هذه المقالة لم أكتبها ولكنني أنقلها لكم من موقع سوريا وبس؛ لإحساسي بأهميتها.. إنها بعنوان ثائر سوري نظرة من الداخل. وفي الواقع هي إجابة عن أسئلة الكثيرين: لماذا تأخر النصر؟ وربما ستجدون الجواب في هذه المقالة، وعلقت عليها بقولي:
خلق الإنسان بكلمة كن فيكون.. وصناعة الرجال تحتاج زمنًا، وهذا التدرج هو الذي حوَّل الكثيرين من التيه إلى الإيمان بالله, الإيمان بقضية, الإيمان بمبدأ, الإيمان بأن لا شيء مستحيلاً مع الإرادة والتصميم والعزم، نفض الركام يحتاج زمنًا، ولطالما رقدنا تحت الركام.. صحيح أن الثمن باهظ؛ فذلك لأن البضاعة غالية، وأملي فيمن يقرأ هذه المقالة أن يوصِّلها؛ لأنها ربما ستدفع الكثيرين لنفض الغبار، والنهوض من تحت الركام.
وأنا لا أعرف اسم الكاتب إلا أنه ثائر سوري وإليكم المقالة:
ثائر سوري .. نظرة من الداخل
بسم الله الرحمن الرحيم
سوريا اليوم هي شغل العالم الشاغل، الكل يتحدث عنها، كثرت المقالات والمواضيع المتعلقة بها، لكن قليلاً من تلك المقالات سلط الضوء علينا، نحن الثوار.
ترددت كثيرًا قبل أن أكتب هذا المقال، ولكنني اليوم أهديه إلى كل متسائل عن ماهية هؤلاء.. عن حقيقتهم، كيف تبدو الأمور من منظارهم، كيف يفكرون، وكيف يتعاملون مع واقعهم المؤلم.
سأروي لكم قصتي وتجربتي مع الثورة، وللعلم فهي تشابه قصص كثيرٍ من شبان بلادي.
قبل حوالي عام من اليوم -أي قبل اندلاع الثورة بقليل- كنت مجرد مراهق معتوه، فارغ من كل شيء، همُّهُ تسريحة شعره وبنطاله الجديد، يهيم على وجهه في شوارع دمشق التي غزاها أهل من غير أهلها؛ بحثًا عن فتاة جميلة يعاكسها. كنت مجرد نكرة.. تافه إلى حد التفاهة.. مجرَّدٌ من أي هوية أو انتماء.
أذكر أن أحدهم سألني يومًا: "من أنت؟ مع من تصنف نفسك؟" فلم أعرف بماذا أجيب. لم أستطع تصنيف نفسي كمسلم؛ لأنني كنت أخجل من كوني مسلمًا آنذاك، كما لم أصنف نفسي كسوريّ؛ فالسوريون كانوا في نظري مجموعة من الحثالة المتخلفين، ومكاني ليس بينهم.
مرت الأيام وأنا على حالي الذي طالما كنت عليه.. إلى أن أضاء نور في حياتي غيَّرها إلى الأبد.. نعم، إنها الثورة.
كان نصر الشعب التونسي مفاجأة كبرى لم يكن ليحلم بها أحد، وحين انتقلت العاصفة إلى مصر.. كنت هناك مع أبنائها بقلبي وروحي وعقلي. كنت أنام وأفيق على أخبار مصر، وأدعو لهم من كل قلبي بالتوفيق والحماية.
الكل مترقب وحذر.. الكل مرتبك ومتيقظ.. الكل يهمس وبأخفض الأصوات.. هل يمكن أن تقوم ثورة في سوريا؟
لم يكن أحد يجرؤ على مجرد التفكير في الموضوع، فقد ربانا أهلنا على قتل كل فكرة يمكن أن تردَ في بالنا عن النظام.. لم أكن حينها أجرؤ على ذكر اسم "بشار" أمام أحد. لماذا؟!
الحقيقة هي أنني لم أملك إجابة على هذا السؤال، لا أعلم لِمَ يجب عليَّ ألا آتي بذكر اسمه، أو اسم أحد من المسئولين الكبار! لا أعلم لِم يتوجب عليَّ أن أخاف منه ومن أتباعه.. لا أعلم لم يحرم عليَّ مجرد ذكر كلمة "مخابرات".. لا أعلم أي شيء! كل ما أعرفه هو أن ذكر رموز النظام على الألسن كبيرة من الكبائر، وأن مرتكبها سيختفي من على وجه الأرض.
يمكنكم تشبيه الموضوع بـ"فولدمورت" في قصة هاري بوتر.. فالنظام كان المعبودَ الحقيقي في البلاد من دون الله.. أقولها وبجرأة: إن كنا مشركين بالله، فمن خشي الله حق الخشية ما خشي غيره!!
بدأت بذور الثورة تنتشي في المجتمع السوري، وإن كان ذلك متمثلاً بكلام مرمّز مشفَّر، فالناس شبه متيقنة أن الربيع العربي سيزهر في كل بلدان العرب إلا سوريا. ولكن الصاعقة والمعجزة الكبرى حدثت.. مظاهرة في الحريقة قرب سوق الحميدية في دمشق، تزامن هذا كله مع أحداث درعا التي بات العالم بأسره يعرفها.. وأصبح هذا الموضوع الحديث الوحيد لأهل سوريا قاطبة.
أكثر ما شدّ انتباهي وسط هذه المعمعة ما هتفت به حناجر المتظاهرين في الحريقة.. الهتاف الأول الذي استقت منه كل العبارات، وبات رمز الثورة السورية: الشعب السوري ما بينذلّ!!
نعم.. إنها الحلقة المفقودة.. إنها الغاية المنشودة.. إنها الكرامة، لا كرامة إلا في السجود لله وحده، ومن دونها نكون عبيدًا للنظام من دون الله. ثورتنا قبل أن تكون "ثورة الحرية" كما يخطئ الكثيرون.. هي "ثورة الكرامة". ولطالما عبر الثوار عن هذه المعاني بهتافاتهم الشهيرة: "الموت ولا المذلة"، "وهيه ويللا، وما منركع إلا للـه".
يصعب كثيرًا أن أروي كل شيء.. فأحد عشر شهرًا تهدُّ الجبال يصعب حصرها في بضعة أسطر..
إن ذلك المراهق الضائع قد تغير إلى الأبد، فما عشته حفر فيَّ آثارًا لا يمكن للأيام أن تمحوها..!
أن ترى بأم عينيك شخصًا فُجِّر دماغه.. أن ترى طفلاً بترت ساقه.. أن تتنزه أربع دبابات في الساحة أسفل مبنى سكنك.. أن تنزل قذيفة مدفعية تدكُّ دار جارك.. أن تجري معركة حقيقية فيها قنابل ورصاص ودبابات في الحي الذي تقطن فيه.. أن يستهدفك أحد برصاص رشاش من مسافة عشرين مترًا، ثم تنجو بأعجوبة.. أن يُضرب أمامك شخص حتى الموت فقط؛ لأنه صرخ "الله أكبر".. أن ينصبَّ الرصاص فوق رأسك وبالقرب منك فقط لأنك ممسك بكاميرا توثِّق إجرام النظام.. أن تختبئ ساعات من الليل في مبنى مهجور؛ كي لا يمسكك رجال الأمن.. أن تشتبك بيديك العاريتين مع مجرمين يملكون الأسلحة دفاعًا عن بضع فتيات.. أن تعيش كل ذلك وأكثر منه بكثير، ثم ينجيك الله منه.. لا بُدَّ أنك ستتغير.
كل ما سردته لكم تعرفونه مسبقًا.. ولكن كيف هي نفسيَّة الثائر من الداخل؟ كيف تبدو الأمور من منظاره؟ تعالوا نبدأ القصة من بدايتها.
فلسطين.. إنها كل شيء بالنسبة لنا. لا أستطيع أن أرى ثورتنا إلا امتدادًا للقضية الفلسطينية. أراها تشبه الانتفاضة الفلسطينية أكثر مما تشبه أيًّا من ثورات العرب. ونصر الثورة الحقيقي ليس في سقوط النظام، فلا نصر قبل أن تدكَّ جيوشنا مستوطنات الصهاينة.
الثائرُ الفلسطيني كان دومًا الرمز الأوحد للمقاومة في نظري، ولطالما تركت قصص غسان كنفاني وأمثالها انطباعات عميقة في نفسي، لكنني لم أتخيل يومًا أن أعيش واحدة من هذه القصص. لطالما أبهرتني صور شبان فلسطين وهم يواجهون الرصاص بصدور عارية وأيدٍ مليئة بالحجارة.. كيف يستطيع هؤلاء فعل هذا؟ ألا يرهبهم صوت الرصاص؟ ألا يهابون الموت؟ كيف يمكن لأحدهم أن يخرج ليشارك في مظاهرة وهو يعلم علم اليقين أنه قد لا يعود إلى منزله؟ لم يواظب الفلسطينيون على رفع أيديهم بالإشارة الشهيرة "النصر أو الشهادة"؟ لا بد أنهم يشعرون بشعور خاص حينما يؤدونها.. وقفت أمام المرآة كثيرًا مؤديًا تلك الحركة، لكنني لم أشعر بشيء.. ما السر إذن؟!
لم يكن لأحد أن يصدق -ولا حتى أنا- أن الفتى المدلل سيقف يومًا في نفس الموقف متحديًا رصاص الأعداء.. والغريب أنه لم يشعر بالخوف مطلقًا! الآن فهمت كل شيء.
إنها قوَّة يمنحها الله لعباده، قوة الإيمان.. إنها شيء من خارج هذه الدنيا.. شيء تحس به يجري في عروقك.. عزة وفخر وتحدّ لا مثيل لهم.. برغم ضعفك الظاهر تكون الأقوى.. برغم قوتهم يخافون من ظلالهم.
قد لا يروق كلامي التالي للكثيرين، ولكن ثورتنا أكبر بكثير من مجرد مطالبة بإصلاحات أو حتى إسقاط نظام، ثورتنا معركة بين الكفر والإسلام، هي معركة بين "الله أكبر" وبين "بشار وبس"!!
قُصفت المساجد، حُرقت المصاحف، هتكت الأعراض، سفحت الدماء بأيدي مجرمين قتلة لا ملّة لهم ولا دين. وإن كان النظام الحاقد يقتلنا بطائفية مقيتة، فإننا لم ولن نرد يومًا بالمثل؛ فديننا الحنيف يأمرنا بقتال من يقاتلنا، لا قتال أبناء طائفته أو دينه. وليس كلامي هذا إنكارًا لدور غير المسلمين في الثورة أو انتقاصًا لهم؛ فثورتنا ثورة شعبية وطنية، ولست بحاجة لإيراد الحجج والبراهين على ذلك، فالكون بأسره شاهد على الثورة وأخلاقها.
لما كنت طفلاً سمعت الروايات عن غزوات المسلمين ومعاركهم.. وسمعت بسلاح أسطوري يُسمَّى "الله أكبر"، إلا أنني لم أفهم ذلك تمامًا، فكيف يمكن لكلمة أن تهز عدوًّا أو ترعبه؟!
لكم الخيار في التصديق من عدمه.. إن أقوى سلاح يستخدمه الثوار هو التكبير. شاهدوا حمص الآن وهي تقصف، واسمعوا مآذنها تصدح بالتكبير. شاهدوا مظاهراتنا واستمعوا إلى أول كلمة فيها.. إن أول كلمة نبدؤها إعلانًا للمظاهرة هي "الله أكبر"..
كلما هاجمنا النظام بمجرميه جابهناهم بالتكبير.. وما أقواه من سلاح!
رأيت بعينيّ شبيحة مسلحين بالعتاد الكامل يهربون منَّا نحن العُزَّل لما سمعوا "الله أكبر".. وسمعت قصصًا عن ضباط في الأمن ناشدوا الأهالي بعدم التكبير.. قالوا لهم: قولوا أي شيء.. فلتلعنوا الرئيس وتسبوه كما شئتم.. اشتمونا كما شئتم، ولكن لا تقولوا: "الله أكبر"!!
"الله أكبر" باتت محور حياتي.. أكتبها على الجدران في الشوارع كيفما تحركت.. أصرخ بها من على سطح منزلي.. أصيح بها في الشوارع غير مبال بشيء.. فحينما تؤمن أن الله أكبر من كل شيء لن تخشى أحدًا إلا الله، ولن يرهبك رصاص العدا ولا مسالخ تعذيبه.
المتظاهر السوري ليس مجرد شخص يخرج ليصرخ ببضع كلمات أو ليدبك قليلاً ثم يعود إلى منزله.. المظاهرة معركة حقيقية والمشاركة فيها تقتصر على ذوي القلوب الحديدية. على الأقل أنا أتحدث عن مظاهرات العاصمة وريفها.
لك أن تتخيل نفسك سائرًا في مظاهرة في قلب قلعة النظام الأمنية (دمشق) بين بضع عشرات من أقرانك لتحاصركم جحافل تفوقكم عددًا ببضع مرات، وتطلق النار عليكم أو تهاجمكم بالسكاكين والخناجر، فتقتل من تقتل وتجرح من تجرح وتأسر من تأسر.. ومع ذلك لا يثنينا شيء عن إعادة الخروج، وتحدي النظام في عقر داره..!
كم من مرة خرجنا فيها قرب مقر قيادة شرطة العاصمة في الفحامة، وكم من مرة تحدينا الأمن في الميدان وكفرسوسة وركن الدين والصالحية والقدم وبرزة، وغيرها وغيرها من معاقل النظام الأمنية.. إن هذه التحدي لم يخلق أو يظهر فجأة، وإنما نَمَا مع الأيام.. نما مع نمو الإيمان بالله العليِّ العظيم.
يخرج الثائر غير آبهٍ بكل الحشود العسكرية؛ لأنه مؤمن أن قضاء الله لا رادَّ له، موقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.. مؤمن أن خروجه جهاد في سبيل الله، وموته شهادة بإذنه سبحانه.
نعم تغيرت إلى الأبد، ما عدت ذلك التائه؛ فهدفي اليوم واحد وهو النضال حتى النصر. ما عدت ذلك الجبان.. فاليوم أؤمن حق الإيمان بقضاء الله وقدره، وأمضي راجيًا من الله بكل إخلاص أن يرزقني الشهادة. ما عدت ذلك المتقاعس.. فاليوم أهبُّ لنجدة إخواني، وإن كنت لا أعرفهم. ما عدت ذلك المشرد بلا هويَّة..
اليوم أدرك من أنا..
أنا مؤمن بالله..
أنا ثائر سوري.