علي قدر رغبتي في أن أراك كان خوفي ورهبتي من اللقاء تسرع نبضات قلبي بقرب مجيئك ترتعش يداي ويصبح لون جلدي شاحبا كمن خرج من القبر ينفض تراب الموت عن كاهله انظر إلي الساعة عقاربها تكاد أن تكون واقفة لا تسير لا احد ينظر للساعة غيري اسمع دقاتها برغم إن صوت دقات قلبي اعلي من دقات الساعة نبضات قلبي تزداد كلما سار العقرب خطوة قدماي لا تقوي علي حملي وعيناي زائغتان في المكان تدوران تتفحص الوجوه هل يشعر بي احد ؟ هلي يلحظ ما بي احد ؟ عيناي لا تستطيع إخفاء اللهفة ولون جلدي لا يخفي الخوف بداخلي آه يا ربي هل سيأتي ؟ ليته يأتي ، أريد أن أراه ولو لمرة واحدة في حياتي وليته لا يأتي فماذا سأفعل عندما يحين الوداع أفضل أن أبقي علي ما أنا فيه علي أن ألاقيه ثم انظر في عينيه حين الوداع حينها يتقطع قلبي وتتفتت أفكاري فأصبح هائمة بلا روح أو عقل أصبح شبح بشر لا إنسانة لها كيان ووجود أطلال مجرد أطلال يا ويح قلبي ؟ ماذا سأفعل حين يأتون بجحافلهم ويأخذونه مني فعلوها مرات ومرات كان يوم عرسي يوم لن أنساه كما لم تنساه أي امرأة محبة لزوجها ازدان البيت بالزهور والأنوار الكثيرة تجمع الأهل والأحباء من كل مكان كي يشاركوا العروس فرحتها أطفال الجيران يلعبون ويمرحون يملئون البيت بالفوضى المرحة الأم تزغرد والدموع ملء عينيها كمن شدة الفرح امتلأ البيت عن آخره بالمهنئين منهم الأقارب ومنهم الأحباب ومنهن من أتت فقط كي تشاهد العروس المحجبة أقيم الحفل كان اكبر مما أتمني وأحسن مما أتصور لم تنسني الفرحة أن اسجد لله شكرا وتقربا وكيف انسي أن اشكر المنعم علي نعمته ؟ وهبني رجلا ليس ككل الرجال رجلا تقيا وزوجا نقيا وحبيبا مخلصا رائعا لا يعرف سوي الله حقا وما دونه فكله باطل ولا يعرف سوي طريق الله وأما ما عداه من طرق فلا يؤدي إلا إلي الهلاك غايته واحدة وسيلته واحدة إنسان رباني فكيف لا اشكر ربي علي نعمته التي اختصني بها دون غيري انتهي الحفل الرباني سرنا في طريقنا معا خطوة خطوة قلبان متصلان بالله مسبحان بحمده إلي بيتنا الحبيب صعدنا درجات السلم معا باسم الله وعلي بركته علي باب بيتنا رأينا ويا لهول ما رأينا ؟ كانوا مدججين بسلاح الشيطان معتصمين بحبال المعصية الشر يتطاير من عيون حمقاء جذبه احدهم من يده الطاهرة نريدك نصف ساعة سقط قلبي أمام بيتي الوليد ماذا يريدون منا ؟ قال لي لا تخشي شيئا يا حبيبتي فسأعود بإذن الله وان لم يحدث ففي طرقي سيري أكملي الطريق لا يوقفنك عنه خوف أو جزع سأكون سجينا وأنت حرة كوني لساني الذاكر بين الناس إن لجموا لساني وكوني قلبي الشاكر إن توقفت دقات قلبي كوني قدمي السائرة علي طريق الحق فالطريق أمامك فلا تحيدي عنه فنحن شئنا أم أبينا مصابيح للناس إن انطفأ المصباح من حولهم فماذا يفعلون وأخذوه .......... سار معهم لم تهتز له شعرة رابط الجأش ثابت الخطى غاب عن ناظري استحيت أن ابكي وأنا أراه بهذه الصلابة وهو الأسير وددت لو أكون مثله في صلابته وقوته ورفضت أن أكون جزعة دوي كلماته في أذني " في طريقي سيري " خطوت نحو بيتي كي ادخله وحدي بعدما اخذوا الرفيق والحبيب جذبتني أمي لا يا ابنتي ستعودين معنا ولن تمكثي هنا فمن أدرانا أنهم لن يعيدوا الكرة إليك أنت ؟ لم التفت إلي كلماتها خطوت نحو بيتي الخاوي قلت لهم دعوني وحدي فسأكون بانتظاره مع مطلع كل فجر سأكون بانتظاره ومع مشرق كل شمس ومغربها سكون بانتظاره مهما طالت غيبته كنت أتوقع حضوره في أي لحظة استعد لها كل يوم أهيئ نفسي وبيتي لاستقباله كما تتهيأ العروس مر يوم وشهر وسنة مرت سنة كاملة وأنا علي انتظاره سنة كاملة حتى تنقضي تلك النصف ساعة التي أرادوه فيها مر عام بأكمله وما زلت أنا العروس المحبة ، بل المتيمة بحبه .. لم تفتر عزيمتي كلماته في أذني لا تضيع عاد ....... جاء يوم لقاء جديد يوم عرس جديد ، جاء صلبا قويا ، بل خلته اصلب عودا مما كان عليه واقوي .. لم تؤثر في عزيمته الأيام ، وجهه كان شاحبا ، لكن بريق عينيه لم ينطفئ بل ازداد توقدا ، بشرته مالت للاسمرار لكن نور وجهه ازداد بريقا ، أصبح أكثر نحافة لكن اصلب عودا كنت بعودته يومئذ اسعد مني في يوم عرسي قبل ذلك بعام . سعدت به وسعد بي ، سجدنا لله شكرا وتوالي علينا المهنئون كي يباركوا عرسنا الجديد ، مر شهر كنا فيه اسعد ما يكون البشر . نسيت في هذا الشهر كل الم شعرت به في عام مضي ، شهر عاد فيه كل مريض يعرفه ووصل فيه كل ذات رحم وبر فيه كل من له بر ، إلي أن جاء ذلك اليوم المشئوم ، أيقظني لصلاة الليل قمنا لله معا وسجدنا معا ودعونا معا ، تلونا كتاب الله إلي أن حانت صلاة الصبح ، استعد للصلاة بالمسجد رجوته أن يبقي اليوم نصليه معا ، رفض وأبي إلا أن يصلي بالمسجد قائلا إذا تخلف الإمام فما يفعل المؤتمين خرج للصلاة ولم يعد .......... أخذوه هذه المرة من المسجد ، التهمة " التحريض علي قلب نظام الحكم " ، في هذه المرة طال انتظاري مر عام وعامان وثلاثة أعوام مرت كلها دون أن أراه ولو لمرة واحدة بحثت في كل مكان حتى علمت أخيرا انه في احد معتقلات صعيد بلادنا المعتقلة حملت معي كل أشواقي ولهفتي وسافرت إليه ، قطعت الطريق الطويل بالقطار مرت الساعات كسنوات ثقال .. وصل القطار.. دقات قلبي أعلنت قرب اللقاء ، دخلت من البوابة الحديدية الكبيرة ، ثم سرت كثيرا ودخلت من باب دهليز لممر ثم أبواب أخري .. آه يا زوجي الحبيب ، كل هذه الأبواب تحبس خلفها ؟ ولم ؟ أيخشونك إلي هذا الحد ؟ أنت يا من يحبك البعيد والقريب ؟ ويوقرك الكبير قبل الصغير ؟ أنت يا بلسم الحياة الجريحة ؟ أنت يا من تحمل كتاب الله بين جوانحك ؟ يخافون منك ؟ ومم يخافون ؟ من حق تنادي به أم من نور تريد أن تهدي إليه الناس ؟ التقينا ...... كادت صرخة مكبوتة تخرج مني لولا أن تداركت الأمر وتمالكت نفسي .. انهمرت الدموع من عيني وقلبي لم استطع إخفاؤها حاولت إخفاء ما بي ، رسمت ابتسامة باكية علي شفتاي ابتسامة منفجرة بالدموع الملتهبة قابلته انه هو وليس هو ، انه هو وليس ، انه ليس إلا هيكل إنسان افترسته ذئاب لا تعرف الرحمة ، علامات التعذيب علي جسده الواهن ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، كيف حالك يا حبيبتي ؟ قالها بكل حنان الدنيا ، قالها وكأنني الحبيسة لا هو ، أنا المعذبة لا هو انفجرت باكية صرخت ، ما عدت احتمل ، لم ما نحن فيه ؟ ما جرمنا ؟ لم يحاكم المظلوم ويطلق صراح الظالم ؟ لم يحاسب المقتول ونشرب من دماء الضحايا الأبرياء ؟ ـ اصبري فما هي إلا بشائر بأننا علي طريق الحق " الم ، احسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " نحن فقط في السجون وقد وضع الخليل إبراهيم عليه السلام ـ ولكنها كانت بردا وسلاما ـ ومن أدراك أن السجون ليست بردا وسلاما ؟ والله إنها خير علينا من القصور الفاخرات ، إنها لخلوة لمن أراد أن يختلي إلي الله ومسجدا لمن أراد أن يتصل بالله وأخوة صادقة لمن أراد أن يتآخي في الله ـ إنهم يعذبونك ، ألا يكفيهم سجنك ؟ ـ والله ما زادني كل هذا إلا صلابة وقوة ثم إني رجل فهل أكون اضعف من امرأة فرعون ؟ ـ لا استطيع أن أحيا هكذا ، مللت الحياة والأحياء ، كرهت كل ما حولي ، الناس من حولي يعيشون ، الزوج مع زوجته الأب مع أبنائه التاجر مع تجارته ، كل منهم يبيت في فراشه آمنا ، وأنت ؟ لا يعلمون عنك شيئا ، بل إنهم اتهموك بالسفه والطيش ، امن اجلهم أنت هنا ؟ ـ لا يا حبيبتي أنا لست هنا من اجل احد ، أنا هنا من اجل ديني ودعوتي ، دعوة ربي ، كلمة الحق التي ناديت بإعلائها ، وكما قلت لك من قبل هذا طريقي وأنا سائر فيه ، سائر ولن أظلمك فان أردت السير معي فاصبري وكوني دافعا لي ، وان عجزت عن مواصلة المسير فلك حريتك ولن أكون حائلا بينك وبين ما تبغين صرخت في وجهه أن يكف ماذا يقول ؟ هل يتصور أنني يمكن أن اختار فراقه ؟ ألا يدري ما هو بالنسبة لي ؟ امسك بيدي قائلا : حبيبتي أريدك معي كما آمنت بلقيس مع سليمان لله رب العالمين ، أريدك لأنه الطريق الوحيد الذي يجب أن نسير فيه " فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله ومن كانت هجرته إلي دنيا يصيبها وامرأة ينكحها فهجرته إلي ما هاجر إليه " جاءنا المنادي معلنا انتهاء الزيارة وقبل أن أعده بتكرار الزيارة في وقت قريب طلب مني أن أفكر في عرضه وأتريث في الرد . عدت في طريقي وأنا لا اشعر أنني بنت الخامسة والعشرين ، وإنما كنت احمل فوق كاهلي آلاف السنين ، قرون طويلة ، اشعر بالعجز والكهولة ، شعورا يسري في دمي فتتثاقل قدمي عن المسير . حملني القطار إلي حيث العش البارد ، تتعارك أفكاري جميعا ، صوت قلبي يعلو لن نحتمل ما نحن فيه ، لن نحتمل آلام الفراق ، لن نحتمل الوحدة البشعة ، لن نحتمل الكثير والكثير... صوت كلماته هادئ رزين . إن شئت الاستمرار معي فليكن لله وليس لي ولتصبري وتحتسبي ، وان لم تستطيعي فلك ذلك ولا حرج .. كيف أتته الجرأة في أن يفكر في ذلك أو أن يخطر له مجرد خاطر ؟ أيحسب أنني يمكن أن اقبل غيره ؟ انه يزن عندي رجال الدنيا بأكملها , إن كل ما أريده أن أحيا معه حياة هادئة ككل الناس بعيدا عن المتاعب وطرقات زوار الليل ، أهذا كثير علي ؟ اعلم أننا علي الحق ، اعلم انه طريق واحد بل أنا علي يقين من ذلك يقيني بوجودي , ولكن ماذا يفعل مشعل واحد بين كل هذا الظلام الدامس ؟ مرت أيام قلائل ولكنها أيام عصيبة ورغم شظف العيش وقلة المال ومشقة السفر اشتقت إلي سماع كلماته ، الإحباط يكاد يقضي علي يقيني والوحدة تقتل الأمل بداخلي . قررت أن أعود لزيارته هناك فوجئ بسرعة عودتي للزيارة قلت له نحن وحدنا . من أضئنا لهم الطريق لا يبصرون أردنا لهم النجاة فقالوا إرهابي ومتطرف وعميل وأحيانا شيوعي . لم يتركوا تهمة إلا والصقوها بك ـ رسول الله كان وحده إلا من الله وهو كافيه وكذلك كل رسل الله ـ سنموت قبل أن يعرفوا الحقيقة ـ رسول الله بشر بالفتوحات ومات قبل أن يراها ـ الظلام أشد والطريق أكثر وعورة والقوم غير القوم والوحوش أكثر ضراوة ـ الظلام هو الظلام ، ظلام الجهل والرذيلة ، والطريق هو الطريق لم تتغير معالمه ولم تتبدل ، إنها سنة الله في الأرض والقوم هم القوم كل ما تغير هو لون الجلود أما القلوب فهي هي ، السيف أصبح مدفع والفرس صار دبابة ورمال الصحراء صارت سجونا ولها جدران ، الظلم هو الظلم وزان تعددت أشكاله إنما الحق واحد وله سبيل واحد فان حدنا خسرنا الدنيا والآخرة ونكون حينئذ جزءا من القطيع المساق ، وساعتها لن يشفع لنا عند الله أن الناس كلهم في ضلال . تعجبت من يأتي بهذه القوة وهو حبيس الجدران العالية والأبواب الحديدية ؟ من أين يأتي بهذا اليقين وهو ضعيف البنية قليل الحيلة . يا ويحي ، أنا الحرة الطليقة عجزت أن أكون في مثل يقينه . قلت له ألا تخشي أن يقتلوك ؟ قال في صلابة أكثر : بل مرحبا بالموت في سبيل الله انفتحت مغاليق قلبي لكلماته . تساقطت الدموع من عيني آخذة معها آثار الغشاوة الشيطانية ، بريق عينيه اخترق صدري وعقلي رأيت النور بعدما كنت اسمع عنه ، شعرت به يسري بداخلي وكأنني اغتسل من رجس الم بي . في طريق العودة تغيرت نظرتي للجميع إلي نظرة شفقة ورثاء , نعم أشفقت عليهم ، مساكين إنهم لا يرون النور ، الغشاوة الدنيوية تغشي قلوبهم وتحجب عنهم الرؤية مساكين حقا محرومين من اسمي شعور بالسعادة آه يا قلبي ؟ كيف لم تفطن وكيف لم تدرك كل هذا الخير أمامك ور تنهل منه الطريق أنت في بدايته فكيف لا تواصل المسير ، فتحت باب بيتي الموصد كما فتح قلبي ، فتحته في وجه كل من أراد أن يعرف النور الرباني . واصلن مسيرته عدت المريض وصلت رحمي المقطوعة كنت عونا لكل محتاج علي قدر استطاعتي ، كان حبيسا وكنت عينه الغاضة عن كل ما حرم الله وقدمه السائرة علي طريق الحق ويده الممتدة بكل خير ، كان مجاهدا داخل الأسوار وخارجها .. وفي يوم مات الزعيم . الزعيم الذي علا عندهم علي درجة الأنبياء وبلغ مرتبة الآلهة . انطقوا يا من جعلتموه إلها هل يموت الإله ؟ انطقوا يا من كنتم تهتفون بأرواحكم ودمائكم هل منكم من يجرؤ أن يوضع في قبره ؟ هل منكم من يرضي أن يحمل عنه شيئا من أوزاره ؟ أم إنكم الآن تكيلون له اللعنات وتهتفون باسم اله جديد ؟ مات الزعيم وولد بموته بعض الأمل في أن يري الحبيس شمس الحياة ... فقد جاء الزعيم الجديد وأمر بغلق المعتقلات إذن سيعود الغائب إلي عشه ، وها أنا ذي في انتظاره ، جاءني كل المحبين ، كل الأقارب ، امتلأ البيت عن آخره مستعدين للقاء الحبيب العائد عيناي لا تكفان عن النظر هنا وهناك ، من الباب تارة ومن النافذة تارة ، يكاد يغشي علي من شدة الإعياء والاضطراب ، اسمع الأغاريد فك اسر الحبيس ، فتحت الأبواب الحديدية ، انه يصعد درجات السلم يدخل من الباب المفتوح ، اسقط من الفرحة ، الكل يهنئ ويبارك , قال لهم بوجه باسم : أنا هنا في مجرد زيارة فسأعود حين تجعلون الزعيم الجديد إلها آخر . انصرف الجميع وبقينا معا . ذهب ليغلق الباب قلت له لا . إن بابنا لا يغلق ، فهو مفتوح لكل من أراد أن يري النور ...