السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه الآية الرابعة التي اخترتها لكم من كتاب الدكتور عبد الكريم بكار :
( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) قص الله - تعالى - علينا في كتابه العزيز نبأ لقاء موسى بالعبد الصالح الخضر – عليهما السلام - ، وما جرى بينهما من إخبار الخضر لموسى بعدم صبره على ما سيراه من أعماله ، وعدم تمكن موسى – عليه السلام – من الصبر ، وفي ثنايا هذه الواقعة عبر ودروس عديدة نجلوها في النقاط التالية :
1. أراد الله تعالى أن يعلم موسى وجوب تفويض مالا يعلمه إليه ، فقد ورد في الصحيح أن رجلا سأل موسى على ملأ من بني إسرائيل : هل تعلم أحدا أعلم منك ؟ قال : لا . فأوحى الله إليه: بل عبدنا خضر أعلم منك . وفي هذا إرشاد لأولي النهي أن يقفوا الموقف المنهجي مما لا يعرفونه ، وفي هذا الزمان تشعبت العلوم ، وتفرعت حتى صار من العسير على الواحد منا أن يحيط بفرع من فروع المعرفة فضلا أن يحيط بها جميعا ، وأمانة العلم تقتضي التريث بالفتوى والتحرز من التطاول على مالا نحسن ، حتى لا تجتاحنا الفوضى العلمية . 2. في هذه الرحلة المباركة وقف موسى موقف المتعلم ، ووقف الخضر في موقف الأستاذ ، مع أنه لا خلاف في أن موسى أفضل من الخضر ، وهذا يدل على أن الأفضلية العامة لا تقتضي التفوق في العلم ، وهذا يحثنا على أن نرجع إلى أهل الاختصاص في اختصاصاتهم ، وألا نرهق أهل الفضل بالسؤال عما لا يعرفونه و يحسنونه ، فيسقطون من أعيننا لعدم معرفتهم ، أو يسقطون ويسقطوننا معهم إذا ما هم قالوا بغير علم ! ورحم الله الإمام مالكا حين كان يقول : ( إن من شيوخي من أطلب منه الدعاء ، ولا أقبل روايته ) . 3. التزم موسى – عليه السلام – في البداية بالصبر على ما يراه وعدم العصيان ، وهذا الالتزام كان بناء على ما يعرفه من نفسه من الحرص على طلب العلم ومعرفة الخير ، وكان تأكيد الخضر له أنه لن يصبر معه على ما يراه لما يعرف عنه من الحرص والالتزام بما شرع الله من حرمة الأنفس والأموال . وموقف موسى كان على النهج العام الذي ينبغي على المسلم إتباعه ، وهو إنكار ما خالف الشرع ، وعد السكوت عليه مادام ذلك ممكنا ، ولا يعكر صفو هذا خصوصية الموقف والحادثة ، وقد أنكر موسى على الخضر مع العلم بقدره وعلمه ، لأن المنهج فوق الأشخاص أيا كانوا . وقد ابتليت هذه الأمة في تاريخها المديد بأقوام أصيبوا بداء تقديس الأشخاص وإقامة البراهين على خيرية ما يفعلونه وتسويغ ما يرتكبونه من مناكر ومخالفات قطعية التحريم لما يعتقدونه فيهم من الصلاح ! وقد حطوا من قدر المنهج المعصوم على قدر ما رفعوا من شأن من يعظمون ! وما زال ذلك مستمرا إلى يوم الناس هذا . 4. كان الخضر موقنا بعدم صبر موسى على ما يراه منه ، وعلل له ذلك بقول : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) وهذا يدل على أن البشر لا يصبرون على رؤية أحداث وأعمال تخالف ما استقر عندهم من أعراف ومعايير ، أو على بذل جهود لا يرون لها نتائج تنسجم معها ، ومن أمثلة ذلك موقف الصحابة – رضي الله عنهم – من شروط صلح الحديبية ، التي كانت في ظاهرها مخالفة لمصالح المسلمين . وسبب موقفهم ذلك أنهم ما أحاطوا خُبرا بجوانب العملية التغييرية الكبرى التي يتصدون للقيام بها . ونجد ذلك واضح لدى الشباب الذين يغلي في دمائهم حب الدين ، وسبب الاستعجال عند الشباب – في أكثر الأمر – إلى أن كثيرا من قادة الدعوات يوهمون الشباب بأن التمكين في الأرض هو قاب قوسين أو أدنى ، حتى إذا مرت السنين تلو السنين أدرك أولئك الشباب طول الطريق ، فيؤدي ذلك إلى الإحباط والانطواء والسلبية أو إلى تسفيه القيادات واتهامها بالقصور . وسبب ذلك أن الشيوخ ما بصروا الشباب بطبيعة طريق الدعوة وتكاليفه ومشاقه .
= أما الجوانب التي لم نحط بها خُبرا فهي عديدة ، نذكر منها ما يلي : أ ) المنهج الرباني الذي نحمله يشتمل على أجزاء صلبة راسخة لا يجوز أن تتطور أو يُغض الطرف عن شيء منها ، وذلك كي تؤدي وظائفها في الهداية والإصلاح . وفيه أجزاء مرنة تقبل شيئا من الموازنة ، لكن الظرف هو الذي يعطي الأولوية لبعضها على بعض ، فمثلا : إذا كانت في المسلمين مجاعة كان مجال إطعام الطعام أولى بالبذل من مجال التنفل بالحج والعمرة .
ب ) واقعنا مفعم بالمؤثرات المختلفة حيث صار من غير الممكن معالجة أية قضية من قضايانا الكبرى على أنها شأن محلي خاص ، فوسائل الاتصال العجيبة ، ونفوذ الثقافة العالمية ، وتشابك المصالح وتداخلها ، كل ذلك يجعل ما نظنه داخليا خاضعا لاعتبارات دولية وإقليمية بالإضافة إلى المحلية ، وفهم كل تلك الاعتبارات يكون عن طريق الدراسات المتقنة والصلات والعلاقات ، وفهم طريقة التفكير لصانعي الخيارات والقرارات . ج ) مما لم نحط به خُبرا الإنسان موضع الدعوة ، فقد صار يخضع لمزيج كبير من المؤثرات الثقافية المتضادة ، مما يجعل تفكيره مختلفا عن تفكيره في القرن الماضي ، والطريق إلى حفز مشاعره صارت أكثر التواء ، ومفاتيح اهتمامه تبدلت ، ولم يصاحب ذلك التعقيد ما يحتاجه من الفكر العميق القائم على معرفة النفس البشرية والسنن الإلهية التي تحكمها ، وآية ذلك جمود خطاب كثيرين منا دون أدنى تحسين أو تحوير . د ) مما لم نحط به خُبرا سنن الله - تعالى - في تغير المجتمعات ، وهو تغير أساسه الحركة البطيئة ، وبما أن عمر الإنسان قصير فهو متشوق أبدا إلى معرفة نتائج أعماله ومجهوداته قبل أن يرحل عن هذه الدنيا ، لكن سنن الله – تعالى – لا تخضع للرغبات والأهواء ، ومن ثم قال الله تعالى لنبيه : ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ) . إن الحل الوحيد لحالات الاستعجال على قطف الثمار قبل نضجها هو الإحاطة المبصرة بكل جوانب التغيير المنشود وآلياته ، وإلا فان كثيرا من الجهود سيكون جهادا في غير عدو ، بل سيكون أخطر على الدعوة من أعدائها . إن فقه التحرك بالمنهج أشق من فقه المنهج نفسه لأنه يقوم على ركائز عائمة ، وتراكم الخبرة فيه ضعيف لتنوع أحواله وكثرة خصوصياته .