<h1 dir="rtl" align="right">اعلم علم اليقين ان هذا الموضوع ليس هذا مكانه ولكنى اضفته كى اوقظ الهمم وانفض غبار الكسل والتواكل من عقولنا فهذه المراة ليست مسلمة ولا تؤمن بالله وجزاؤها فى الدنيا فقط اما نحن المسلمين فلنا اجر فى الدنيا وفى الآخرة فلماذا نتكاسل عن العمل
</h1>قصة حياة العالمة الدكتورة مارى كورى (مدام كورى)
ولدت ماريا سكلودوفسكا فى مدينة وارسو عاصمة بولندا فى سنة 1867. وكان أبوها يعمل مدرسا فى إحدى مدارس البنين. وكانت أمها ناظرة لإحدى مدارس البنات.
وكان هذان الوالدان من طراز خاص. ولحسن حظ أبنائهما أنهم نشأوا تحت رعاية هذين الأبوين.. فى بيت يملؤه الحب العائلى وحب الكتب والدراسة.
كانت الأسرة بولندية.. ونشأت ماريا منذ طفولتها على حب وطنها بولندا.. وكانت مثل هذه المشاعر الوطنية محرمة على البولنديين فى ذلك الزمن.. لأن روسيا كانت تحتل آنئذ جزءا كبيرا من الأراضى البولندية، وكان قيصر روسيا يعامل البولنديين بمنتهى العنف والقهر، وأصدر أوامره بأن تحل اللغة الروسية محل اللغة البولندية. وحرم على المدرسين تعليم اللغة البولندية فى المدارس كما حرم عليهم تدريس تاريخ بولندا.
وظلت ماريا طوال عمرها تذكر تلك القصة التى حدثت فى الفصل المدرسى أثناء طفولتها..
كانت البنات الصغيرات جالسات على مقاعدهن بحجرة الدراسة، ينصتن بشغف إلى درس فى تاريخ بولندا، يلقيه عليهن المدرس باللغة البولندية. وكانت السلطات الروسية قد حرمت تدريس هذا التاريخ وتلك اللغة.
وفجأة دق الجرس.. دقتين طويلتين أعقبتهما دقتان قصيرتان.. وكانت هذه هى الإشارة المتفق عليها.. أن يدق حارس بوابة المدرسة الجرس بتلك الطريقة لينبه المدرسين بأن هناك شخصا قادما فى طريقه إلى المدرسة.
وبسرعة شديدة جمعت كتب التاريخ الخطرة وأخفيت فى مكان آمن، وأخرجت البنات أدوات الخياطة، وتظاهرن بأنهن يتعلمن طرق الخياطة الصحيحة.
وفتح باب حجرة الدراسة.. ودخل موظف حكومى كبير فخور بنفسه ويمشى بخيلاء بين صفوف المقاعد.. وطلب الموظف أن تتقدم واحدة من البنات الصغيرات لتجيب عن بعض أسئلة يريد إلقاءها.
عندئذ تقدمت ماريا وأعلنت استعدادها للإجابة، برغم أنها كانت أصغر بنات الفصل سنا، ويقل عمرها بنحو سنتين عن عمر أية بنت أخرى. كما كانت أكثر البنات إجادة للغة الروسية.
قال الموظف بصوت مرتفع:
- رددى صلاتك..
فرددت ماريا صلاة قصيرة باللغة الروسية.. وواصل الموظف الكبير أسئلته للبنت الصغيرة:
- والآن.. ما اسم قيصر روسيا المقدسة.. ومن هم أعضاء عائلة القيصر.. وما هى ألقابهم.. ومن الذى يحكم هذه البلاد الآن..؟!
وأجابت ماريا على كل هذه الأسئلة بإجابات سريعة وصحيحة.. جعلت الموظف الكبير يغادر حجرة الدراسة راضيا مسرورا.
وعندئذ ناداها المدرس:
- تعالى يا صغيرتى العزيزة..
فتقدمت ماريا إلى المدرس الذى ربت على ظهرها وقبلها.. فانهمرت الدموع من عينيها..!
وحين بلغت ماريا العاشرة من عمرها، ماتت أمها الحنون، فكانت صدمة شديدة وقعت عليها وعلى الأسرة كلها.. الأب.. والأختين.. والأخ الصغير.
وبذلت الأخت الكبرى برونيا قصارى جهدها لتحل محل الأم فى خدمة الأسرة ورعايتها واحاطتها بالحب والحنان المفتقد بموت الأم. ومع ذلك فقد امتلأ قلب ماريا بالحزن العميق لموت أمها وموت إحدى أخواتها من قبل.. ولم تفهم من معنى الموت فى تلك السن المبكرة إلا أنه حادث محزن رهيب يخطف أحبابها.
ودفنت ماريا الصغيرة جميع هذه الأحزان فى الانغماس فى دروسها.. وكانت تتميز بميزتين ظهرتا بشكل واضح لكل أعضاء أسرتها ولكل مدرسيها وزملائها فى المدرسة.
الميزة الأولى أنها كانت تفهم جميع دروسها بمنتهى السهولة، وكانت تتمتع بذاكرة قوية جدا، فبمجرد قراءة قصيدة من الشعر مرتين فقط، كانت القصيدة مهما كانت طويلة، تنطبع فى ذاكرتها بحيث تتمكن من تلاوتها غيبا بعد ذلك، دون أن ترتكب غلطة واحدة. لدرجة أن بعض زميلاتها فى المدرسة كن يعتقدن أنها كانت تحفظ كل هذه القصائد سرا.
والميزة الثانية أنها حين كانت تنغمس فى قراءة أحد الكتب، كانت تنصرف بكل كيانها لمتابعة القراءة فى هذا الكتاب، ولا تشعر بأى شخص أو شىء آخر جوارها، بل ولا تشعر أيضا بأية ضجة بجانبها مهما كانت مرتفعة..
وفى إحدى المرات، بينما كانت ماريا منهمكة فى قراءة أحد الكتب، وهى جالسة إلى منضدة كبيرة بالبيت، كان هناك ضجة كبيرة يصنعها اخوتها الذين كانوا يلعبون ويصيحون بأصوات عالية. ومع ذلك فلم ترفع ماريا عينيها عن صفحات الكتاب لحظة واحدة، وكأنها لا تسمع هذه الأصوات على الإطلاق.
وأرادوا أن يعاكسوها معاكسة بريئة، فأحاطوها بكراسى البيت من كل جانب.. على يمينها وعلى يسارها وفوق رأسها.. كل هذا وهى لا تدرى شيئا عما يصنعونه حولها بسبب شدة انهماكها فى القراءة وانصرافها تماما عن كل ما حولها.. وظل الوضع على ذلك حتى انتهت ماريا من القراءة وطوت الكتاب وقامت من مقعدها.. وفجأة: بوم!.. ارتطمت رأسها بالكراسى، وسقطت كل كومة الكراسى التى كانت تحيط بها.. فانفجر الجميع ضاحكين فيما عداها..
وحين بلغت سن السابعة عشرة.. كان أبوها لا يكسب من مهنته ما يفى بتكاليف الأسرة على نحو طيب معقول.. لذلك فقد اضطرت ماريا أن تقوم بإعطاء الدروس الخصوصية لتلميذات المدارس لكى تكسب ما تساعد به أسرتها..
ولم يكن هذا العمل سهلا ولا هينا.. فقد كان عليها فى معظم الأحيان أن تذهب إلى بيوت تلك التلميذات فى مختلف أنحاء وارسو.. مخترقة الكثير من الشوارع برغم البرد الشديد أو هطول الثلج أو المطر.. و فى بعض الأحيان كانت تتعرض للمعاملة الجافة من جانب بعض الأمهات الثريات.. فقد كان بعضهن يقلن لإحدى خادمات المنزل: "قولى للآنسة ماريا سكلودوفسكا أن تنتظر.. فابنتى ستقابلها بعد نحو ربع ساعة!".. كما كانت بعض الأمهات تنسى أن تمنحها أجرها الشهرى، وتجعلها تنتظر هذه النقود التى تحتاجها الأسرة أشد الاحتياج.
وبعد أن أنهت ماريا دراستها المدرسية، أرادت أن تواصل تعليمها فى الجامعة العائمة.. وهى جامعة على شكل تنظيم سرى، مكونة من فريق كبير من الشبان والشابات الذين كانوا يرغبون فى مواصلة التعليم العالى بعد انتهاء التعليم المدرسى.
وكان هؤلاء الشباب يلتقون سرا فى أماكن مختلفة وفى أوقات مختلفة للاستماع إلى المحاضرات التى يلقيها عليهم الأساتذة المتخصصون. وكانت مثل هذه الاجتماعات محرمة تحريما قاطعا بأوامر من السلطات الروسية، بحيث إذا تم ضبط أحد هذه الاجتماعات الدراسية، كان يوضع الجميع فى السجن.. الطلبة والمدرسون معا.
وكان من أعظم أهداف هذه الجامعة العائمة أن الطلبة والطالبات الذين كانوا يتعلمون فيها، كان عليهم فى نفس الوقت أن يضموا إليهم مزيدا من الطلبة والطالبات الآخرين، ويقومون بتعليمهم ما تلقوه من دروس ومحاضرات. وبذلك تتسع القاعدة العريضة من الشباب الراغب فى خدمة مستقبل وطنه بولندا..
وكانت ماريا تحب أختها الكبرى برونيا وتحترمها احتراما شديدا.. وتتمنى من أعماقها أن تعاون هذه الأخت الحنون فى تحقيق أملها الكبير، وهو أن تسافر إلى باريس لتدرس الطب وتصبح دكتورة لتضع نفسها فى خدمة الشعب البولندى.
ولكى تساعد ماريا أختها فى تحقيق هذا الأمل، وضعت خطة تتسم بالذكاء.. وحتى يتم تنفيذ هذه الخطة بنجاح، أجلت ماريا البدء فى تحقيق طموحها الشخصى، وهى أن تذهب هى الأخرى إلى باريس لتكملة تعليمها العالى.
ففى يوم ما، قالت ماريا لأختها:
- برونيا.. لقد فكرت كثيرا فى أمرك.. وفكر أبى معى أيضا.. واعتقد أنى وجدت لك طريقة تستطيعين بها تحقيق أملك!
فقالت الأخت فى دهشة:
- طريقة ؟.. أية طريقة تلك!؟
- قولى لى أولا.. إذا سافرت إلى باريس.. فكم شهرا تستطيعين أن تعتمدى على ما ادخرته من نقود.. !؟
- لقد ادخرت قيمة أجرة السفر إلى باريس.. ومبلغا آخر يكفينى لمدة سنة.. ولكنك تعلمين أن دراسة الطب تستغرق خمس سنوات كاملة..
- نعم يا برونيا.. إنى أعرف ذلك. ولهذا فإننا نستطيع أن نتعاون معا ليساعد كل منا الشخص الآخر بالتناوب.. إننا إذا لم نعمل معا، فلن نستطيع، لا أنا ولا أنت، أن نحقق أهدافنا وطموحاتنا.. بل ولن نستطيع حتى أن نغادر وارسو.. أما إذا اقتنعت بخطتى فانك تستطيعين أن تسافرى إلى باريس فى هذا الخريف!
فصاحت برونيا مندهشة:
- ماريا.. هل جننت..!؟
فأجابت ماريا بثقة:
- الأمر بسيط يا برونيا.. ستذهبين إلى باريس.. وتبدئين دراستك.. وقبل أن تنتهى نقودك، سأكون أنا قد دبرت لك بعض النقود وسيقوم أبى أيضا بتدبير مبلغ آخر.. وسنقوم بإرسال هذه النقود إليك فى باريس لمواصلة دراستك.. وقد تعاهدت مع أبى على أن نرسل لك ما يمكنك من مواصلة الدراسة بين حين وآخر.. وبعد أن تنتهى من دراسة الطب وتصبحين طبيبة.. سيحل دورى.. وسأذهب أنا إلى باريس لأبدأ دراستى.. على أن تقومى أنت بإرسال النقود التى ستساعدنى على مواصلة الدراسة!
واغرورقت عينا برونيا بالدموع عند سماعها هذا العرض الكريم من أختها.. ولكنها سألتها:
- ولكن من أين ستحصلين على هذه النقود التى ستساعديننى بها، والتى يمكنك أيضا أن تدخرى جزءا منها لنفسك..
فقالت ماريا ببساطة:
- سأعمل مربية أطفال لدى إحدى العائلات.. وبذلك سأوفر تكاليف الطعام والمأوى.. وأستطيع أن احتفظ بكل أجرى.. واعتقد أن ذلك يكفى لتنفيذ خطتنا..
- ولكن لماذا أذهب أنا إلى باريس أولا؟.. يمكنك أن تذهبى أنت فى البداية وسأقوم أنا بمساعدتك طبقا لهذه الخطة..!
- لا يا برونيا.. انك الآن فى العشرين من عمرك.. أما أنا فمازلت فى السابعة عشرة.. وأنا على يقين من أنك عندما تصبحين طبيبة غنية.. فانك سوف تغرقيننى فى الذهب..!
وهكذا سافرت برونيا إلى باريس لتبدأ دراسة الطب فى خريف سنة 1885.. وفى نفس الوقت تقدمت ماريا إلى أحد مكاتب التوظيف والتشغيل لتبحث عن وظيفة مربية أطفال. وسألتها إحدى موظفات المكتب عن دراستها، والشهادات التى حصلت عليها، واللغات التى تستطيع التحدث بها.. ثم عادت ماريا بعد ذلك إلى بيتها. وأخذت تنتظر.
وبعد شهور قليلة، حصلت ماريا على وظيفة مربية أطفال فى أحد البيوت الكبيرة فى منطقة ريفية تبعد عن مدينة وارسو بنحو ستين ميلا (96,5 كم). وفى هذا البيت بدأت ماريا حياة جديدة حيث بدأت عملها فى رعاية فتاة صغيرة عمرها نحو عشر سنوات.
وبالرغم من أن عملها الجديد كان يستغرق معظم جهدها ووقتها، إلا أنها لم تنقطع عن قراءة الكتب.
وخلال إقامتها فى هذا البيت، حدثت واقعتان لابد من الإشارة إليهما.. أما الواقعة الأولى فهى أن ماريا برغم كل المشاكل والواجبات الملقاة على عاتقها، إلا أنها نذرت من وقتها ساعتين كل يوم كانت تقوم فيهما بتعليم مجموعة من الأطفال الفقراء من أبناء أهالى تلك المنطقة الريفية، مبادئ قراءة وكتابة اللغة البولندية.
وكان هؤلاء الأطفال من الصبيان والبنات الذين يتراوح عددهم بين عشرة وثمانية عشر طفلا.. وكانوا فقراء جدا، لا يعرفون النظافة، ولا يتمتعون بالذكاء. ولكنهم كانوا يرغبون فعلا فى التعلم..
وكانت ماريا تؤدى هذا العمل الإضافى بقدر كبير من المتعة والسعادة، خصوصا عندما كان أباء وأمهات هؤلاء الأطفال يعترفون بفضلها العظيم فى تعليم أبنائهم اللغة البولندية. وكادت ماريا أن تنسى تماما أن الشرطة لو علمت بأمر مدرستها الصغيرة، و قيامها بتعليم الأطفال تلك اللغة الممنوعة المحرمة، لكان مصيرها السجن والنفى إلى خارج بولندا..
أما الواقعة الثانية، فسوف نذكرها فيما يلى..
كان الابن الأكبر للأسرة التى تعمل ماريا فى بيتها، شابا يتلقى تعليمه فى وارسو.. وفى الإجازة المدرسية، عاد إلى بيت الأسرة، فوجد فى البيت شابة صغيرة جميلة تعمل مربية لأخته..
رآها أجمل وأفضل وأذكى من أية فتاة أخرى رآها من قبل.. فهى تستطيع أن ترقص فى رشاقة مجموعة من الرقصات الشعبية البولندية.. وتستطيع أن تلعب لعبات ذكية عديدة.. وتستطيع أن تقول الشعر بسهولة وعذوبة.. وتتمتع بذوق رفيع وأخلاق عالية.
وقع الشابان فى الحب.. وأراد الابن الأكبر أن يتوج حبه بالزواج من هذه الفتاة العظيمة.. وذهب إلى والديه ليستأذنهما فى هذا الزواج..
انفجر الأب غاضبا. أما الأم فقد أغمى عليها..!
كيف يتزوج ابنهما العزيز من مثل هذه الفتاة التى لا تملك شيئا على الإطلاق.. فتاة فقيرة اضطرت أن تعمل كمربية أطفال فى بيتهم بسبب فقرها وحاجتها إلى المال..
ولم يهتم الوالدان إطلاقا بأن الفتاة جميلة أو ذكية أو من أسرة طيبة، كما لم يهتما بأن الفتاة تتمتع فعلا بأخلاق حميدة.. كان اهتمامهما منصبا على استحالة أن يتزوج ابنهما العزيز من فتاة تعمل كمربية أطفال.
وكانت شخصية الابن ضعيفة فرضخ إلى قرار أبويه بعدم الموافقة على زواجه.. واضطر إلى أن يصرف النظر عن حبه وإلى تغيير رأيه.. وكانت هذه الصدمة جرحا عميقا لمشاعرها.
وفى تلك الفترة عرفت ماريا طعم الحزن.. وازدادت أحزانها أكثر حين علمت أن أخاها الأصغر قد غادر وارسو دون أن يكمل تعليمه المدرسى.. وفى أحد الخطابات التى أرسلتها إلى أخيها لتستحثه على العودة إلى وارسو ليتم تعليمه، نقرأ هذه السطور:
"لقد فقدت الأمل فى أن أكون شيئا فى حياتى المستقبلة.. وكل أملى منحصر الآن فيك أنت وفى أختى برونيا.. وسأبذل كل جهدى لكى أساعدكما فى بناء المستقبل..".
وواصلت عملها كمربية أطفال لتتمكن من إرسال نصف أجرها الشهرى إلى أختها التى تتعلم فى باريس.. ولتساعد أيضا أخاها لكى يواصل تعليمه.
وعملت ماريا كمربية أطفال لمدة ثلاث سنوات متوالية.. وكانت سنوات طويلة بالنسبة لها، لأنها كانت تشعر وكأنها فقدت الأمل فى مستقبلها. ولكن بعض الأحداث الصغيرة التى حدثت فى كل من وارسو وباريس غيرت مجرى حياتها.
ترك أبوها مهنة التدريس التى كانت تدر عليه دخلا متواضعا، والتحق بوظيفة أخرى تدر عليه دخلا أكبر. وأصبح بالتالى قادرا على إرسال مبلغ أكبر لابنته التى تتعلم الطب فى باريس، والتى أوشكت الآن على الانتهاء من دراستها التى استمرت خمس سنوات.
وغادرت ماريا المنطقة الريفية التى كانت تعمل فيها كمربية أطفال، وعادت لتعيش مع أبيها فى وارسو. والتحقت على الفور بالجامعة العائمة وبدأت دراستها "السرية" فى هذه الجامعة لعلوم الطبيعة.
وحين كانت تجرى التجارب العلمية فى تلك الدراسة السرية، شعرت ماريا بأن المستقبل قد بدأ يتفتح أمامها.. وأنها عثرت أخيرا على الخيط الذى يؤدى إلى بداية طريقها فى بحار العلم الواسعة.
وفى يوم ما استلمت خطابا مرسلا من أختها برونيا.. وكان الخطاب يحمل أخبارا سعيدة مفرحة. لقد تزوجت أختها برونيا، وأصبحت لا تحتاج أية نقود من ماريا أو من أبيها.. وبالإضافة إلى ذلك فان برونيا تدعوها للقدوم إلى باريس لكى تبدأ دراستها، وأن تعيش معها و مع زوجها حتى تنتهى برونيا من امتحاناتها النهائية وتحصل على شهادة الطب..!
احتارت ماريا فيما تفعله إزاء هذه الدعوة وهذه الظروف الجديدة.. ولكنها فى النهاية أحصت ما ادخرته من نقود.. وأعطاها والدها نقودا إضافية، وبدأت تستعد للذهاب إلى حيث سيتحدد مستقبلها..
وفى خريف عام 1891، بلغت ماريا سن الرابعة والعشرين.. وعلى رصيف القطار بمحطة السكك الحديدية الرئيسية فى وارسو.. وقفت ماريا لتقول وداعا لوالدها: "لن أتغيب عنك كثيرا.. مجرد عامين أو ثلاثة أعوام حتى أنتهى من دراستى وأجتاز امتحاناتى بنجاح.. وعندئذ سأعود إليك فورا.. ولن تفترق الأسرة بعد ذلك أبدا..!"
وقال الأب و الدموع تترقرق فى عينيه:
- نعم يا صغيرتى العزيزة.. عودى فورا بعد الانتهاء من دراستك.. وعليك أن تعملى بكل جهدك.. وأتمنى لك حظا سعيدا!
وركبت ماريا عربة صغيرة صندوقية الشكل ملحقة بآخر عربات القطار، لأنها لم تدفع إلا أجرا قليلا حتى تجد مقعدا غير مريح فى تلك العربة.
وانطلق بها القطار إلى باريس عبر ألمانيا.. باريس حيث توجد أختها برونيا.. وحيث ستحدد أهداف حياتها.. ولم تكن تعلم حين كان القطار منطلقا فى هذا الطريق الطويل، أنها كانت فى الوقت نفسه تعبر خارجة من فلول الظلام إلى الأضواء الساطعة.. وأنها بدأت الآن أولى خطواتها فى أن تصبح من النساء الشهيرات فى العالم!
وبعد أسابيع قليلة من وصولها إلى باريس أصبحت ماريا سكلودوفسكا.. تلك الفتاة البولندية التى ترتدى ملابس فقيرة.. طالبة علوم فى أشهر جامعة فرنسية.. وقيدتها الجامعة باسم مارى سكلودوفسكا.
لم تستطع مارى أن تواصل الحياة فى بيت أختها برونيا وزوجها.. فقد كان البيت يقع فى منطقة بعيدة عن الجامعة.. وكانت تضيع وقتا طويلا فى الذهاب والإياب، وهى التى كانت لا تريد أن تقضى دقيقة واحدة بعيدة عن كتبها ودراستها.
وهكذا استأجرت حجرة صغيرة فى أعلى بيت متواضع.. ولم يكن بتلك الحجرة إلا نافذة صغيرة بسقفها المائل يتسلل منها ضوء النهار.. ولم يكن فيها من الأثاث إلا سرير صغير، ومقعد واحد، ومنضدة، وحوض صغير للغسيل والاستحمام، وموقد صغير للطبخ، ومصباح صغير يضاء بالزيت.
ولم تكن تنفق من النقود إلا فى تسديد إيجار تلك الحجرة وشراء كل ما تحتاجه من الكتب ودفع مصاريف الدراسة. وظلت فترة طويلة لا ترتدى إلا الملابس المتواضعة التى جاءت بها من بولندا.
وانصرفت مارى بكل كيانها إلى العلم والدراسة، لدرجة كانت تبدو معها وكأنها فقدت إحساسها بالجوع أو إحساسها ببرد الشتاء!
وبالرغم من برودة ليالى الشتاء القارصة، كانت مارى لا تستطيع شراء بعض الفحم لتدفئة حجرتها.. بل وكانت تنسى فى أحيان كثيرة أن توقد الموقد الصغير لعله يوفر لها بعض الدفء.. وذلك لشدة انغماسها فى الدراسة والمذاكرة، ورغبة منها فى عدم تضييع ولو دقيقة واحدة بعيدة عن كتبها.
وكانت تواصل المذاكرة دون أن تشعر بأن أصابعها قد أوشكت على التجمد، وأن كتفيها ترتعشان من شدة البرد.. ربما كان بعض الحساء الساخن يمنحها بعضا من الدفء والقدرة على التحمل، ولكنها لا تعرف كيف تصنع الحساء.. بل وحتى إن كانت تعرف كيف تصنعه فانه سيكلفها نقودا هى فى أشد الحاجة إليها، فضلا عن أن إعداد الحساء سيتطلب وقتا تحتاجه لمواصلة الدراسة والمذاكرة.
وكانت تقضى أياما وأياما لا تتناول فيها من الطعام شيئا سوى قطع من الخبز والزبد وبعض أكواب الشاى.. وحين كانت تريد أم تقيم لنفسها وليمة، كانت تشترى بيضتين، أو بعض الحلوى أو الفاكهة..
وبطبيعة الحال، فان هذه المقادير القليلة البسيطة من الطعام، لم تكن تكفيها أو تساعدها على مواصلة جهودها المضنية التى كانت تبذلها فى الدراسة.. لذلك فقد أصيبت بالضعف والهزال.. وفى بعض الأحيان كانت تتماسك بصعوبة حتى تصل إلى سريرها الصغير وترتمى مغشيا عليها من شدة التعب.
وفى يوم ما، سقطت مارى مغشيا عليها أمام إحدى صديقاتها التى أسرعت بإبلاغ زوج أختها الذى كان يعمل طبيبا.. وانطلق الطبيب إلى مارى بأقصى سرعة لينقذها مما هى فيه.. وصعد درجات السلالم عدوا حتى وصل إلى تلك الغرفة العلوية الصغيرة التى ترقد فيها مارى وهى تعانى حالة من الإعياء بحيث أصبحت لا تقدر على الحركة.
نظر الطبيب حوله إلى محتويات الغرفة من الأثاث الفقير.. ولاحظ عدم وجود أي طعام أو أى شىء يؤكل، عدا باكو صغير من الشاى نصف ممتلئ.. فسألها وهو لا يكاد يصدق ما يرى:
- ماذا أكلت اليوم..؟
فقالت بصوت ضعيف:
- لا أدرى.. لقد أكلت شيئا منذ وقت مضى..!
- ما هو بالضبط.. ماذا أكلت بالضبط!
- إحدى ثمار الفاكهة.. و.. وأشياء أخرى!
وعاود زوج أختها الطبيب سؤالها مرة أخرى حتى عرف منها أنها لم تتناول من الطعام شيئا منذ مساء اليوم السابق إلا ثمرة فاكهة وقليلا من الخضروات غير المطبوخة.. وأنها ظلت تواصل العمل والمذاكرة حتى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، ولم تنم سوى أربع ساعات فقط، انطلقت على أثرها إلى الجامعة لسماع محاضراتها وأداء دروسها العملية.. وعندما عادت إلى حجرتها لم تجد فيها شيئا يؤكل.. ومع ذلك فقد بدأت فى مذاكرة دروسها إلى أن سقطت مغشيا عليها.
وانتقلت مارى إلى بيت أختها برونيا لتعيش معها بضعة أيام قليلة حتى تستعيد صحتها.. وتناولت هناك من الطعام ما يقيم أودها وما يحتاجه جسمها الهزيل من تغذية.
ولكنها كانت مع ذلك حزينة وغير سعيدة لانقطاعها عن المذاكرة والذهاب إلى الجامعة.. لذلك أصرت على العودة إلى حجرتها الصغيرة القريبة من الجامعة. وسرعان ما انغمست فى الدراسة مرة أخرى.
وبالرغم من كل هذا العناء الذى كانت تواجهه مارى فى حياتها فى تلك الفترة، إلا أنها كانت تشعر بالسعادة.. بل وكانت تقول أن فى إمكان كل إنسان أن يشعر بالسعادة حتى ولو لم يكن معه ما يحتاجه من نقود أو ما يكفيه من طعام..
كانت ترى أن السعادة كامنة فى الانغماس فى العمل.. و حين كانت تواصل عملها فى حجرتها المتواضعة الصغيرة طوال الليل.. كانت تنسى كل شىء إلا العلم، والعلم وحده.. وفى بعض الأحيان كانت تتصور نفسها زميلة لكبار العلماء الذين عاشوا فى الماضى.. والذين كانت تعرف عنهم أنهم كانوا مثلها.. منصرفين إلى العلم بكل كيانهم.. وأنهم كانوا أيضا منفصلين عما كان يدور حولهم من شئون حياتهم الشخصية.. وأن اهتمامهم كله كان منحصرا فى العلم والبحث والمعرفة.
وكانت ليالى باريس قارصة البرودة فى فصل الشتاء.. وكانت الحجرة العلوية التى تعيش فيها باردة جدا لدرجة تمنعها من النوم.. وكيف كان يمكنها أن تنام وكل شىء حولها بارد إلى درجة التجمد..
وعندما كانت تعجز عن شراء بعض الفحم للتدفئة، كانت تواسى نفسها بأنها فتاة بولندية.. والشتاء فى وطنها بولندا أشد قسوة من شتاء باريس، ولذلك فمن الواجب عليها أن تتحمل..
ولكن البرد كان أشد قسوة وأقوى من إرادتها الحديدية.. ومع ذلك فقد حاولت أن تواجهه بكل ما يخطر على بالها من حيل.. فكانت عندما تتأهب للنوم، ترتدى أكبر عدد ممكن من ثيابها، وتغطى نفسها بكل ما تبقى لديها من ثياب أخرى.
ومع ذلك فقد كان البرد يشتد مع مرور كل لحظة.. فماذا فعلت حتى تواجه هذا الموقف؟.. لقد مدت يدها من تحت الأغطية، وسحبت المقعد الوحيد الموجود فى حجرتها، ووضعته فوق الأغطية، لعل ثقل المقعد فوق جسدها المرتعش، يتيح لها بعض الدفء!
وكانت مارى تظل راقدة بهذا الوضع دون أية حركة، خوفا من اهتزاز المقعد أو سقوطه، فتفقد الدفء وتتعرض إلى البرد من جديد!
وهكذا تظل مستيقظة من شدة البرد الذى يمنعها من الاستغراق فى النوم.. وتظل عينها مفتوحة وهى ترى على ضوء المصباح الخافت، زجاجة الماء التى تشرب منها، وقد تجمد الماء فيها وأصبح ثلجا!
كانت تواصل دراستها ليلا ونهارا.. حتى تتمكن من إجادة اللغة الفرنسية إجادة تامة، كتابة وقراءة.. وحتى يمكنها بالتالى من مواصلة دراستها للعلوم حيث تلقى المحاضرات النظرية والعملية باللغة الفرنسية، وحيث الكتب العلمية مكتوبة أيضا بتلك اللغة.. كما كانت تحرص دائما على إجراء تجاربها العلمية بمعامل الجامعة.
وكانت متعتها الوحيدة، حين كانت تركب إحدى الدراجات وتتجه بها صوب الريف، حيث الخضرة والزهور والأشجار والفضاء الرحيب. وعندئذ كانت تحس أنها أصبحت فى غنى عن أى شىء آخر.. وبالرغم من شبابها فقد كانت لا تشعر بأية رغبة فى الحب.. خصوصا بعد تجربتها الأولى.. وكانت تجربة مريرة كما رأينا.
لذلك فقد اندهشت مارى كثيرا حين لاحظت أنها بدأت تهتم كثيرا بزميل لها يدعى بيير كورى.. وكان عالما فرنسيا يقضى معظم أوقاته فى إجراء التجارب العلمية فى معامل الجامعة.
وربط بينهما العمل فى المعامل برباط وثيق.. بدأ باحترام كل منهما للآخر، ثم إعجابه، ثم صداقته، ثم الوقوع فى حب عميق جعلهما يشعران بأن كلا منهما لا يستطيع أن يستغنى عن الآخر..
وفى عام 1895 تزوجا.. وبعد الزواج مباشرة تركا باريس وذهبا إلى الريف ليقضيا هناك أياما قليلة.. وكانا سعيدين فى غاية السعادة، خصوصا حين كانا يتجولان بين الدروب الضيقة التى تفصل بين الحقول.. وحين كانا يتجولان بين أشجار الغابة.. وكان الحديث بينهما متصلا لساعات وساعات طويلة.. يتناقشان فى العلوم.. وفى التجارب المعملية.. وفى الكيفية الصحيحة التى تمكنهما من خدمة العلم بكل طريقة ممكنة.. وكانا يحلمان بأن يكون لديهما معمل خاص يجريان فيه تجاربهما..
وسرعان ما عادا إلى باريس مرة أخرى ليواصلا العمل معا..
ولكن الزواج ألقى على عاتقها الكثير من الواجبات والمسئوليات.. لقد سكنت الآن فى شقة كبيرة مكونة من ثلاث حجرات، بأعلى أحد البيوت وتطل على حديقة..
ولم تكن الشقة مجهزة بأثاث أكثر من حاجتهما الأساسية. و إذا جازف أحد الأصدقاء بزيارتهما، فقد كان عليه أولا أن يتحمل تعب الصعود فوق تلك الدرجات العديدة. ولن يجد لديهما إلا رفوفا تراصت فيها الكتب والمراجع، و منضدة ومقعدين اثنين فقط يجلس عليهما الزوجان المنصرفان كلية إلى الدراسة والمذاكرة.
والآن أصبح على مدام كورى أن تعد وجبات الطعام.. وحين كانت تعيش وحدها، لم تكن تهتم بهذا الموضوع.. ولكنها الآن أصبحت ربة بيت وعليها إعداد الطعام لنفسها ولزوجها.. وهكذا تعلمت كيف تصنع الحساء.. وكيف تطبخ بعض الخضروات التى تستيقظ مبكرة حتى تذهب لتشتريها من السوق وكان يجب عليها أن تطبخها بطريقة سهلة لا تضيع كثيرا من وقتها..
وكان الزوجان يقضيان فى المعمل نحو ثمانى ساعات يوميا، ومع ذلك فقد كانا يشعران أن هذا الوقت غير كاف لمواصلة إجراء تجاربهما.. وحين كانا يعودان إلى البيت كانا يجلسان إلى طرفى المنضدة، وبينهما مصباح يعمل بالزيت ويشع نورا خافتا ولكنه يكفيهما لمواصلة القراءة.. وحتى الساعة الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، لا يسمع فى حجرتهما أى صوت سوى صرير القلم وهو يكتب على الورق، أو حفيف صفحات الكتب حين يقلب أحد الزوجين صفحات كتابه بعد أن يقرأها لينتقل إلى صفحات أخرى.
وبعد نحو سنتين رزق الزوجان بأول أطفالهما.. وكانت بنتا سمياها ايرين.. وقد حصلت هذه البنت فيما بعد على جائزة نوبل..!
وازدادت واجبات ومسئوليات مدام كورى بعد أن أصبحت أما.. ولكنها مع ذلك واصلت دراساتها وأبحاثها العلمية بروح متفائلة وسعيدة.
فى البيت، كانت الأم مارى كورى تقوم بكافة واجباتها نحو ابنتها الوليدة ونحو زوجها.. وفى المعمل، كانت العالمة مارى كورى تواصل تجاربها العلمية بمنتهى النشاط، حيث أدركت أنها أصبحت على مشارف اكتشاف علمى جديد لم يسبقها إليه أحد من علماء العالم.
ومنذ سنوات قليلة سابقة على هذا التاريخ، كان أحد العلماء قد اكتشف مادة جديدة اسمها اليورانيوم وقال أن هذه المادة يصدر منها نوع من الإشعاع الذى سمته مدام كورى فيما بعد باسم النشاط الإشعاعى.
ولكن كيف يصدر النشاط الإشعاعى من تلك المادة.. وما هو شكله.. وما هى آثاره..؟!
هذا هو السر الذى كانت مدام كورى تسعى لاكتشافه.. وكانت من أجله تجرى التجارب تلو التجارب.. تنجح فى مرة وتفشل فى مرات.. ثم تنجح فى إحدى المرات، ولكن النجاح يزيد السر انغلاقا، ويتطلب إجراء عشرات من التجارب العلمية الأخرى.
وهكذا ظلت مدام كورى تواصل أبحاثها وهى تشعر فى قرارة نفسها أنها على وشك أن تكتشف هذا النشاط الإشعاعى المجهول..
وكانت مارى كورى قد كتبت قبل ذلك بمدة طويلة تقول: "إن الحياة ليست سهلة.. ويجب أن نعمل بكل همة، وأن نثق فى قدراتنا وفى أنفسنا ثقة كاملة. ويجب أن نؤمن بأن كل واحد منا قادر على إجادة العمل إلى أقصى حد.. وعندما نكتشف سر هذا الشىء الذى نبحث عنه، نكون قد نجحنا فى أداء عمل نافع.."
وهذا الشىء الذى كانت تبحث عنه مدام كورى، كان شيئا جديدا بالفعل.. أدى إلى أن يفتح أمام العلم آفاقا جديدة واسعة..
فى تلك الفترة ترك الزوج جميع أبحاثه وتجاربه المعملية، وانضم إلى زوجته ليعاونها فى البحث عن ذلك الإشعاع المجهول.. ومنذ ذلك الوقت كانا يكتبان فى تقاريرهما العلمية: "لقد عملنا كذا" أو "قام أحدنا بعمل كذا"
وفلى عام 1898 أعلنا أن هناك شيئا فى الطبيعة يسمى النشاط الإشعاعى.. يصدر عن مادة مازالت مجهولة أطلقا عليها اسم راديوم.
ولكن هذا الكشف الجديد الذى أعلن عنه الزوجان كان على عكس المعلومات التى كانت سائدة بين علماء تلك الفترة. لذلك أنصت العلماء جيدا إلى ما أعلنه الزوجان، ولكنهم لم يصدقوا شيئا مما قالاه..
وقال بعض العلماء المنصفين: "إذا كنتما تريدان إقناعنا حقا بما تقولاه وأعلنتماه.. فيجب عليكما أن تريانا بعض هذا الراديوم الذى تقولان بوجوده!"
وهكذا أصبح على الزوجين الآن أن يقضيا سنوات طويلة فى البحث العلمى حتى يتمكنا من تحضير هذا الراديوم، ويثبتا صحة نظريتهما الجديدة.
وكان هناك مبنى صغير يقع خلف المدرسة التى كان يعمل بها الزوج.. وكانت جدران هذا المبنى وسقفه مصنوعة من الخشب وبعض ألواح الزجاج. ولا يوجد به من الأثاث سوى بعض المناضد القديمة، وسبورة، وموقد قديم.. كما أن المبنى نفسه لم يكن أفضل من كوخ قديم لا يرغب فيه أحد، ولا يعرف أحد كيف يمكن الاستفادة منه.
واتخذ الزوجان من هذا المبنى معملا يجريان فيه تجاربهما العلمية لمدة أربع سنوات طويلة مضنية، لم يضيعا فيها لحظة واحدة.. كانا يعملان طوال النهار وجزءا كبيرا من الليل.. يستعملان الميزان الدقيق فى وزن بعض المواد.. ويقومان بإذابة بعض المواد.. ثم يجريان الكثير من الحسابات والمعادلات. ويعيدان هذه الكرة مرات ومرات ومرات..
كانا يؤمنان بوجود الراديوم.. ولكن أين.. وكيف يحصلان عليه..؟!
هل سيستطيعان فى يوم ما الوصول إلى هذا السر العظيم..؟!
هذا الأمل كان يدفعهما إلى تحمل مواصلة العمل الشاق فى ذلك المعمل.. الحار صيفا البارد شتاء.. والذى تتساقط من سقفه المياه كلما أمطرت السماء.
وبالرغم من هذا العمل الشاق الذى استمر لأربع سنوات متوالية، كان الزوجان يعتبران هذه السنوات من أسعد فترات حياتهما..
وظلا يعملان يوما وراء يوم.. وأسبوعا وراء أسبوع.. وشهرا بعد شهر.. وعاما بعد عام.. حتى أصبحا قريبين تماما من ذلك الاكتشاف العلمى العظيم.
وفى مساء أحد الأيام فى عام 1902، كان الزوجان قد غادرا معملهما منذ نحو ساعتين، وتوجها إلى البيت.. وبينما كانا جالسين.. نهضت مارى كورى من مقعدها وقالت لزوجها:
- فلنذهب الآن إلى المعمل.. ولو للحظة واحدة..!
وارتديا ملابس الخروج.. وغادرا البيت الساعة التاسعة مساء.. واتجها عبر الشوارع إلى حيث يوجد المعمل.. وأولج الزوج المفتاح فى قفل الباب فانفتح.. وهنا قالت له زوجته:
- لا تضىء المصباح!.. أنظر ماذا ترى..!!
كان هناك ضوء أزرق خافت يشع من بعض أنابيب الاختبار الموضوعة على بعض المناضد.. لقد توصل الزوجان أخيرا إلى السر الذى كانا يبحثان عنه كل هذه السنوات الطويلة.. الراديوم!!
بمجرد إعلان نبأ اكتشاف الراديوم.. ذاعت شهرة الزوجين باعتبارهما من كبار العلماء الذين أماطوا اللثام عن أسرار الطبيعة..
ولكن الزوجين لم يتمتعا بهذه الشهرة لأنهما لا يرغبان فيها ولا يسعيان إلى تحقيق الأمجاد الشخصية.. كانا يريدان أن يواصلا سعيهما إلى مزيد من الاكتشافات الجديدة.. وكانا يتمنيان أن تهيئ لهما أية جهة معملا مناسبا مجهزا بجميع الأدوات والمواد والمستلزمات العلمية التى تساعدهما على إجراء المزيد من التجارب.. وأن يتركهما الناس ليواصلا حياتهما العلمية فى سلام وهدوء..
فهل تحقق لهما هذا الأمل..؟!
فى كل يوم تقريبا، كانا يتلقيان دعوات إلى حضور المآدب الكبيرة.. والاجتماعات الهامة.. وطلبت منهما الصحافة أن يكتبا مقالات لنشرها فى الجرائد والمجلات.. كما طلبت منهما الكثير من الجمعيات والهيئات أن يلقيا الأحاديث والمحاضرات فى اجتماعات عامة.. بل وجاء الصحفيون إلى بيتهما ليكتبوا عنهما الأحاديث وليأخذوا لهما الصور الفوتوغرافية. بل وليصوروا أيضا ابنتهما الصغيرة وكل شىء آخر بالبيت حتى القطة الأليفة.. وليعرفوا رأيهما فى أشياء عديدة مختلفة..
وكان الزوجان يعتبران أن تلك الشهرة العريضة نوع من المضايقات وتجربة مؤلمة يودان أن يهربا منها.
وكانت مدام كورى لا تحب ولا ترغب فى أن تحيط نفسها بهالة من الضوء.. وظلت لسنوات طويلة حين كانت تسير فى الشوارع مثلا ويسألها بعض الناس:
- ألست أنت مدام كورى؟!
كانت تجيب هؤلاء بصوت بارد ممزوج بالخوف:
- لا.. بكل أسف..!!
وتبين لنا الحادثة الطريفة التالية حقيقة الاهتمامات التى كانت تدور دائما فى ذهنى هذين الزوجين.. فبعد نحو عام من إعلان اكتشافهما العلمى الكبير دعيا إلى الحضور إلى إنجلترا للتباحث مع أكبر وأشهر العلماء الإنجليز.
وقام مسيو بيير كورى بإلقاء محاضرة علمية أمام حشد كبير من هؤلاء العلماء.. وبعد انتهاء المحاضرة، أقيمت للزوجين مأدبة ضخمة حضرها العلماء وكبار أعضاء الأوساط العلمية ومعهم زوجاتهم.
وكانت جميع السيدات اللاتى حضرن هذا الحفل التألق يرتدين أفخر الثياب، ويتحلين بأغلى وأثمن أنواع الحلى والمجوهرات.. وكانت مارى كورى تنظر إلى تلك المجوهرات الثمينة بإعجاب شديد.. ولكن الذى أثار دهشتها أكثر حين رأت زوجها - الذى لا يهتم إطلاقا بالحلى ولا المجوهرات - يتطلع بدوره إلى تلك المجوهرات بإعجاب شديد مماثل لإعجابها..!
وحين انفرد الزوجان ببعضهما بعد انتهاء الحفل، قالت مدام كورى لزوجها:
- بيير.. لم أكن أتصور أن توجد مثل هذه المجوهرات فى العالم.. يالها من مجوهرات رائعة..!
فضحك الزوج وقال:
- تصورى كنت أنظر فعلا إلى كل تلك المجوهرات بإعجاب شديد.. ثم تحول هذا الإعجاب إلى فكرة طريفة شغلت تفكيرى طوال الحفل.. أخذت أحسب الثمن التقديرى لكل هذه الحلى والمجوهرات قطعة قطعة.. ثم بدأت أجمع إجمالى أثمان هذه القطع كلها.. وأتخيل فى الوقت نفسه كم من المعامل العلمية يمكن إقامتها لخدمة العلم بثمن هذه المجوهرات!!
وفى نفس العام، منح الزوجان جائزة نوبل للعلوم الطبيعية. ولكنهما لم يستطيعا السفر إلى السويد لاستلام الجائزة بسبب انهماكهما الشديد فى إلقاء المحاضرات وفى إجراء التجارب العلمية بمعملهما.. وعندما أرسلت إليهما قيمة الجائزة، كانت مبلغا كبيرا من المال، ساعدهما فى التفرغ تماما للبحث العلمى.
ثم حدث بعد ذلك اكتشاف مثير آخر، فقد تبين أن الراديوم يصلح علاجا لمرض من أخطر الأمراض التى تصيب البشر، وهو مرض السرطان.. ولكن المشكلة هى أن إنتاج الراديوم يحتاج إلى أموال طائلة. بل أن فكرة إنتاج الراديوم نفسها تستحق مكافأة كبيرة يجب أن يحصل عليها الزوجان.
وفى صباح أحد الأيام، قال بيير كورى لزوجته وهو يمسك فى يده خطابا وصله من أمريكا:
- دعينا نتحدث قليلا عن قيمة الراديوم الذى اكتشفناه.. فمن المؤكد أن العالم كله سيحتاج إليه.. وقد وصلنا هذا الخطاب من أمريكا يدعوننا فيه للذهاب إلى هناك لمعاونتهم فى إنتاج الراديوم بكميات كبيرة، ويعدوننا بمبلغ كبير من المال.. وعليتا الآن أن نقرر ما سوف نفعله.. هل نحتفظ بسر إنتاج الراديوم لأنفسنا ولا نبيعه إلا مقابل ثروة كبيرة طائلة.. أو نعلن هذا السر على الملأ بلا مقابل كما يفعل العلماء الذين وهبوا أنفسهم للعلم.. وأنت تعرفين بلا شك أننا نعيش حياة بسيطة متواضعة.. وأصبحت لدينا ابنة لها كثير من الاحتياجات.. وربما سيكون لدينا أطفال آخرون فى المستقبل.. إن المبالغ الكبيرة التى يمكننا الحصول عليها ستوفر لنا حياة فيها قدر كبير من الراحة، كما ستساعدنا أيضا فى إنشاء معمل علمى كبير ومجهز بكل ما نحتاجه من مواد ومعدات وأجهزة..!
لم تفكر مدام كورى كثيرا فى هذا الموضوع، بل كانت إجابتها جاهزة. فما أن انتهى زوجها من كلامه حتى قالت فى حزم:
- إن واجب العلماء أن يعطوا اكتشافاتهم للعالم.. حتى ولو كانت أسرار هذه الاكتشافات تساوى أموالا طائلة.. إننا لا يمكن أن نبيع أو نتاجر فى سر اكتشافنا.. إن ذلك سيكون ضد الروح العلمية!
وحل صمت قصير.. ثم ردد بيير كورى كلام زوجته بهدوء وصدق:
- حقا.. إن ذلك سيكون ضد الروح العلمية!
وبعد نحو ربع ساعة من هذا الحديث وما انتهى به من قرار حاسم.. ركب الزوجان دراجتيهما واتجها إلى منطقة ريفية بخارج المدينة، وعادا فى آخر النهار متعبين، ومعهما مجموعة كبيرة متعددة الألوان من الزهور وأوراق الشجر..!
كانت الشهرة تسبب للزوجين كثيرا من المضايقات. لأنهما كانا قد وهبا حياتهما للعلم، وأصبحا لا يهتمان بأية شهرة أو تكريم لشخصيهما.
وفى إحدى المرات سألها أحد الصحفيين عن نفسها وأفكارها ومعتقداتها. فأجابته إجابة صريحة مختصرة:
- إن العلماء يهتمون بالأشياء والشئون العلمية ولا يهتمون بأشخاصهم!
وفى مرة أخرى حين كانت مدام كورى مدعوة إلى حفل كبير، جاءها أحد الأصدقاء وسألها عما إذا كانت تحب مقابلة ملك اليونان الذى كان حاضرا فى نفس الحفل.. فأجابت بنفس البساطة التى كانت تتميز بها إجاباتها:
- إنى لا أرى أية قيمة لذلك!
ثم استطردت حين رأت أنها قد جرحت مشاعر صديقها بتلك الإجابة:
- ولكن.. ولكنى على استعداد أن أفعل ذلك لأجل خاطرك..!
ومرت عدة شهور واصل فيها الزوجان أبحاثهما العلمية فى معملهما.. وأصبحت حياتهما سهلة إلى حد ما وخالية من المشاكل.. ثم رزقا بطفلة ثانية سمياها إيف.. واضطرت مدام كورى أن تقسم أوقاتها بين ممارسة وظيفة الأم وربة البيت، وممارسة واجباتها كعالمة كبيرة من أشهر العلماء..
وطلبت الجامعة الفرنسية من مسيو بيير كورى أن يقوم بتدريس علوم الطبيعة وإلقاء المحاضرات. ولكنه رفض تلك الوظيفة بسبب عدم وجود معمل للتجارب العلمية فى تلك الجامعة.. وصمم على الرفض إلا إذا قامت الحكومة ببناء هذا المعمل العلمى وتجهيزه بكافة الاحتياجات.
وعندما اتسع نطاق الأبحاث العلمية فى معملهما الخاص، استعان الزوجان بثلاثة من المساعدين للمعاونة فى أعمال المعمل، يعملون تحت إشراف مباشر من مدام كورى.
وفى هذا الجو العلمى الحافل بالتجارب والأبحاث الدقيقة.. كان الزوجان مارى وبيير كورى يواصلان حياتهما السعيدة بكل كد وكل هدوء..
وفى يوم 19 أبريل 1906، بينما بيير كورى يسير فى أحد شوارع باريس المزدحمة بالناس، انزلقت قدماه فى مياه المطر فسقط على الأرض، وداست عليه عجلات إحدى العربات الثقيلة المسرعة، فمات على الفور.. وهكذا انتهت حياة هذا العالم الكبير..
كانت صدمة قاسية على زوجته وشريكته فى العلم والحياة.. وحزنت لدى سماعها النبأ حزنا هائلا حتى ظن بعض أصدقاء الأسرة أنها لن تفيق من هذا الحزن إطلاقا.
ولكن الحياة مع ذلك يجب أن تستمر، خصوصا وأنها قد أصبحت الآن مسئولة وحدها عن رعاية وتربية الطفلتين الصغيرتين، كما تضاعفت أيضا مسئوليتها العلمية حيث أصبحت مسئولة عن مواصلة تجارب زوجها وتكملة أبحاثه بالإضافة إلى مسئوليتها عن مواصلة تجاربها و أبحاثها الشخصية.
وفى خريف نفس العام، صدر قرار من الجامعة التى كان يعمل فيها زوجها الراحل.. وكان القرار يتضمن سطورا قليلة ولكنها نبيلة المرمى وعميقة المغزى.. كان القرار يتضمن تعيينها فى نفس وظيفة الأستاذ التى كان يشغلها زوجها قبل موته.. وتضمن القرار أيضا أن تقوم مارى كورى بإلقاء محاضراتها على طلبة وطالبات الجامعة اعتبارا من يوم الاثنين القادم الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر..!
وفى الموعد المحدد، كانت قاعة المحاضرات فى الجامعة قد امتلأت عن آخرها بحشد كبير من الجمهور بالإضافة إلى الطلبة والطالبات من تلاميذ زوجها..
كان الجميع ينتظرون ما سوف تفعله تلك العالمة وما سوف تقوله..
ترى.. هل ستقوم بالثناء على زوجها الراحل والثناء على أبحاثه العلمية؟.. هل ستشكر الجامعة على قرار تعيينها فى نفس الوظيفة التى كان يشغلها زوجها؟.. إن ذلك بطبيعة الحال أمرا متوقعا لا يخالفها فيه أحد..!
ولكنها دخلت بكل هدوء إلى قاعة المحاضرات، وبصوت رصين بدأت فى إلقاء محاضراتها العلمية، من نفس النقطة التى توقف عندها زوجها فى آخر محاضرة ألقاها قبل موته..
وانهمرت دموع الحاضرين وهم يستمعون إلى محاضرة تلك السيدة العظيمة التى وهبت حياتها للعلم، تقديرا منهم لموقفها المتماسك النبيل..
وعندما انتهت المحاضرة، أسرعت فى الخروج بنفس الهدوء والتواضع..
واستمرت حياتها على هذا المنوال.. وفى عام 1911 منحت جائزة نوبل مرة أخرى.. وفى عام 1914 تم إنشاء المعهد العلمى الفرنسى الذى سيساعدها كثيرا على إجراء تجاربها وأبحاثها العلمية الجديدة.
ولكن الحرب العالمية الأولى نشبت فى عام 1914، وأصبحت فرنسا فى خطر حقيقى.. وحين اقترب هذا الخطر من مشارف باريس، قامت مدام كورى بنقل كمية الراديوم التى يمتلكها المعمل، وخبأتها فى مكان آمن خارج باريس كلها، وأسرعت فى العودة بعد ذلك إلى باريس لتواصل أعمالا وجهودا استلزمتها ظروف الحرب..
وكان اكتشاف أشعة اكس واختراع الأجهزة الخاصة بتحضيرها قد تم منذ فترة بسيطة.. وبفضل مداد كورى ومعاونتها، وضعت المئات من تلك الأجهزة فى مئات المستشفيات فى طول فرنسا وعرضها.. بل وجهزت بها أيضا بعض السيارات ليمكن نقلها من مكان إلى مكان حسب الحاجة..
وقد أطلق على هذه السيارات اسم لطيف هو سيارات كورى الصغيرة.. وكثيرا ما كانت تشاهد مدام كورى وهى تقود إحدى هذه السيارات بنفسها..
وقد قامت هذه الأجهزة بدور عظيم فى علاج عشرات ومئات الآلاف منالجرحى والمصابين بسبب المعارك الحربية.
وماذا يمكن أن نقوله أيضا عن تلك السيدة العالمة العظيمة..؟!
لقد أخذت تكبر فى العمر وتزداد ضعفا.. ولكنها مع ذلك ظلت محافظة على بذل جهودهاالعلمية بكل نشاط وهمة.
وفى سنة 1921 رحلت إلى أمريكا.. وذلك على اثر زيارة قامت بها إحدى صديقاتها الأمريكيات إلى باريس..
منذ سنوات طويلة، أعجبت سيدة أمريكية اسمها مسز ملونى بكل ما كانت تسمعه أو تقرؤه عن حياة العالمة المناضلة مدام كورى.. وبرغم بعد المسافة بين أمريكا وفرنسا.. أصبحت مقابلة مدام كورى أهم أمانى تلك السيدة الأمريكية..
وكم كانت السيدة سعيدة حين قابلت مدام كورى فى معملها فى باريس ذات صباح.. وقد قالت مسز ملونى تصف تلك المقابلة فيما بعد: "لقد رأيت سيدة ترتدى ملابس سوداء بسيطة مصنوعة من القطن.. وفى ملامحها رأيت أكبر حزن رأيته من قبل على وجه إنسان!".
وحاولت مسز ملونى أن تشرح لمدام كورى مدى إعجاب سيدات أمريكا بها وبقصة كفاحها ونضالها فى سبيل خدمة العلم والإنسانية.. ومدى الفخر الذى تحسه النساء الأمريكيات لأن واحدة من جنسهن استطاعت أن تحقق كل هذه الانتصارات العلمية.
ثم تطرق حديثهما بعد ذلك إلى الراديوم.. وأخبرتها مدام كورى بأن كل كميات اليورانيوم الموجودة فى أمريكا لا تزيد عن خمسين جراما فقط، وأخذت تذكر لها أسماء المدن الأمريكية التى توجد فيها هذه الكميات من اليورانيوم. وسألتها مسز ملونى:
- وما هى كمية اليورانيوم الموجودة فى فرنسا..؟
- فى معملى يوجد جرام واحد من اليورانيوم..!
- جرام واحد؟!.. هل لا تملكين سوى هذا الجرام الواحد من اليورانيوم..؟!
- أنا لا أمتلك شيئا.. بل هو ملك للمعمل العلمى الذى أعمل فيه..!
وعندئذ سألتها مسز ملونى سؤالا قد يبدو غبيا فى ظاهره ولكنه يبدو فى غاية الأهمية بالنسبة لمعناه ومغزاه:
- لو وضع كل ما فى هذا العالم تحت طلبك.. فماذا تختارين منه..؟!
وأجابت مدام كورى بلا تردد:
- لا أريد أكثر من جرام آخر من اليورانيوم حتى أتمكن من توسيع دائرة تجاربى وأبحاثى المعملية.. ولكنى لا أستطيع أن أشترى هذا الجرام.. لأنى لا أملك ثمنه..!!
وحين عادت مسز ملونى إلى أمريكا، كانت قد اختمرت فى ذهنها فكرة الدعوة إلى عمل عام.. وأخذت تلقى المحاضرات وتكتب الرسائل والمقالات تدعو فيها الشعب الأمريكى نساء ورجالا إلى مشاركتها فى تلك الفكرة..
كانت مسز ملونى تقول أن مدام كورى قد اكتشفت الراديوم بعد جهد علمى جبار استمر لسنوات طويلة.. وقد أهدت اكتشافها إلى العلم والإنسانية بلا مقابل.. وهى تحتاج الآن إلى جرام واحد من الراديوم لكى تواصل تجاربها وأبحاثها لخدمة العلم والتقدم ولكنها فقيرة لا تستطيع أن تشترى هذا الجرام.. وأصبح الراديوم بفضلها يوجد فى أنحاء كثيرة من العالم.. وأن من واجب العالم الآن أن يشترى لها جراما من اليورانيوم لتواصل به أبحاثها التى ستهديها إلى العالم مرة أخرى.. وهى لا تريد هذا الجرام لنفسها، وإنما ليكون ملكا للمعمل العلمى الذى تعمل فيه..
وفى خلال عام واحد، استطاعت مسز ملونى أن تجمع التبرعات من الشعب الأمريكى لشراء جرام اليورانيوم المطلوب..
وأبحرت مدام كورى إلى أمريكا مصطحبة معها ابنتيها، لتتسلم جرام اليورانيوم المهدى إليها من الشعب الأمريكى.. وكانت رحلة طيبة ولكنها لم تتمتع بها.. فقد كانت فى الرابعة والخمسين من عمرها.. ولم يعد لديها القوة التى تمكنها من تحمل عناء الرحلات التى كان يجب أن تقوم بها لزيارة الجامعات والمعامل والمناجم التى كانت تتنافس فى دعوتها لزيارتها.
ولم يكن لديها القوة التى تمكنها أيضا من إلقاء المحاضرات أو تلبية كل الدعوات التى وجهت إليها لتكريمها والاحتفاء بها.. ولهذا فقد كانت تنيب ابنتيها فى حضور معظم هذه الدعوات.
وفى أكثر من مرة، كانت ابنتها إيف التى بلغت آنئذ ستة عشر عاما، تتولى الحضور نيابة عن أمها فى الحفلات التى كانت تقام لتكريمها.. وكانت تجلس فى نفس المقعد الذى خصصه المحتفلون لأمها وتسمع خطبا طويلة لمدح أمها والثناء عليها وغلى جهودها الطويلة المضنية لخدمة العلم والإنسانية.
وكان أهم الاحتفالات التى أقيمت لتكريمها، تلك الحفلة العظيمة التى أقيمت فى واشنطن والتى تولى فيها الرئيس الأمريكى إهداءها الراديوم باسم الشعب الأمريكى كله..
وقد اندهش الرئيس الأمريكى وعلية القوم وكبار العلماء حين علموا بأن مدام كورى قد قامت بإهداء الراديوم قبل أن تتسلمه.. ففى اليوم السابق على هذا الاحتفال، حين علمت مدام كورى أن الراديوم الذى سيهدى إليها سيكون ملكا لها، وأن وثيقة الملكية قد دونت على هذا الأساس.. طلبت تغيير الوثيقة ليصبح هذا الراديوم ملكا للعلم ولمعملها الذى سيخصصه لمزيد من التجارب والأبحاث العلمية.
وعندما قال لها المختصون أن ذلك يمكن أن يتم بعد أن تتسلم الراديوم من الرئيس، رفضت مدام كورى وأصرت على إحضار أحد المحامين لتغيير وثيقة الملكية.. وقالت:
- إذا أصبح هذا الراديوم ملكى، فمعنى ذلك أنه سيصبح إرثا لابنتى بعد وفاتى.. ولهذا فلا يمكن أن أنتظر تغيير الوثيقة بعد أسبوع، أو حتى بعد يوم واحد.. فمن يدرى ربما أموت بعد ساعات معدودة.. يجب تغيير الوثيقة حالا!!
وتم العثور بصعوبة على أحد المحامين الذى تولى تغيير نص وثيقة الملكية ليصبح الراديوم - الذى لم تتسلمه بعد - ملكا للمعمل العلمى فى باريس.
وهكذا انتهت الحفلات التى أقيمت لتكريمها وانتهت كذلك زيارتها لأمريكا.. وعادت مدام كورى وابنتاها مرة أخرى إلى باريس.
ومرت السنوات ومدام كورى تعمل بنفس الهمة والنشاط، ولكنها كانت تزداد ضعفا يوما بعد يوم..
وقامت بزيارات كثيرة إلى بولندا.. وطنها الذى أحبته وخدمته.. كما قامت بزيارات عديدة لعائلتها ولأصدقائها القدامى.
وبالرغم من ضعف صحتها التى كانت تزداد سوءا باستمرار، حققت المزيد من النجاح فى أبحاثها العلمية.. وكانت تقضى معظم أوقاتها فى معملها بالمعهد العلمى بباريس، حيث كان يحيط بها زملاؤها وتلاميذها ومساعدوها الذين كانوا جميعا يحبونها أعظم الحب ويقدرونها خير التقدير، ويستمعون جيدا إلى كل إرشاداتها ونصائحها.
ولكن صحتها أصبحت تزداد سوءا وضعفا.. وكان كبار الأطباء يحيطون بها وهم فى حيرة شديدة لعدم معرفتهم السبب الحقيقى لمرضها.. لأنه مرض لم يدرسوه فى الكليات ولم يعرفوا عنه شيئا من قبل..
وأخيرا اكتشف الأطباء أن مرضها كان نتيجة لتعرضها للنشاط الإشعاعى الذى كان يصدر من الراديوم الذى اكتشفته منذ سنوات طويلة، والذى حقق لها كل هذا الصيت والنجاح.. ولكنه كان فى الوقت نفسه يدمر كل خلايا جسمها..
وخلال ساعاتها الأخيرة كان ذهنها مازال متقدا. وظلت تتحدث عن العلم.ز وعن المعمل.. وعن دراساتها وأبحاثها.. وعن الراديوم!
وفى الرابع من يوليو عام 1934 ماتت مدام كورى..!
ودفنت فى احتفال بسيط حضره أقرب المقربين من أصدقائها وأعضاء أسرتها.. وفى نفس القبر الذى يرقد فيه زوجها.. وعلى شاهد ذلك القبر كتب سطر جديد بسيط:
مارى كورى سكلودوفسكا 1867-1934.
هديتها للعالم وفضلها على العلم
منذ أن نجح الزوجان مارى وبيير كورى فى اكتشاف الراديوم.. حدثت اكتشافات علمية مذهلة نتيجة لهذا الاكتشاف العظيم..
لقد استخدم الراديوم فى شفاء بعض الأمراض الخطيرة.. واستخدم فى تحسين تنمية النباتات والحيوانات.
وبفضل مدام كورى تيسرت سبل البحث العلمى لدراسة الفضاء فيما وراء الشمس والنجوم.. ولدراسة قياس أعمار بعض المخلفات أو الأشياء التى كانت موجودة منذ ملايين السنين..
حتى العلوم الذرية (سواء استخدمت لأجل الأعمال الحربية أو للأعمال السلمية) كانت نتيجة مبدئية للتجارب التى أجراها الزوجان كورى فى الكوخ الذى اتخذاه معملا متواضعا فى باريس، وظلا يعملان به لأربع سنوات متواصلة من الجد والكفاح العلمى المستمر.
وحين توفيت مارى كورى، كتب أحد تلاميذها المخلصين: "لقد فقدنا كل شىء".. وإذا كان هذا هو شعوره بالحزن العميق حين فقد أستاذته ومعلمته.. فإن العالم كله يقول الآن عندما يذكر هذه المرأة العالمة العظيمة: "لقد تركت لنا الكثير.. وكسبنا منها الكثير.. لقد بذلت حياتها كلها من أجل العلم..ومن أجل التقدم..!!"
عن كتاب رجال عظام ونساء عظيمات - بقلم ليزلى ليفيت وترجمة مختار السويفى.
رد: اين نحن الآن من العالم الخارجى (اين كنا و الى اين وصلنا)؟؟؟؟؟
انها والله لامراة عظيمة كم تمنيت لو كانت مسلمة ولكن هي حكمة المولى
على اختيارك لهذه الشخصية النادرة فقد تعلمت من قصتها اشياء كثيرة اهمها_انه يجب الا نتضرع بتخلف اممنا للتقاعس في طلب العلم والابداع فيه
_كنت دائما خائفة من ان يكون الزواج عائقا لي في تحقيق طموحاتي العلمية لاني كنت ارى الكثير من الفتيات اللواتي تزوجن وهن يدرسن واصلن الدراسة ولكن لم يبدعن فيها لانهن لم يستطعن تنظيم اوقاتهن ولان الرجل العربي اكثر تطلبا
_والشىء الاهم هو اننا يجب ان نعطي العلم كلنا ليعطينا جزءا منه وهذا ما نستخلصه كذلك من حياة علماءنا الاجلاء امثال ابن سينا وابن ابيطار وبن رشد وغيرهم كثير (من طلب العلى سهر الليالي)