تُعَدُّ الصيدلة من العلوم التي ابتكرها المسلمون، وأسهموا فيها إسهامات واضحة يشهد العالم كلُّه بها؛ حيث جعلوها علمًا تجريبيًّا قائمًا على الدراسة والملاحظة، وتتَّصل الصيدلة -وهي علم يبحث في العقاقير وخصائصها وتركيب الأدوية وما يتعلَّق بها- اتصالاً وثيقًا بعِلْمَيِ النبات والحيوان؛ إذ إن معظم الأدوية ذاتُ أصل نباتي أو حيواني، كما ترتبط ارتباطًا قويًّا بعلم الكيمياء؛ لأن الأدوية تحتاج إلى معالجة ودراية بالمعادلات والقوانين الكيميائية، كما تُكْمِل الصيدلة علم الطبِّ الذي يُشَخِّص المرض، ويَصِفُ العلاج، ويحتاج إلى مَنْ يُرَكِّب له ذلك الدواء ويصنعه.
والحقُّ أن الصيدلة كانت من العلوم التي جذبت عظيم انتباه علماء المسلمين، فاستطاعوا أن يميِّزوا عصر حضارتهم باعتباره أوَّل عصر من عصور الحضارة عُرِفَتْ فيه المركَّبات الدوائيَّة بصورة علميَّة وفعَّالة وبطريقة جديدة، حتى نستطيع مع غيرنا أن ننسب بلا أدنى حرج علم الصيدلة إليهم، ونقول إنه اختراع عربي (إسلامي) أصيل ؛ فقد أضافوا إلى الأدوية التي كانت معروفة قبلهم مركَّبات عديدة من اختراعهم، وألَّفوا أوَّل كتاب في العقاقير .
ورغم أن شعوب ما قبل التاريخ اكتشفوا قدرة بعض النباتات على تسكين آلامهم وشفائهم من بعض الأمراض، وربما يكونون قد لاحظوا أيضًا التهام بعض الحيوانات المريضة لبعض النباتات وشفائها، ومن ثَمَّ قاموا بتناول هذه النباتات نفسها عند مرضهم، إلاَّ أن ذلك لم يكن عِلْمًا قائمًا ذا أصول ومبادئ يقاس عليها.
وتُعَدُّ لوحة الصلصال التي يرجع تاريخها إلى عهد الحضارة السومرية في الشرق الأوسط -عام 2000 ق.م- أوَّل سجلٍّ مكتوب لاستعمال الأدوية، وبهذه اللوحة اثنتا عشرة وصفة طبِّيَّة، وكذلك يحتوي قرطاس مصري يرجع تاريخه لعام 1550 ق.م على أكثر من سبعمائة دواء، وقد استعمل قدماء الصينيين والرومان الكثير من الأدوية، ويُعَدُّ الرومان أوَّل مَنْ قاموا بافتتاح صيدلية وكتابة أوَّل وصفات طبِّيَّة تُحَدِّد كَمِّيَّة كلِّ مادَّة يحتوي عليها الدواء.
ولكن على الرغم من استعمال القدماء للعديد من الأدوية، إلاَّ أن معظم علاجاتهم لم تكن ناجحة، وقد يرجع الشفاء الناتج عن تعاطي بعض هذه العلاجات الطبيعية إلى أن بعض الأمراض يُشفى المريض منها تلقائيًّا بعد مُضِيِّ عدَّة أيام من حدوثها؛ مما يدفع بعض الناس للظنِّ بأن الشفاء قد يرجع إلى تلك العلاجات، وعلى الجانب الآخر علينا أن نعترف بأن هناك عددًا من الأدوية النافعة التي اكتشفها القدماء؛ فقد استعمل قدماء الإغريق والرومان الأفيون لتسكين الآلام، واكتشف قدماء المصريين زيت الخروع لعلاج الإمساك، كما اكتشف الصينيون أكل الكبد لعلاج فقر الدم .
وعندما جاء الإسلام ووجد العالَمَ على هذه الحال؛ فأَوْلى اهتمامًا كبيرًا لصحَّة الإنسان، ودعا إلى التداوي، وأشار إلى بعض العلاجات والأدوية على سبيل المثال، ومن ذلك قول الله تعالى: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ "، فتحرَّكت العقول للبحث في الأمراض وطُرُقِ علاجها.
ثم جاءت أحاديث النبي لتؤكِّد على ضرورة التداوي فكان حقًّا على المسلمين أن يبحثوا عن العقاقير التي تشفي الأمراض؛ فرسولنا القائل للأعراب عندما سألوه : يا رسول الله، أنتداوى؟ فقال : "تَدَاوَوْا؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ: الْهَرَمُ" . كما قال عاصم بن عمر بن قتادة: سمعت جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: سمعت النَّبيَّ يقول: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ -أَوْ يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ- خَيْرٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ تُوَافِقُ الدَّاءَ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِي" . فانطلق المسلمون من رؤية إسلامية خالصة ليكتشفوا ويُجَرِّبوا كل أنواع العقاقير للوصول إلى الدواء الناجح الفعال، الذي جعله الله شفاء للأمراض.
ولم ينطلق المسلمون من فراغ؛ بل أخذوا كل ما كَتَبَهُ اليونانيون عن الصيدلة، ولكنهم لم يَكْتَفُوا بنقله، بل طوَّروه وحوَّلوه إلى علم جديد قائم على التجربة، فاعتنَوْا بكتاب: (المادَّة الطبِّيَّة في الحشائش والأدوية المفردة) الذي وضعه ديسقوريدس العين زربي (80م)، وترجموه عدَّة مرات؛ أشهرها اثنتان: ترجمة حنين بن إسحاق في بغداد، وترجمة أبي عبد الله الصقلّي في قرطبة، وفي وقت لاحق قام الصيادلة المسلمون -بفضل خبرتهم وممارستهم- بالزيادة على هذا الكتاب، واسْتِدْرَاك ما فات ديسقوريدس، ومن ثَمَّ بدأ التأليف والتصنيف بغزارة في الصيدلة وعلم النبات، وكان من ذلك (معجم النبات) لأبي حنيفة الدِّينَوَرِيِّ (ت 282هـ - 895م)، و(الفلاحة النبطية) لابن وحشية (ت318هـ - 930م، و(الفلاحة الأندلسية) لابن العوام الإشبيلي، فقد استفاد المصنِّفُون في علم الأدوية كثيرًا من هذه الكتب وأمثالها.
ويكمن سِرُّ تأصيل هذا العلم ونسبته إلى المسلمين في أنه لَمَا نَقَلَ المسلمون أسماء الأدوية المفردة (النباتية) من كتب اليونان والهند وفارس لم يستطيعوا التَّعَرُّف على كثير منها، وحتى تلك التي تَعَرَّفوا عليها لم يقفوا على خصائصها؛ لذا لم يكن هناك بُدٌّ من الاستعاضة عنها ببديل مَحَلِّيٍّ؛ فلجئوا منذ وقت مبكر إلى التأليف فيما سمَّوْهُ أبدال الأدوية، ووضعوا مصنَّفات خاصَّة بتلك التي لم يُشِرْ إليها ديسقوريدس وجالينوس، وغيرهما، واستفادوا في هذا الشأن من العقاقير الهنديَّة والفارسيَّة، إلاَّ أن الحاجة للبديل المحلِّيِّ كانت ضرورة اقتصادية وانتمائية، عبَّرَ عنها البيروني في عِتَابه للصيادلة بقوله: "لو كان منهم ديسقوريدس في نواحينا لصرف جهده على التَّعَرُّف على ما في جبالنا وبوادينا، ولكانت تصير حشائشها كلها أدوية…" .
واستجابة لمثل هذه الحميَّة جَرَتْ بعض محاولات للاستفادة من الأعشاب المحليَّة؛ كان من بينها في بادئ الأمر تصنيف ما يشبه المعاجم على هيئة جداول تحتوي على أسماء النباتات المختلفة باللغات العربية، واليونانية، والسريانية، والفارسية، والبربرية، بشرح أسماء الأدوية المفردة، ومن المحاولات التطبيقية في هذا المجال ما قام به رشيد الدين الصوري (ت 639هـ - 124م)، الذي كان يَخْرُجُ إلى المواضع التي بها النباتات يُرَافقه رسَّام، فيشاهد النبات ويسجِّله ثم يُرِيه للرسَّام في المرَّة الأولى وهو في طَوْرِ الإنبات أو لا يزال غضًّا، ثم يريه إياه في المرَّة الثانية بعد اكتماله وظهور بذره، وفي الثالثة بعد نضجه ويبسه، ويقوم الرسام بتصويره في جميع هذه الأطوار .
ولعلَّ من أهمِّ مآثر المسلمين في بدايتهم لهذا العلم أنهم أدخلوا نظام الحسبة ومراقبة الأدوية ، ونقلوا المهنة من تجارة حُرَّة يعمل فيها مَنْ يشاء، إلى مهنة خاضعة لمراقبة الدولة، وكان ذلك في عهد المأمون، وقد دعاه إلى ذلك أن بعضًا من مزاولي مهنة الصيدلة كانوا غير أمينين ومدلِّسين، ومنهم من ادَّعى أن لديه كل الأدوية، ويُعطون للمرضى أدوية كيفما اتُّفِقَ؛ نظرًا لجهل المريض بأنواع الدواء؛ لذا أمر المأمون بعقد امتحان أمانة الصيادلة، ثم أمر المعتصم من بعده (ت 227هـ) أن يُمْنَحَ الصيدلاني الذي تثبت أمانته وحذقه شهادة تُجِيزُ له العمل، وبهذا دخلت الصيدلة تحت النظام الشامل للحسبة، وقد انتقل هذا النظام إلى أنحاء أوربا في عهد فريدريك الثاني (607-648هـ/1210-1250م)، ولا تزال كلمة مُحْتَسِب مستخدمة في الإسبانية بلفظها العربي حتى الوقت الراهن، وكان يُنَاط بمفتِّش رسمي في كل مدينة الإشراف على الصيادلة وكيفية تحضير العقاقير، وقد يَسَّرَ ذلك للصيدلة أن تَرْتَقِيَ بوضوح علمًا قائمًا بذاته؛ ممَّا جعل الصيادلة ينتقلون إلى مملكة النبات التي وجدوا فيها مجالاً خصبًا للعمل؛ فزُرِعَت النباتات الطبية بشكل منتظم، وَفْقَ شروط خاصَّة في مزارع خاصَّة رعاها الحُكَّام، وجلبوا لها البذور اللازمة من كل مكان يطلبه الصيادلة، وذلك ما فعله عبد الرحمن الأول في قرطبة، ووَفْقَ تنظيم مهنة الصيدلة أصبح في كل مدينة كبيرة عميد للصيادلة يقوم بامتحانهم، كابن البيطار في القاهرة، كما فَرَضَ الدستورُ الجديد على الأطباء أن يكتبوا ما يصفون من أدوية للمريض على ورقة سمَّاها أهل الشام الدستور، وأهل المغرب النسخة، وأهل العراق الوصفة، وبذلك كان المسلمون أوَّل من أنشأ فنَّ الصيدلة على أساس علمي سليم، وأقاموا الرقابة على الصيدليات والصيادلة من خلال وظيفة الحسبة .
وقد زاد الأمرُ إحكامًا بتولِّي سنان بن ثابت الطبيب أمر الحسبة؛ حيث تحوَّل هذا النظام إلى امتحان ومحاسبة ومراقبة دورية؛ للأوزان والمكاييل، وتفتيش الصيدليات مرَّة كل أسبوع، ومن بين الطرق التي طبَّقُوها لمعرفة الأدوية المفردة وفاعليتها: الإحراق بالنار أو السحق، وفحص الرائحة واللون والطعم. وقام بعض الأطباء باختبار مدى فاعلية العقاقير على الحيوانات قبل إعطائها الإنسان؛ ومن ذلك تجربة الزئبق على القرد التي قام بها الرازي، كما كان ابن سينا يَذْكُرُ مع كل عقار خصائصه وأوصافه، ونجد ذلك جليًّا في كتاب: (منهاج الدكان) لكوهين العطار، الذي جمع عمل ابن سينا في هذا الصدد في فصل سمَّاه: "امتحان الأدوية المفردة والمركَّبة، وذِكْرُ ما يُسْتَعْمَل منها وما لا يُسْتَعْمَل"، وقد أورد كوهين العطار في هذا الفصل الطرق المستعملة في ضبط معايير جودة العقاقير، بالإضافة إلى فصل عن المدَّة الزمنية التي لا تعود صالحة للاستعمال بعدها، والأوصاف المميِّزة للأدوية وأنواعها، وما تُغَشُّ به، وكيفيَّة كشف هذا الغش عن طريق الأوصاف الحسيَّة والفيزيائيَّة للدواء .
وبازدهار صناعة الصيدلة وجد الصيادلة المسلمون مجالاً خصبًا للإبداع، الذي انتهَوْا فيه إلى تركيب عقاقير من البيئة المحلية ذات أوزان معلومة مُبَسَّطة، وقطعوا شوطًا كبيرًا عندما استفادوا من علم الكيمياء في إيجاد أدوية جديدة ذات أثر في شفاء بعض الأمراض؛ كاستخراج الكحول، ومركبات الزئبق، وملح النشادر، واختراع الأشربة والمستحلبات والخلاصات الفطرية، بالإضافة إلى ذلك قادهم البحث الجادُّ إلى تصنيف الأدوية استنادًا إلى منشئها وقُوَّتها، كما قادتهم تجاربهم إلى أدوية نباتية جديدة لم تكن معروفة من قبل كالكافور، والحنظل، والحناء .
وقد قادت غزارة التصنيف في كتب الصيدلة والبحث الدءوب الذي كشف عن عقاقير جديدة، بالإضافة إلى ما هو موجود أصلاً، إلى أهمية تقسيم هذه العقاقير وَفق معايير ارتآها المؤلفون أو الصيادلة، ونجد الأمثلة على ذلك واضحة في (الحاوي) للرازي، و(الصيدلة في الطب) للبيروني، و(كامل الصناعة) لعلي بن عباس، و(القانون) لابن سينا.
ومن أمثلة ذلك تصنيف الرازي، والذي وضع أُسُسًا صحيحة لعدَّة علوم صيدلانية، وبيَّن أوصافها، وطُرُق تحضيرها، وكشف غِشّها وقواها، وبدائلها، والمدَّة الزمنية التي يمكن أن تُحْفَظَ خلالها؛ فقد صَنَّف العقاقير إلى أربعة أقسام؛ كما يلي: موادّ ترابية (معادن)، ومواد نباتية، ومواد حيوانية، وعقاقير مُوَلَّدة (مشتقات). وذكر تحت الصِّنف الأول سبعة أنواع، ومِثْل الرازي صَنَّفَ أيضًا البيروني وابن سينا، وكان لكلٍّ إسهامه في ذلك.
وفي عمليات تحضير العقاقير وتركيبها استخدم الصيادلة المسلمون طرقًا مبتكرة، ظلَّ بعضها معمولاً به حتى الوقت الحاضر من حيث المبدأ؛ فنجد أن الرازي استخدم: 1- التقطير: لفصل السوائل. 2- الملغمة: لمزج الزئبق بالمعادن الأخرى. 3- التنقية: لإزالة الشوائب. 4- التسامي: لتحويل الموادِّ الصلبة إلى بخار، ثم إلى حالة الصلابة ثانية دون المرور بحالة السيولة. 5- التصعيد: لتكثيف المواد المتصاعدة. 6- التشوية: لتحضير بعض المعادن من خاماتها. 7- التشميع: لصهر بعض المواد بإضافة موادّ أخرى إليها. 8- التكليس: لإزالة ماء التبلُّر وتحويل المواد المتبلِّرة إلى مساحيق غير متبلِّرة. 9- التبلُّر: لفصل بلورات المواد المذابة. 10- الترشيح: لفصل الشوائب والحصول على محلول نقي .
وممَّا يُعَدُّ من إبداعات المسلمين وابتكاراتهم في هذا العلم أن ابن سينا وصيادلة آخرين استطاعوا أن يمزجوا الأدوية بالعسل تارة، وبالسكر والعصير تارة أخرى؛ وذلك ليصبح طعمها مستساغًا، وكثيرًا ما جعلوها على هيئة أقراص وغلَّفوها لإخفاء رائحتها، وكان ابن سينا أوَّل مَن استعمل طريقة تغليف الحبوب بالذهب والفضة، كما أن الزهراوي كان أوَّل من حضَّر الأقراص بالكبس في قوالب خاصَّة .
رد: المسلمون وابتكار علم الصيدلة ( بقلم الدكتور راغب السرجانى )
[align=center]إسهامات المسلمين في علم الصيدلة
بلغ المسلمون من المدنيَّة والتقدُّم والحضارة درجة عظيمة لم يبلغها شعب من شعوب الأرض في مثل هذه الفترة القصيرة، كما امتدَّت حضارتهم عدَّة قرون وأضاءت كل أرجاء المعمورة، ومن مظاهر هذه الحضارة إسهاماتهم في علم الصيدلة، ذلك العلم الذي يُعَدُّ ابتكارًا من ابتكارات المسلمين.
ولقد اعترف كثير من علماء الغرب بالمكانة المرموقة التي وصل إليها المسلمون في علم الصيدلة، فهم أوَّل مَنْ أسَّس لعلم الصيدلة بمفهومه الحديث؛ حيث تقول الموسوعة البريطانية عن ذلك: "والحقُّ أن كثيرًا من أسماء الأدوية وكثيرًا من مركَّبَاتها المعروفة حتَّى يومنا هذا، وفي الحقيقة المبنى العامّ للصيدلة الحديثة - فيما عدا التعديلات الكيماوية الحديثة بطبيعة الحال - قد بدأه العربُ" .
بعض علماء الصيدلة
وعندما نستعرض إسهامات المسلمين في علم الصيدلة نجد أن هناك قائمة كبيرة تحوي عشرات الصيادلة المسلمين، الذين كان لهم دورٌ فعَّال في تطوير وتحديث علم الصيدلة؛ القائم على الملاحظة والتجريب والتحديث، والبحث عن كل جديد من خلال الأسفار المتعدِّدة في البلدان القريبة والبعيدة، فتوصَّلُوا إلى نباتات وأعشاب جديدة أثبتت التجارِبُ أن لها دورًا مميَّزًا في علاج الأمراض الصعبة، والأمراض التي لم يكن لها أدوية من قبل.
فمن علماء الصيدلة المسلمين الذين ذاع صيتهم، وانتشرت مؤلَّفاتهم (علي بن العباس المجوسي) المتوفى سنة 384هـ، وقد كان ابن العباس المجوسي من أشهر الأطباء والصيادلة المسلمين في القرن الرابع الهجري، قال عنه القفطي: "طبيب فاضل كامل" . ومن أشهر كتبه كتاب (الملكي) المعروف بـ(كامل الصناعة الطبية)، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات المهمَّة في العلوم الطبية والدوائية؛ حيث قسم الكتاب إلى جزأين يشتمل الأول على عشر مقالات؛ الأولى في الأمزجة والطبائع والأخلاط، والثانية والثالثة في التشريح، ولقد كانتا المرجع الرئيسي لعلم التشريح في سالرنو بإيطاليا وفي غيرها في المدَّة ما بين عامي (1070-1170م)، أمَّا الجزء الثاني فمقصور على المداواة وطرق العلاج والصيدلة؛ حيث تختصُّ إحدى مقالاته بالأدوية المفردة وامتحانها ومنافعها، فيذكر الطُّرُق التي يُسْتَدَلُّ بها على قوَّة الدواء من التجربة على الأبدان والأمراض، وامتحان الدواء من سرعة استحالتها وعُسرها، ومن سرعة جموده وعُسر جموده، ومن طعمه ورائحته ولونه، ومعرفة قوى الأدوية المسكنة للأوجاع، والمُفتِّتَة للحصى، والمُدرَّة للبول، والمُدرَّة للطمث، والمولِّدَة للَّبَنِ، كما تحدَّث عن الأدوية النباتية وأنواعها؛ من حيث الحشائش أو البذور أو الحبوب، ثم الأوراق والأنوار (الأزهار)، ثم الثمار والأدهان... .
وقد أثنى فيليب حتِّي على كتاب (الملكي) بقوله: "إنه الكتاب الوحيد الذي نقله الصليبيون إلى اللغة اللاتينية وقد ظلَّ كتابًا مدرسيًّا في الشرق والغرب إلى أن حلَّ محلَّه الكتاب الذي وضعه ابن سينا، وهذا أشبه بموسوعة طبية" .
ثم جاء الزهراوي أبو القاسم خلف بن عباس الأندلسي (ت 404هـ) ليُكمل مسيرة علي بن العباس، فرغم شهرته الواسعة في مجال الجراحة - فهو أوَّل مَنِ استعمل ربط الشرايين لمنع النزف- إلاَّ أن إسهاماته في علم الصيدلية كانت تضاهي إسهاماته في علم الجراحة ولا تَقِلُّ عنها؛ فقد ألَّف في الأدوية كتابًا أسماه: (مقالة في أعمار العقاقير المفردة والمُركَّبة)، ويرجع عدم تقدير الزهراوي باعتباره صيدليًّا بارعًا إلى أن المؤلفين العرب وغيرهم لم يُعنوا إلاَّ بالجزء الخاصِّ بالجراحة والطِّب الذي ذكره في كتابه: (التصريف لمن عجز عن التأليف).
وحتى في كتابه (التصريف) يمكننا أن نلحظ بوضوح أن عناوين مقالاته الثلاثين في هذا الكتاب قد اهتمَّتْ بالأدوية وطرق تركيبها، والأشكال الصيدلية وطُرق تحضيرها، وتعاطيها وجرعاتها، وأن المقالة الثلاثين هي المقالة الوحيدة التي اهتمَّتْ بموضوع الجراحة .
و أشهر مقالة عن الصيدلة في كتاب (التصريف) تلك المقالة التي تناول فيها كيفية تحضير العقاقير المعدنية والنباتية والحيوانية وتنقيتها، وقد ذكر الزهراوي أسماء العقاقير بأربع لغات إلى جانب العربية؛ هي: اليونانية والفارسية والسريانية والبربرية، وهو عمل يمكن أن يُطْلَقَ عليه الآن معجم مصطلحات الصيدلة المتعدِّد اللغات، كما أورد أسماء الأدوات والأجهزة الكيميائية والصيدلانية، وأبدال الأدوية المفردة وذكر مصادرها - إن وُجِدَتْ - وأعمار الأدوية المركبة والمفردة - أي تاريخ صلاحية الدواء - وكما فعل مَنْ سبقه أتى في النهاية على ذِكْرِ الأوزان والمكاييل، ورتَّبها ترتيبًا ألف بائيًّا. وكان الزهراوي أوَّل من استخدم الفحم في ترويق شراب العسل البسيط .
كما أسهم ماسويه المارديني (ت406هـ) إسهامات رائدة في علم الصيدلة؛ فقد كان يُلَقَّبُ في الأوساط العلمية الأوربية باسم ماسويه الصغير، ومن أشهر كُتبه كتاب: (المادة الطبية)، وقد بلغت شهرة هذا الكتاب حدًّا كبيرًا؛ جعلته أقدم دستور للأدوية في العالم، ولقد كان كتاب (المادَّة الطبية) عاملاً أساسيًّا في ظهور الأدوية عند الغرب، كما كان العمدة في الصيدلة في أوربا، وبقي هذا الكتاب محافِظًا علي قيمته العلمية وعلى أثره الكبير في الطبِّ والصيدلة في أوربا إلى أمد بعيد وصل إلى نهاية القرن الماضي؛ فمِنْ هذا الكتاب عَرَفَ العالم عامَّة وأوربا خاصَّة معظم الأدوية التي اخترعها الصيادلة العرب بأنفسهم، أو جلبوها من أقطار أخرى للاستعمال في علم المداواة ويقع كتاب (المادة الطبية) لماسويه الأصغر في ثلاثين جزءًا.
ويُعَدُّ ابن وافد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكريم، المولود في طُليطلة (387-467 هـ) من أبرز العلماء المسلمين في الصيدلة؛ فقد كتب ابن وافد العديد من الكتب في مجال الأدوية المفردة، ومن أهمِّهَا كتابه المعنون باللغة اللاتينية: (mineralibus Simplicibus)، وهو كتاب ذاعت شهرته في الأوساط اللاتينية، ورغم أن الأصل العربي لهذا الكتاب قد فُقد إلاَّ أن ترجمته اللاتينية ما زالت موجودة حتى الآن، وقد كان هذا الكتاب من أهمِّ الكتب التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى .
علم العقاقير عند المسلمين
ممَّا تفرَّد به المسلمون في العلوم إسهاماتهم في علم العقاقير، ففي بادئ الأمر كان المسلمون لا يعرفون من الطبِّ إلاَّ الطبَّ التجريبي، فاستعملوا العقاقير وبعض النباتات واستفادوا من خصائصها في معالجة الأمراض والجراح، ومن هنا كان اهتمامهم بالعقاقير، وازداد ذلك بتقدُّمهم في المعرفة والعلم واتِّصَالهم بالنساطرة والفرس والروم والهنود، فانكبُّوا على دراسة الأدوية مفردة كانت أو مركبة، وتعرَّفوا قواها، ووضعوا مواصفاتها، وتحقَّقُوا منها، بل واخترعوا عشرات العقاقير المفردة والمركبة التي لم تكن معروفة لمن قبلهم من اليونانيين الأقدمين.
ولقد كانت دراسة الأدوية ومعرفتها والتأكُّد من صحَّتها وفاعليتها حجر الأساس لدى كل مهتمٍّ بالطبِّ والعلاج والمداواة؛ فلا نجد مؤلَّفًا من مؤلَّفات كبار الأطباء المسلمين وغيرهم إلاَّ أَفْرَدَ فيه للأدوية المفردة والمركبة قسمًا مهمًّا خاصًّا؛ فنجد ابن سينا خصَّص لها الكتاب الثاني والخامس في مؤلَّفِهِ (القانون)، وخصَّص الرازي الجزء العشرين والحادي والعشرين في كتابه (الحاوي)، وابن ربن في كتابه (فردوس الحكمة)، وكذا ابن زهر في كتابه (التيسير في المداواة والتدبير)، والذي ذكر كذلك في نهايته وصايا وإرشادات في تركيب الأدوية المركبة واستعمالها، ووصفات من الأدوية المركَّبَة التي أثبتها، وكذلك بيان تحضير الأشربة والمراهم والمعاجين، وابن التلميذ في كتابه (الأقراباذين الكبير)، هذا بالإضافة إلى أن هناك كثيرًا من المؤلَّفات التي خُصِّصَتْ للأدوية فقط مثل كتاب (الجامع للأدوية والأغذية) لابن البيطار، و(الجامع لصفات أشتات النبات) للإدريسي، وكتاب (شرح أسماء العقاقير) لابن ميمون، وكتاب (الأدوية المفردة) للغافقي، وغيرها من الكتب الأخرى .
وبالنسبة لمواصفات العقاقير وانتقائها؛ فقد كان العلماء المسلمون يتحقَّقون من النباتات المختلفة عن طريق أيِّ الأجزاء من النبات يكون أفيد وأقوم وأفضل للعقار، وكذلك أوقات جمع العقاقير من النباتات وجنيها، وكيفية تخزينها دون أن يتطرَّق إليها الفساد.
فالأوراق يجب أن تبقى على هيئتها قبل أن يتغيَّر لونها، وتنكسر قوتها، والأصول لا بُدَّ من أخذها بعناية فائقة، والسيقان والأغصان يجب أن تُجنى قبل الذبول والتشنُّج، وأمَّا الزَّهر فيجب أن يُجْنَى بعد التَّفَتُّح التامِّ، وقبل التذبُّل والسقوط، بل عَلِمَ الصيادلة المسلمون أيضًا أن المجتنى في صفاء الهواء أفضل من المجتنى في حالة رطوبة الهواء وقرب العهد بالمطر، وما يُلتقط من الأدوية في الصيف كان أقوى مما يُلتقط في الشتاء، وما ينبت في الجبال اليابسة كان أقوى ممَّا ينبت في السهل والرطوبات، وبالنسبة لعصارات النبات نجد أن علي بن العباس المجوسي يوضِّح أن العُصارات ينبغي أن تُعتصر من النبات والأوراق الغضَّة الطرية التي قد أَخَذَتْ منتهاها، واتَّسعت سوقها، وما كان من عصارة الثمار، فيجب أن تكون الثِّمار بالغة ناضجة.
كما اهتمَّ علماء المسلمين باستخلاص العقاقير المناسبة من النباتات المختلفة في طول البلاد وعرضها، فلم يكن العامل الجغرافي أو القُطري عائقًا أو حاجزًا لهم، لذلك وجدنا الكثيرين منهم يسيحون في طول البلاد وعرضها بحثًا عن الجديد من النباتات، ومن ثم العقاقير الجديدة، ومن هؤلاء العلماء الرُّحَّل أبي جعفر الغافقي صاحب كتاب (الأدوية المفردة) الذي بحث عن كل جديد من النباتات في كل من الأندلس والمغرب العربي، وقد ذكر في هذا الكتاب كل نبات وعقار باسمه العربي والبربري واللاتيني؛ ممَّا يُدلل على اتساع ثقافته في مجال النباتات والصيدلة .
وممَّا يلفت الأنظار ويَتَعَجَّب لمعرفته كل قارئ لأحوال علماء المسلمين في مجال استخلاص العقاقير من النباتات المختلفة، ما كان يفعله بعض هؤلاء العلماء في مصنفاتهم كرشيد الدين الصُّوري (ت 639 هـ)، الذي كان يصطحب معه مصوِّرًا مزوَّدًا بالأصباغ على اختلاف أنواعها، ثم يطوف مَوَاطِن النبات، ويطلب من المصوِّر أن يصوِّر له النبتة في بيئتها بألوانها الطبيعية، وأن يجتهد في محاكاتها، وكان يطلب منه تصوير النبتة في أطوارها المختلفة من أيام إنباتها ونضارتها، وإزهارها وإثمارها وجفافها، فيكون التحقيق أتمَّ والمعرفة أبين، وكان هذا منهجه في كتابه (الأدوية المفردة)، الذي يضمُّ إلى جانب الأدوية أوصاف ورسوم النباتات الملونة في أطوارها المختلفة، وكذلك كتابه (التاج)، وهذا كله يؤكِّد سبق العلماء المسلمين واستخدامهم المنهج العلمي التجريبي .
وأمَّا التداوي بهذه العقاقير، فإن الصيادلة المسلمين كانوا يُفَضِّلون البدء بالأغذية الطيبة النافعة ما أمكن ذلك قبل البدء في استخدام الأدوية والعقاقير، فإذا ما اضطروا إلى استخدام الأدوية فلا يَرَوْنَ التداوي بالعقاقير المُركَّبة، وإذا اضطروا إلى المركَّب فلا يُكثرون منه، وهذا ما ذكره المجوسي في كتابه (كامل الصناعة الطبية) بقوله: "إن أمكنك أن تعالج العليل بالغذاء فلا تُعطه شيئًا من الدواء، وإن أمكنك أن تُعالج بدواء خفيف مفرد فلا تُعالج بدواء قوي، ولا بدواء مركب، ولا تستعمل الأدوية الغريبة المجهولة". وقد عالج الرازي هذه المسألة بقاعدة يسيرة عادلة، ومبدأ علمي سليم، إذ قال: "إن استطاع الحكيم أن يُعالج بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة". وقال أيضًا: "إن العُمر قصير عن الوقوف على فعل كل نبات الأرض، فعليك بالأشهر ممَّا أُجمع عليه، ودَعِ الشاذَّ، واقتصر على ما جُرِّب".
ومع هذا التقدُّم الإسلامي في التداوي بالأغذية والعقاقير المفردة والمركبة، استطاع العلماء المسلمون أن يُضيفوا الكثيرَ من مفردات الأدوية في مادَّتهم الطبية، ولم ينقلوها عمَّن أخذوا عنهم من اليونانيين والنساطرة، فأوردوها في كتبهم مُحلاَّة بأوصافها، وقوَّة مفعولها، ومنافعها وفوائدها في العلاج، ومن ذلك ما ذكره الإدريسي في كتابه (الجامع لصفات أشتات النبات)؛ فقد ذكر كثيرًا من العقاقير لم يذكرها ديسقوريدس أو أغفلها، وقد بلغ ما أحصاه من هذه المفردات حوالي 125 مفردة، أوَرَدَ ذكرها في أربعة عشر حرفًا الأولى من الحروف الأبجدية، وهو الجزء من كتابه الذي أمكن الحصول عليه.
وأمَّا طريقة تحضير الأدوية -مفردة كانت أم مركبة- عند المسلمين فقد كانت على هيئة مستحضرات ذات أشكال مختلفة تتوقَّف على طُرق استعمالها وتعاطيها والغرض منها، كما كانت تُعَدُّ بغرض أن يكون مفعولها محقَّقًا مضمونًا، وفي الوقت نفسه لا تَكْرَهُهَا النفس، بل تقبلها وتستسيغها، مع سهول تعاطيها، وقد ابتدع المسلمون طُرُقًا كثيرة استعملوها في تحضير وتنقية الأدوية والعقاقير؛ منها: التقطير، والترشيح، والتحويل، والتبخير، والتصعيد، والتذويب (الصهر)، والتبلور، والغسل، وأول مَنْ أدخل تغليف الحبوب بالذهب والفضة هو ابن سينا، وأوَّل من حضَّر الأقراص بالكبس في قوالب خاصَّة هو الزَّهراوي.
هكذا كان للمسلمين فضل كبير في الإسهام العلمي النظري والتطبيقي في مجال الصيدلة؛ فقد بذلوا الجهد الكبير في استجلاب العقاقير من الهند وغيرها، وهم الذين أَسَّسُوا علم الصيدلة وطوَّرُوه، وهم أول مَنِ اشتغل في تحضير الأدوية والعقاقير، وهكذا كُنَّا من قبلُ فمتى نكون؟!
رد: المسلمون وابتكار علم الصيدلة ( بقلم الدكتور راغب السرجانى )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا.. جهد مشكور .. أثابكم الله وجعله فى ميزان حسناتكم زادكم الله علما نافعا ، ورزقكم الجنة .. جزاء ماقدمتم من مشاركة قيمة