علم القيافة
هو على قسمين:
قيافة الأثر، ويقال لها العيافة وقد مرت.
وقيافة البشر، وهي المرادة ههنا، وهو علم باحث عن كيفية الاستدلال بهيئات أعضاء الشخصين على المشاركة، والاتحاد بينهما في النسب والولادة في سائر أحوالهما وأخلاقهما.
والاستدلال بهذا الوجه مخصوص ببني مدلج، وبني لعب، ومن العرب، وذلك لمناسبة طبيعة حاصلة فيهم لا يمكن تعلمه.
وحكمة الاختصاص تؤول إلى صيانة النسبة النبوية، كما قال بعض الحكماء.
وخص ذلك بالعرب ليكون سببا لارتداع نسائهم عما يورث خبث الحس وشوب النسب من فساد البذر والزرع وحصول هذا العلم بالحدس والتخمين لا بالاستدلال واليقين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
حكي أن الإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن رأيا رجلا فقال محمد: أنه نجار.
وقال الشافعي: إنه حداد فسألاه عن صنعته، فقال: كنت حدادا والآن نجار.
وإنما سمي بقيافة البشر لكون صاحبه متتبع بشرات الإنسان وجلوده وأعضاءه وأقدامه.
وهذا العلم لا يحصل بالدراسة، والتعليم ولهذا لم يصنف فيه.
وذكروا أن إقليمون صاحب الفراسة كان يزعم في زمانه أنه يستدل بتركيب الإنسان على أخلاقه، فأراد تلامذة بقراط أن يمتحنوه به، فصوروا صورة بقراط ثم (2/ 437) نهضوا بها إليه وكانت يونان تحكم الصورة بحيث تحاكي المصورة من جميع الوجوه في قليل أمرها وكثيره، لأنهم كانوا يعظمون الصورة، ويعبدونها فلذلك يحكمونها.
وكل الأمم تبع لهم في ذلك، ولذلك يظهر التقصير من التابعين في التصوير وظهورا بينا، فلما حضروا عند إقليمون ووقف على الصورة وتأملها وأمعن النظر فيها، قال: هذا رجل يحب الزنا وهو لا يدري من هو، فقالوا له: كذبت هذه صورة بقراط، فقال: لا بد لعملي أن يصدق فاسألوه فلما رجعوا إليه وأخبروه بما كان، قال: صدق إقليمون أنا أحب الزنا، ولكن أملك نفسي كذا في تاريخ الحكماء.
قال في ((مدينة العلوم)): ومبنى هذا العلم ما يثبت في المباحث الطبية من وجود المناسبة، والمشابهة بين الولد ووالديه، وقد تكون تلك المناسبة في الأمور الظاهرة بحيث يدركها كل أحد، وقد يكون في أمور خفية لا يدركها إلا أرباب الكمال.
ولهذا اختلف أحوال الناس في هذا العلم كمالا، وضعفا إلى حيث لا يشتبه عليه شيء أصلا لسبب كماله في القوتين أي القوة الباصرة والقوة الحافظة اللتين لا يحصل هذا العلم إلا بهما، وهذا العلم موجود في قبائل العرب ويندر في غيرهم، لأن هذا العلم لا يحصل إلا بالتجارب والمزاولة عليه مددا متطاولة، ولهذا لم يقع في هذا العلم تصنيف وإنما هو متوارث ولاهتمام العرب بهذا العلم اختص بهم، وتوارثه خلف عن سلف، ولهذا لم يوجد في غيرهم انتهى.
أقول: وقد اعتبر القيافة الشارع أيضاً في بعض الأحكام كما ورد في الصحيح من حديث مجزز الأسلمي، أنه دخل فرأى أسامة بن زيد وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامها فنظر إليهما مجزز الأسلمي وقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
وجه إدخال هذا الحديث في كتاب الفرائض الرد على من زعموا أن القائف لا يعتبر به فإن اعتبر قوله فعمل به لزم منه حصول التوارث بين الملحق والملحق به انتهى. وقد بسط القول في ذلك القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني في مؤلفاته فارجع إليها (2/ 438) (2/439)
لم القيافة .. أو قص الأثر ، هو من العلوم التي برع فيها العرب منذ القدم ...
وكما يقال بأن الحاجة هي أم الاختراع ، فإن ظروف حياة العرب الاستثنائية على مر العصور في صحاري جزيرتهم كان لها أبلغ الأثر في تلبية حاجات تلك الظروف .
وكان علم القيافة مما تشكل من خلال الإرث الثقافي التراكمي ، وكان له خصوصيته المحلية حتى وصل إلى مصاف العلوم التي برع فيها العرب ، فاعترفت به أدبياتهم المنقولة كعلم قائم بحد ذاته ..
(البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير ) هكذا قالت العرب ....
وهكذا دخل قص الأثر ضمن مأثورات العرب القولية من خلال المثل والحكاية والتي نستطيع من خلالها أن ندرس حركة الفعل الاجتماعي واتجاهات تغيره في عصر من العصور ، وأسلوب الحياة ومواجهة ما يشكل على ذلك المجتمع .
فكان قص الأثر مما لجأ إليه العرب منذ القدم لاستجلاء غموض أمر ٍ ما . بل أن كلمة ( القصة ) مأخوذة من قص يقص الأثر .
ولم يخلو التنزيل الحكيم من إشارات صريحة لقص الأثر منذ القدم فقد قال جل وعلا في محكم التنزيل ضمن سياق قصة الخضر وسيدنا موسى عليه السلام { فارتدا على آثارهما قصصا } الكهف ( 64 ) ، ونستطيع الاستدلال من هذا على أن موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم هو من أوائل من قص الأثر .
وتسمي العرب علم قص الأثر بعلم ( القيافة ) وهو على قسمين :-
قيافة الأثر ( ويقال لها أيضاً العيافة ) ، وقيافة البشر ( وهي معرفة النسب ) .
واقتفاه بمعنى تبعه قال تعالى { ولا تقفُ ما ليس لك به علم } أي لا تتبع ما ليس لك به علم ، ويقال قفوت فلاناً أي اتبعت أثره ، وفي التنزيل الحكيم كذلك { ثم قفــّينا على آثارهم برسلنا } أي أتبعنا نوحاً وإبراهيم عليهما السلام رسلاً بعدهم .
والقافية هي الحروف الأخيرة من آخر كلمة في بيت الشعر والذي تبنى عليه القصيدة ، جاء في لسان العرب قافية كل شيء آخره ، وقال امريء القيس : وقفــّى على آثارهنّ بحاصب ِ
وقال ابن أحمر :
[poet font="simplified arabic,5,darkred,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
لا تقتفي بهمُ الشمالُ إذا =تجنبَ دار بيتهمُ الشتاءُ
[/poet]
والقائف هو الذي يعرف الآثار ، قال القطامي :
[poet font="simplified arabic,5,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=2 line=200% align=center use=ex length=0 char="" num="0,black" filter=""]
كذبت عليك لا تزالُ تقوفــُـني =كما قاف آثار الوسيقة ِ قائفُ
[/poet]
لقد تفاعل الإنسان العربي مع بيئته، حيث أمعن النظر بتأنٍ وعمق إلى كل ما حوله....
وتمكن من أن يتكيف مع حيوانات ومناخ ونباتات بيئته، ولهذا فقد برع سكان الصحراء في إتقان مهارة قص الأثر حيث كانوا يتتبعون بنجاح آثار الحيوانات والوحوش التي تغزو أغنامهم ومواشيهم ..
ولعل ما ساعدهم على إتقان هذه المهارة نعومة الأراضي الرملية وظهورا لآثار الناتجة عن أي تحرك ضمن هذه البقعة.
وممن عرف بقيافة البشر الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه . ذكر ابن حجر أن عمر كان قائفا .
روي أن قوما وفدوا على عمر زاعمين أنهم من قريش وأنهم جاؤه ليثبتهم فيها ، فقال عمر : اخرجو ا بنا إلى البقيع ، فنظر في أكفهم ، فقال : ليست بأكف قريش ولا شمائلها .
وممن اشتهر بها الصحابي الجليل : ( مجزر المدلجي ) حيث أنه رأى قدمي أسامة وأبيه زيد بن حارثة وكانت رؤسهم مغطاة ، وقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض .
ولما أبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك : برقت أسارير وجهه فرحا ، وسبب فرح الرسول : أنهم في الجاهلية كانوا يقدحون في نسب أسامة لأنه شديد السواد وكان أبوه زيد شديد البياض ، فلما قال القائف ذلك فرح الرسول صلى الله عليه وسلم
وعبر القرون المتعاقبة تراكمت لدى أبناء الصحراء خبرات مهمة ومتطورة عن قص الأثر، الأمر الذي أكسبهم فراسة وفطنة ودقة ملاحظة...
وتزداد محنة قصاص الأثر عندما يكون الجو ماطراً وعاصفاً، حينما تمحي كل أثر في الصحراء والوديان والجبال.
وسيبقى قصّ الأثر شاهداً على عبقرية ابن الصحراء الذي تمثل في بيئته القاسية فذلل مصاعبها وحجّم مخاطرها. فضلاً عن أن هذا العلم يعد من أقدم العلوم الشعبية الإنسانية، ومن أكثر مهارات الإنسان الأنثروبولوجية رقياً وتميّزاً .
وبالرغم من التقنية الحديثة التي توصل إليها العالم إلا أنهم مازالوا يستعينون بقصاصي الأثر ...وقصاص الأثر يتميز بملكة ذهنية ممتازة وذكاء فطري وذاكرة حادة تساعده على تذكر الآثار والوجوه وتدله على معرفة السارق من القاتل إلى تحديد نسب الشخص إلى عائلته...
ولما كان قص الأثر يشكل جزءاً مهما ً في حياتنا وفي الوقت الذي يظن فيه أغلبنا أنه لم يعد وجود لقصاصين الأثر كان لابد لنا أن نتعرف على هذا العلم الذي مر بعصور متعددة ونتعرف أيضاً على طرقه المتعددة ..وفوائده.. وأسراره ...وعن ماهية علاقته بالبحث الجنائي .
لقد تواصل هذا الإرث العلمي حتى يومنا الحاضر ...
واعترفت به حتى دوائر التحقيق الجنائية في معظم دول العالم ، بل أنه داخل ضمن أساليب الإثبات واعترفت به الدراسات القانونية وقررته القوانين ضمن إجراءاتها للوصول للجناة أو أدلة الإثبات .
وينظر أبناء الصحراء بتقدير كبير إلى قصاصي الأثر وذلك لما يقدمونه من خدمات جليلة تتعلق بأمن الأفراد ومكافحة السرقات وسلامة المواشي والأموال .
ورغم قلة قصاصي الأثر في وقتنا الحاضر فلازالت أجهزة البحث الجنائي والشرطة تستعين بخبراتهم في الأمور الغامضة ، والتي تعجز فيها هذه الأجهزة عن تقصي الأثر في البعض من القضايا ، فبالرغم من تطور أساليب الجريمة في العالم على مر العصور والذي رافقها تطور في أساليب الكشف عنها أيضاً إذ ظهرت الأجهزة الحديثة المتطورة, وظهر علم البصمات ورغم ذلك لا تزال العديد من القضايا في العالم بأجزائه المتباعدة تقيد ضد مجهول وهنا يأتي دور قصاصي الأثر في الكشف عن الكثير من خفايا الأمور بخبراتهم الواسعة إذ تستعين بهم الجهات المختصة وخاصة في القضايا التي تحتاج إلى تقصي أثر المجرم أو الفاعل للدلالة عليه ومساعدة العدالة في تحقيق مهمتها .
وفي دول الخليج ومصر وسوريا اشتهر عدد من قصاصي الأثر ، وكان لهم دورهم الفعال في كشف غموض عدد كبير من الجرائم .
بالطبع فإن لقص الأثر أسرار كثيرة لا يعرفها سوى ابن الصحراء الذي لا تخفى عليه بطبيعة حياته في الصحراء، ولاسيما العارفين منهم بقص الأثر ...
ومن هذه الأسرار أن القصّاص يمعن النظر إلى مكان القدم سواء أكانت لإنسان أم لحيوان أي ينظر إلى الأثر الذي تتركه القدم ، وينظر إلى اعوجاجها ومدى عمقها الذي تركته ، وإذا رأى القصاص عمق القدم اليسرى عن القدم اليمنى يوقن ويتأكد بأن صاحبها لا يرى إلا بعينه اليسرى فقط .
وقص أثر الحيوانات يحتاج إلى مهارات فائقة و مهارات خاصة تفوق المهارات التي يحتاجها القصاص لقص أثر الإنسان ، تقول الكاتبة نورا السويدي : ( لا يجد قصاص الأثر صعوبة في معرفة أثر الحيوانات بأنواعها، وتشخيصها، ولمعرفة أثر الناقة من الجمل يلاحظ القصّاص أن خف الجمل ينهب الأرض نهباً بينما خف الناقة يلامس الأرض بلطف، في حين تكون خطوة الناقة، الحامل مضطربة وتكون خطوة الجمل الذي يحمل أثقالاً على ظهره عميقة ومتقاربة، في حين أن الجمل الذي لا يحمل ثقلاً يكون أثر خطواته واسعاً وقدمه على سطح الأرض وإذا تبين أثر لجمل ظهرت فيه الأرجل الأمامية مع الخلفية فهذا الجمل يجري وهو يحمل شيئاً، أما إذا كانت خطواته منتظمة فهذا يدل على أن الجمل طبيعي لا يحمل شيئاً، كما أن الطريق التي تحتوي أعشاباً تكشف عن إمكان الرؤية عند الجمل، فالجمل الأعور يأكل من جهة واحدة في الطريق حيث يرى بعينه السليمة، أما إذا وجد شيئاً من وبر الجمل على الأشواك فهذا يدل على أن الجمل المار في المكان أجرب يحك جسمه باستمرار )