منتدى قصة الإسلام

منتدى قصة الإسلام (http://forum.islamstory.com//index.php)
-   خواطر وأدب (http://forum.islamstory.com//forumdisplay.php?f=68)
-   -   استراتيجية الكتابة: انتزاع الموضوع (http://forum.islamstory.com//showthread.php?t=36587)

فوزية محمد 12-04-2012 08:15 AM

استراتيجية الكتابة: انتزاع الموضوع
 
استراتيجية الكتابة: انتزاع الموضوع



مع أن ذواتنا أقرب إلى وعينا وإدراكنا وعلمنا من حبل الوريد، فإن انتزاع الموضوعات منها أشق.

وفي العادة فإننا نحكي كثيرا وفي كل حين عن تقلبات أحوال المناخ من حولنا، وعن الغلاء في أسواقنا، وعن حوادث السير على طرقاتنا، وحتى عن ما يجري بعيدا عنا أو في الجوار من كوارث وزلازل ومجاعات وفيضانات وعن كل شيء وحتى عن الفراغ، ولكننا قلما نتحدث عن أحوالنا ولا عن تلك الرجات الخفيفة أو القوية التي تعتمل في داخلنا كبركان خامل، مع أنه متقلب في داخله ومشتعل…

إننا دائما نفضل أن يكون وقع الأحداث والخطوب والأتراح على غيرنا لا علينا، حتى أن كل دول العالم المهددة في خبزها وأمنها ومناخها قد تعلمت أخيرا الدرس وبدأت تنشئ عند كل فاجعة لجنا للطوارئ ووزارات لتدبير الأزمات والنكبات، وكذلك الكلامُ نفضله دوما أن يكون لنا لا علينا، كما في الدعاء المأثور عند هطول المطر الغزير:( اللهم حوالَينا ولا علينا..) وذلك في حديث أخرجه البخاري في باب الاستسقاء.

لقد تعودنا أن نقف في طابور الحياة ونأخذ ما نحتاجه من شُبًَاكها أو نقتات بما تساقط من عيون شِباكها ثم نمضي في حال سبيلنا لنعيش بسلام ولننام وننام حتى نموت وينقطع حِسنا من غير أن نترك أثرا يترتب عليه ألم أو ندم…

لكي تنصت إلى صوتك عليك أن تسكت في داخلك صوت الناس وصوت نشرات الأخبار والطقس وثرثرة المسلسلات الطويلة والأشرطة الصاخبة وأزيز السيارات …. وحتى صوت ذبابة حمقاء تبحث عن حتفها عندما تخترق جدار سمعك الصوتي في حالة استرخاء أو صمت نادر، فتنهض لها بمبيد حشرات رشاش نهضة مفجوع أو موجوع، انتقاما وتعويضا عن الإزعاج الخاطف وبعض الراحة المفقودة…

وحين تنطفئ أضواء الناس في داخلك تلوح أضواؤك متسربلة بألوان قزح الصافية في سماء جمجمتك الصغيرة، حيث تتشابك موضوعاتك وموضوعات الناس والكون، وحيث يمكن إعادة ترتيب كل الأشياء كأنها لم تكن من قبل أو كأنها ولدت من جديد.

ليست هناك عدسة تصوير أدق من مخيلة، ولا آلة أبرع من يد، وكل حدود الكون الفسيح في القرب والبعد والطول والعرض تقع بين طرفيهما.

واللحظة الأولى عند الإمساك بالقلم لانتزاع الموضوعات وصناعة الأفكار هي الأصعب، والخطوة الأولى لاكتشاف العالم عند تعلم أبجديات الحبو والوقوف والمشي هي الأبطأ. ولا يخلو الأمر من رهبة وحيرة، ومن خطأ أو خطر سواء عند انفجار بركان من جوف الأرض أو انطلاق صاروخ منصوب على منصة أو انبعاث فكرة من جمجمة آدمية بحجم بطيخة، لكن لا قعر لها ولا قرار…

والكتابة عن موضوعاتنا أو موضوعات غيرنا أو موضوعات الكون من حولنا، شهادة إثبات على أنها كانت موجودة ومركونة في حيز أو زاوية، والعالم منذ أن كان هو هو وإنما أسماؤه ونعوته وصفاته هي التي تتغير وتتجدد بالنسبة إلى ما هو معلوم منها سابقا، وحتى أسماء الأشياء الجديدة سرعان ما تذبل أمام أنظارنا بسرعة عندما نمل أو نضجر.

وسيبقى حالنا على هذه الأرض كما هو، وحال الأشياء فيها سيبقى مترددا بين قديم وجديد، وقديم جديد، وجديد قديم، تماما كعروض الأزياء النسائية والرجالية، ومعارض السيارات وأجهزة الاتصال وأروقة الكتب الورقية والإلكترونية ….إلى أن يستقدم الآدميون من الكواكب البعيدة معادن أخرى غير المعادن، وماء غير الماء وهواء غير الهواء وترابا غير التراب ونساء غير النساء ورجالا غير الرجال وألوانا غير الألوان، وكلاما غير الكلام، وحروفا غير الحروف…

وفي هذا العقد الجديد من ألفيتنا الثالثة كم واحد منا غير هاتفه النقال وباقي الأجهزة الإلكترونية..!؟. وحتى التلفزيون القديم الذي تربع على عرش غرف الجلوس والاستقبال ردحا من الزمن في بيوتنا قد استحال إلى برواز لوحة جدارية مشعة بالألوان النقية ثلاثية الأبعاد وبالأصوات المجسمة…. لكن فكرة التلفزيون كفكرة ووظيفة وطريقة للتواصل بقيت على حالها… إلى أن يخترع الأدميون عيونا غير العيون وآذانا غير الآذان وألسنة غير الألسنة. وإلى أن يحين ذلك الوقت سيبقى كل ما على أرضنا مما هو مصنوع أو مطبوع امتداد لذات الإنسان وكيانه المحدود بضائقة الزمان وذات اليد وبضيق المكان…

و من كان ينقش بالأمس البعيد حروفه بالإزميل على حجر، هو من كان ينقش حروفه بالأمس القريب على سجل أو دفتر، وهو من يرقن اليوم حروفه المنسدلة على مسطح زجاجي مشع لكن فقط بلمس مجسات إلكترونية ارتعاشية.

ومع أن الكتابة أثر باق وشهادة إثبات على كل الموضوعات التي ننتزعها من ذاتنا ومن غيرنا ومن عموم الحياة، فإن المحو فيها أكثر، وهذا ما يجعل الكتاب مختلفين عندما يطلب منهم أن يكتبوا في موضوع واحد؛ فالاختلاف يقع فقط في ما يثبته هذا ويمحوه الآخر، فيما يستحضره هذا ويغيب عن ذاك.

وفعل المحو والإثبات هو ديدن سائر الفنانين والمبدعين: فلوحة الرسام مثلا إنما هي بقية ألوان لم تستعمل، ومنحوتة النحات الحجرية هي بقية ما تساقط من قطعة الحجر بعمليات الحفر والنقر والصقل حتى تستوي على هيأة وجه أو شكل أو حركة.

ولذلك تجد الصائغ يفرش تحت مصوغاته عند القطع والخراطة والتلحيم منديلا أو لوحا زجاجيا نقيا حتى يجمع ما تساقط وما تناثر من جزيئات الذهب والفضة والماس ليعيدها إلى دورة إنتاج أخرى عندما تبرق أمامه فكرة جديدة. وفي هذه الأيام بدأت تعمل كثير من مصانع العالم وأوراشه على تدبير النفايات الطبيعية والصناعية….

ونحن أيضا عندما ندون أو نكتب قد يتساقط من حروفنا وكلماتنا قدر كبير لا يصل إلى القارئ بعمليات التنقيح والتحكيك والمراجعة. وأنا أجزم في نهاية هذا الإدراج بأن ما تساقط من حروفه أكثر مما بقي منها، حتى استوى على هذا النحو.

لا يهدأ بال الكاتب المفتون بسحر الكلام حتى يسكن كل حرف من حروفه إلى جاره، ويستقر في مكانه استقرار الجالس المستريح. وعندما ينهي موضوعاته ويرسلها على الشبكة أو ينشرها تصبح ورقة في شجرة المعرفة الإنسانية، فإما أن تثبت بقوة في أغصانها، وإما أن تسقطها الرياح.

عبد اللطيف المصدق


الساعة الآن 05:04 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.3.0 , Designed & TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لمنتدى قصة الإسلام