون أولياءه بالآلات السريعة كالسيارات في الشوارع ويدخلون الواحد منهم عجلة السيارة بعد أن يضموا رأسه مع رجليه ويديرونها بالآلات وهو مكشوف العورة، ويملأون الأحواض بالماء الساخن في شدة الحر أيام الصيف ويقذفون فيها بالمؤمن مجردا من ثيابه ويبقى فيها الساعات حتى ينسلخ جلده، ويملأونها في أيام الشتاء والبرد القارس بالماء البارد ويلقونه فيها كذلك, ويودعون ولي الله في حجرة ضيقة لنومه وطعامه وشرابه وفضلاته ويجيعون الكلاب المدربة ويضعونها معه في حجرته لتنهش جسمه وتكثر من العواء والنباح على رأسه, ويضربونه بالسياط حتى تسيل الدماء وقد تتجاوز دفعة الضرب في المرة الواحدة خمسمائة سوط ويتركونه حتى يتورم جسمه، ثم يلهبونه بالسياط في مواضع الضرب السابقة ويسيل قيحه وينتن جسمه فلا يسمحون لطبيب يداوي جراحه ويأمرونه مع زملائه من أمثاله بالجري وهم في تلك الحال لمسافات طويلة ومن أظهر التعب ضربوه حتى يغمى عليه أو يموت وهكذا . وهكذا تمر المحن والابتلاءات على الأفراد والجماعات لتصقل العاملين في ساحة العمل الإسلامي على مستوى الأفراد والجماعات, وتمضي هذه السنة في كل الأزمنة والأمكنة إلى عصرنا الحاضر, ويتعرض الدعاة إلى البلاء والمحن ويمضون في طريقهم المرسوم باستعلاء إيماني عظيم لا يبالون غير نصرة دينهم ورفع كلمة الله في الأرض, وينشد شاديهم في داخل السجون ومن وراء القضبان وهو يرى أفواج رفاقه تشنق رقابهم كل يوم وينتظر نفس المصير فلا يتزعزع الإيمان، وإنما يزداد صلابة وتشتاق النفس إلى خالقها, ورفقة النبيين والصديقين والصالحين والشهداء، ويبين الشادي المؤمن أن الحرية هي حرية القلب الذي خلقت عبوديته لخالقه وإن كبله أعداء الله بالقيود وأحاطوه بأسوار السجون والمعتقلات فهو يقول:
أخي أنت حر وراء السدود
أخي أنت حر بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصما
فماذا يضيرك كيد العبيد
ولا يخشى هذا الداعية الرباني على نفسه من الموت والعذاب تحت سياط الجلادين إنما الخوف من أن يسأم من الجهاد ويترك الكفاح فيطلق في إخوانه صرخته مذكرا لهم بواجب رفع الراية ومواساة المجاهدين وضحاياهم فيقول:
أخي هل تراك سئمت الكفاح
وألقيت عن كاهليك السلاح
فمن للضحايا يواسي الجراح
ويرفع رايتها من جديد
ويحث إخوانه بالاستمرار في طريق الدعوة والجهاد والحرص على رضا الله:
أخي فامض لا تلتفت للوراء
طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلتفت ههنا أو هناك
ولا تتطلع لغير السماء
إن طور البلاء لابد منه قبل التمكين, وتخرج الدعوة والدعاة بعد هذا الطور أصلب عودا وأقوى مما كانت عليه لتنطلق لتحطيم عروش الطغاة وتبدد الظلام لتبني حياة إسلامية صحيحة راشدة.
ما شاء الله
بارك الله فيك موضوع أكثر من رائع
ربنا يبارك لنا بالدكتور وجزاه عنا كل خير هو وكل من يعمل في سبيل هذا الدين القويم
شكرا لك مرة أخرى أختي أم عمار
ما شاء الله
بارك الله فيك موضوع أكثر من رائع
ربنا يبارك لنا بالدكتور وجزاه عنا كل خير هو وكل من يعمل في سبيل هذا الدين القويم
شكرا لك مرة أخرى أختي أم عمار