باب التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به
قال الله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين (26)].
----------------
يعرف ذلك مما قبل الآية هو قوله تعالى: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون * إن الأبرار لفي نعيم * على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين (18: 26)]، أي: فليتسابق المتسابقون، كقوله تعالى: {لمثل هذا فليعمل العاملون} [الصافات (61)].
عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بشراب، فشرب منه وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟» فقال الغلام: لا والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. فتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يده. متفق عليه.
----------------
«تله» بالتاء المثناة فوق: أي وضعه. وهذا الغلام هو ابن عباس رضي الله عنهما. في الحديث: أن سنة الشرب العامة تقديم الأيمن في كل موطن. وفيه: أن من استحق شيئا لم يدفع عنه إلا بإذنه. قال ابن الجوزي: وأنه استأذن الغلام دون الأعرابي في الحديث الآخر؛ لأن الأعرابي لم يكن له علم بالشريعة، فاستألفه بترك استئذانه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا أيوب - عليه السلام - يغتسل عريانا، فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه - عز وجل -: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟! قال: بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك». رواه البخاري.
----------------
في هذا الحديث: جواز الاغتسال عريانا في الخلوة. وفيه: جواز الحرص على الاستكثار من الحلال في حق من وثق من نفسه بالشكر. قال بعض العلماء: إنما حرص عليه أيوب عليه السلام لأنه قريب عهد بربه، كما حسر نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثوبه حين نزل المطر، وقيل: لأنه نعمة جديدة خارقة للعادة، وكل ما نشأ عنها فهو بركة

باب فضل الغني الشاكر
قال الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى} [الليل (5: 7)]
----------------
أي: أعطى ماله لوجه الله، واتقى محارمه، وصدق بالحسنى، أي: المجازاة، فسنيسره، نهيئه في الدنيا لليسرى، أي: للخلة التي توصله إلى اليسرى، والراحة في الآخرة، وهي الأعمال الصالحة.
قال تعالى: {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى} [الليل (17: 21)].
----------------
أي: وسيجنب النار الأتقى، أي: من اتقى الشرك والمعاصي؛ الذي يعطي ماله في طاعة الله، يطلب تزكية نفسه طلبا لمرضاة الله، ولسوف يرضى حين يرى جزاءه في الآخرة، وهذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وهي عامة في جميع المؤمنين.
قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير} [البقرة (271)].
----------------
أي: إن تبدوا الصدقات فنعم ما أبديتم، وإن تعطوها مع إخفاء الفقراء فهو خير لكم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: السر في التطوع أفضل من العلانية، والفريضة علانيتها أفضل.
قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم} [آل عمران (92)].
----------------
أي: لن تنالوا كمال الخير حتى تنفقوا من المال الذي تحبونه، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم فيجازيكم بحسبه.
قال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة (274)] ***
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها». متفق عليه.
----------------
فيه: أن شكر المال؛ إنفاقه في وجوه الطاعات، وأن شكر العلم العمل به وتعليمه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار». متفق عليه.
----------------
«الآناء»: الساعات. أي: لا ينبغي أن يغبط أحد إلا في هذين الخصلتين.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال:... «وما ذاك؟» فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تسبحون وتحمدون وتكبرون، دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة» فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء». متفق عليه، وهذا لفظ رواية مسلم.
----------------
«الدثور»: الأموال الكثيرة، والله أعلم. في هذا الحديث: فضل الغني على الفقير إذا استوت أعماله وأعمال الفقير البدنية. وفيه: أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف، أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل. وفيه: أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق، وأن العمل القاصر قد يساوي المتعدي.
قال الله تعالى: {وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى} [الليل (8: 11) ] .
----------------
البخل: معروف، والشح أبلغ من البخل؛ لأنه يبخل بما عنده، ويطلب ما ليس له. وقوله تعالى: {وأما من بخل} ، أي: بالإنفاق في الخيرات، {واستغنى} ، أي: بالدنيا عن الآخرة، {وكذب بالحسنى} ، أي: بالجزاء في الدار الآخرة، {فسنيسره} نهيئه {للعسرى} لطريق الشر، وهي الأعمال السيئة الموجبة للنار، {وما يغني عنه ماله} الذي يبخل به {إذا تردى} إذا مات، وهو في جهنم.
قال تعالى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن (16) ] .
----------------
أي: ومن سلم من الحرص الشديد الذي يحمله على ارتكاب المحارم، {فأولئك هم المفلحون} ، أي: الفائزون. قال ابن زيد وغيره: من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه، ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس. وقال ابن مسعود: شح النفس: أكل مال الناس بالباطل. أما منع الإنسان ماله فبخل، وهو قبيح. قال ابن عطية: شح النفس فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده.
عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . رواه مسلم.
----------------
أي: استحلوا ما حرم الله عليهم حرصا على المال، كما احتالوا على ما حرم الله عيهم من الشحوم، فأذابوها فباعوها واحتالوا لصيد السمك فحبلوا له يوم الجمعة وأخذوه يوم الأحد، وغير ذلك مما استحلوا به محارمهم وسفكوا به دماءهم.
الكلم الطيب