الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحاً.. وليست عندي رغبة في النوم، أنا في حاجة إليه، فجسدي مرهق جداً، لكن النعاس جافى عينيّ فأرَقهما. والليل بسحره وفتنته خير صديق سامر للذي أرقت عيناه..
وقفت في الشرفة، وأجلت ببصري هنا وهناك، فلم تقع عيناي على ضوء بيت يدل على أن أصحابه سهارى، ولم أر إلاّ أضواء متناثرة عالية تصدرها مصابيح الشوارع.
الليل دامس وحالك من حولي، والصمت مطبق تماماً؛ لكن هدير بعض السيارات المحملة بالخضار والفواكه وغيرها يمزق الصمت بمرور هذه السيارات بين الحين والآخر، ويجعل من الليل جملة من الصخب والضجيج على حين غرة، ثم لا يلبث أن يختفي رويداً رويداً..
ها هو شخير ينبعث من أحد البيوت المجاورة، كم هي مزعجة نغماته المتتابعة برتابتها المغيظة، وارتجاجاتها التي تمزق حجب الصمت لثوان معدودات، ثم تجتمع معاً وتتكثف لتندفع كلها بنفس واحد عبر شخير قوي لا يتعدى الثانية؛ لكنها ولقوتها توقظ صاحبها، فيتحرك كما يبدو، إذ يغيب النغم دقائق ليعود مرة أخرى، فصاحبه ذو مزاج عكر لا يستطيع النوم إلا على أنغام شجية لا يمنعها من الوصول إلى أذنيّ سوى هدير سيارة مفاجئ.
انتابتني رعشة خفيفة مما جعلني أضم يديّ وأضعهما تحت إبطيّ، ليت البرد يقوى أكثر، فيشعر به صاحب الشخير، فينهض ويغلق نافذته، ويريحني من أنغامه الشجية هذه؛ ولكن لا محالة، فمهما اشتدت الرطوبة تبقى في هذه الأيام مقبولة، ولا تُقاوَم بإغلاق نافذة، أو إحكام باب وإنما بإلقاء ملاءة خفيفة تضفي بعض الدفء على الجسم فينعم بالراحة والشخير الذي يأبى أن يظل حبيس الغرفة.
مرت سيارة ببطء ومهل، ووقفت قليلاً عند أول الشارع، كانت أنغام أم كلثوم تنبعث منها بصوت خافت، ورأيت من خلال مصباح الشارع رأساً يبرز، وعينين تحاولان تبيّن شيء ما.. يبدو أنهما باءتا بالفشل، فالظلام دامس، ضاع الأمل.. وبخيبة ومرارة، دارت السيارة ببطء ومهل أيضاً، وعادت من حيث أتت..
يبدو أن البقاء هنا لم يعد مستساغاً، فالشوائب تكثر، والمكدرات كذلك، والأفضل الدخول وأداء ركعتين للمولى عز وجل، فهو خير أنيس في دياجي الليل ثم الاستلقاء، عسى النوم أن يزحف إلى أجفاني فيريحها.. إذ لم يعد لليل سحره، ولم تعد له فتنته، ولم يعد له سره، فكل ما كان يشدني لسماع شدوه، وإغراق نفسي في أحضانه تلاشى.. (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) :1 004::100 4: