وُلِدَ الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862 م ، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة وكان مولده بالبطنان فى الجبل الأخضر ، ونشأ وترعرع فى بيت عز وكرم تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة وصفاتهم الحميدة التى استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
- لم يسبق لعمر المختار أن تخرج من كلية حربية أو عسكرية ولم يتلق مهارته الحربية من جيش أو كلية، إنما تربى عمر المختار في ساحات المعارك والجهاد فسبق القواد في ذلك، وكانت معارك المجاهد عمر المختار تعتمد على الكر والفر فلم يكن لديهم جيشًا نظاميا، وكانت حرب عصابات لأن المجاهدين لا يمتلكون نفس العتاد الذي يملكه المحتل ولو واجهوهم في حرب لكانت وبالاً على المجاهدين لذا اعتمد عمر المختار في حربه على هذا النوع من المقاومة، ولقد خاض عمر المختار بهذا الأمر كما أورد الجنرال غرسياني في كتابه أنه التقى مع عمر المختار في مائتين وستين معركة خلال الثمانية عشر شهرًا ابتداء من حكمه في برقة إلى أن وقع عمر المختار أسيرًا وقد ثبت المجاهدون في حالتي الدفاع والهجوم.
وكان عمر المختار يقسم جنده إلى مجموعات وذلك حسب الانتماء القبلي كما كان يفعل صحابة النبي في الفتوحات وكان يضع أسر كل قبيلة وراء قبيلتها وذلك تزداد همة المقاتلين لدفاع عن أهلهم وذويهم من الأطفال والنساء.
2- حاولت إيطاليا بواسطة عملائها بمصر الإتصال به وعرضت المساعدة إذا ما تعهد بإتخاذ سكنه فى بنى غازى أو المرج ، وملازمة بيته تحت رعاية إيطاليا ، وأن حكومة روما على إستعداد أن تجعل عمر المختار الشخصية الأولى فى ليبيا وتتلاشى أمامه كل الشخصيات الكبيرة التى تتمتع بمكانتها فى طرابلس وبنى غازى ،
يقول المختار : " إننى أعيذ نفسى أن أكون فى يوم من الأيام مطية للعدو وأذنابه فأدعو الأهالى بعدم الحرب ضد الطليان " .
لقد استمرت عروض الإيطاليين على عمر المختار وحاولوا استمالته بالمال الطائل والمناصب الرفيعة والجاه العريض ، لكنهم لم يفلحوا ، وصاحب دعوة ومؤمناً بفكرة استمدت أصولها وتصوراتها من كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويفهم جيداً معنى قوله تعالى : "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا " .
وعندما عُرض عليه أن يترك ساحة الجهاد، ويسافر إلى الحج قال: (لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي، وإن ثواب الحج لا يفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة ) .
3- وهاكم شهادة من عدوه " جراسيانى " حيث يقول : (( بالرغم من أبعاد النواجع والسكان الخاضعين لحكمنا يستمر عمر المختار فى المقاومة بشدة ويلاحق قواتنا فى كل مكان ))
ويقول ايضاً : (( عمر المختار قبل كل شئ لن يسلم ابداً لأن طريقته فى القتال ليست كالقادة الآخرين ، فهو بطل فى إفساد الخطط وسرعة التنقل بحيث لا يمكن تحديد موقعه لتسديد الضربات له ولجنوده ، أما غيره من الرؤساء .... فإنهم أسرع من البرق عند الخطر ، فيهربون إلى القطر المصرى تاركين جنودهم على كفة القدر معرضين لخطر الفناء
الأسد يقع فى الأسر :
بعد حياة حافلة بالجهاد ورغم كبر سنه امتن الله على عمر المختار بالشهادة، ولم يستطع أعداؤه قتله أثناء المعارك بل ما قتلوه إلا صبرًا بعد وقوعه في الأسر، ويقول الأستاذ علي الصلابي: لقد ظل المختار في الجبل الأخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز إقامته إلى المراكز الأخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد أحوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمائة فارس، ولكنه عاد فرد من هذا العدد ستين فارسًا وذهب في أربعين فقط.
ويوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب (بالتصغير) وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لا بد من اجتيازه، فمر به عمر المختار ومن معه، وباتوا فيه ليلتين، وعلمت بهذا إيطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ما عندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو؛ وقرر منازلة الأعداء وجهًا لوجه فأما أن يشق طريقًا يمكنه من النجاة أو يلقى ربه شهيدًا في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عددًا كبيرًا من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها، ولم تسعفه يده الجريحة والتفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت).
فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش أول من قتل وهو يحاول إنقاذ الشيخ الجليل، وهجم جنود الطليان على الأسد الجريح دون أن يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الأسير وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار إلى ميناء سوسة محاطًا بعدد كبير من الضباط والجنود الإيطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم إلى سوسة، ومن ثَمَّ نقل فورًا إلى بنغازي عن طريق البحر
====
محاكمة المختار
كانت محاكمة عمر المختار محاكمة صورية هزلية ، ودليل ذلك :
1 - أن الطليان قبحهم الله كانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا " المشنقة " وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره ، وإنك لتلتمس ذلك فى فى نهاية الحديث الذى دار بين المختار وبين جراسيانى حيث قال : " إنى لأرجو أن تظل شجاعاً مهما حدث لك أو وقع بك "
وإنها لكلمات تفوح بالخبث والشماتة ، ومعناها أنك يا مختار سوف تُعدم شنقاً ، فلا تجبُن أمام المشنقة ، وإذا بشيخنا وأستاذنا الكريم وقائد الجهاد يزداد سمواً بعد سمو ثم يقول " إن شاء الله " .
2 -يصف الدكتور العنيزى ذلك فيقول : "جاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلاً بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب.. وكان مكاني في القاعة بجوار السيد عمر وأحضر الطليان أحد التراجمة الرسميين واسمه نصرت هرمس ، فلما افتتحت الجلسة وبدأ استجواب السيد، بلغ التأثر بالترجمان، حدًا جعله لا يستطيع إخفاء تأثره وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة باستبعاده وإحضار ترجمان آخر فوقع الاختيار على أحد اليهود، وهو لمبروزو، من بين الحاضرين في الجلسة (وقام لمبروزو بدور المترجم، وكان السيد عمر -رحمه الله- جريئًا صريحًا، يصحح للمحكمة بعض الوقائع، خصوصًا حادث الطيارين الإيطاليين أوبر وبياتي .
3- وعندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن السيد عمر وكان ضابطًا إيطاليًّا يدعى الكابتن لونتانو، وقف وقال: (كجندي لا أتردد البتة إذا وقعت عيناي على عمر المختار في ميدان القتال، في إطلاق الرصاص عليه وقتله وافعل ذلك كإيطالي أمقته وأكرهه، ولكنني وقد كلفت الدفاع عنه فإني اطلب حكمًا، هو في نظري أشد هولاً من الإعدام نفسه، وأقصد بذلك الحكم عليه بالسجن مدى الحياة نظرًا لكبر سنه وشيخوخته ) .
4 -أمر القاضي بإعدام عمر المختار شنقًا حتى الموت وعندما ترجم الحكم إلى عمر المختار قهقه بكل شجاعة قائلاً الحكم حكم الله لا حكمكم المزيف - إنا لله وإنا إليه راجعون.
وأراد رئيس المحكمة أن يعرف ما قاله السيد عمر.. فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل، وعندئذ، بدا التأثير العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحكمة الصورية وأظهروا إعجابهم لشجاعة شيخ المجاهدين بليبيا الحبيبة وبسالته في آن واحد.
وأما المحكمة، فقد استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة فحسب، من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة السادسة والربع وكذلك قضت إرادة الله تعالى أن يتحكم الطليان في مصير البطل، لتتم الإرادة الإلهية وتمضي الحكمة الربانية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (التغابن: 110 ) .
وحان وقت الرحيل :
يقول الدكتور العنيزي (لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر أبناء جلدتي، لم أكن استطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، إلا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور
ويا لها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين إلى حبل المشنقة، وقد ظل المختار يردد الشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشارًا بالشهادة وارتياحًا لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله إلىى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا ربما يتحدث إليهم أو يقول كلامًا يسمعونه وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء.
وهناك اعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من أولئك الذين جاءوا يساقون إلى هذا المشهد الرهيب ينظرون إلى السيد عمر وهو يسير إلى المشنقة بخطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه ومنهم ليبيون أنه صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (الفجر: 27، 28)
لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه، لقد كان يقول: اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة)(2) .
كانت هذه حياة عمر المختار الذي لم يعرف التواني ولا الكسل، فقد حارب أعداءه رغم قلة عتاده وعدده بالنسبة لهم، وكان لذلك الأثر الكبير في تحرير ليبيا من المحتلين بعد ذلك؛
قالو عن عمر المختار :
- قال غراسياني في مذكراته: (أما وصف عمر المختار فهو معتدل الجسم عريض المنكبين شعر رأسه ولحيته وشواربه بيضاء ناصعة، يتمتع بذكاء حاضر وحاد، كان مثقفًا ثقافة علمية دينية له طبع حاد ومندفع يتمتع بنزاهة خارقة لم يحسب للمادة أي حساب متصلب ومتعصب لدينه، وأخيرًا كان فقيرًا لا يملك شيئًا من حطام الدنيا إلا حبه لدينه ووطنه رغم أنه وصل إلى أعلى الدرجات حتى أصبح ممثلاً كبيرًا للسنوسية كلها). وهذا وصف دقيق يدل بوضوح على عظمة المختار وإمكانياته الذاتية التي وهبه الله إياها، فتقلد بسببها أكبر المناصب، وخاض أكثر المعارك، وصفه عدوه بصفات الورع والتدين، ومثقف ثقافة دينية وعلمية، وصفه بشدة المراس والصبر على الشدائد، وهكذا يصنع الإسلام من أتباعه في ميادين النزال وساحات القتال .
- وقال غراسياني في حديثه مع عمر المختار في كتابه (برقة المهداة): عندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أن أرى فيه شخصية آلاف (المرابطين) الذين التقيتهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية... يداه مكبلتان بالسلاسل رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وكان وجهه مضغوطا؛ لأنه كان مغطى رأسه بالجرد، ويجر نفسه بصعوبة نتيجة الإعياء، والخلاصة تخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس ككل الرجال، له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسير .