انتابت سلمان صدمة شديدة شلت كل مفاصله, أحس خلالها بأن حلمه الذي يحمله بوجدانه منذ عشرين عاما بات أقرب ما يكون للحقيقة من أي وقت مضى.
هل يكون ما سمعه للتو من هذا الرجل الغريب حقيقةً أم سراباً كالسراب الذي يترائى للظمئان في رمضاء الصحراء المقفرة؟
عشرون عاما قضاها يبحث عن هذه السعادة المنشودة , رأى فيها ما رأى من بلدان مترامية الأطراف,وأنهار وبحار , غابات و صحارى , جبال ووديان اجتازها من أجل تحقيق هذا الحلم .
ذكريات و أفكار تبادرت إلى ذهن سلمان وهو في أعلى النخلة أرجعته إلى سنين خالية , فاغرورقت عيناه بالدموع. أتراه قد سمع فعلا ما قد سمعه للتو؟ أم أن سمعه قد خانه ؟! فكان لا بد إذاً من التأكد من هذا الرجل الذي أطلق هذا السهم الذي أصاب قلب سلمان , فبدلا من أن يرديه قتيلاً، بث فيه الأمل الدافق... فعاد ينبض بالحياة من جديد !
أراد سلمان أن ينزل من أعلى النخلة الشاهقة الإرتفاع ولكن لهفته لسماع هذه البشرى كانت أكبر من أن ينتظر لينزل بهدوء, فأطلق يديه من جذع النخلة حتى كاد يقع أرضاً من أعلاها ، واتجه مباشرةً إلى هذا الرجل الغريب ليمسك بذراعيه ويطلب منه إعادة ما كان قد ذكره منذ قليل .
_ أرجوك يا سيدي ، أعد على مسامعي ما ذكرته للتو ! قال سلمان بلهفة
وما كاد سلمان يفرغ من طرح سؤاله حتى أحس بلطمة قوية هوت على وجهه فأطاحت بجسده النحيل أرضاً
_ وما يعنيك أنت أيها العبد بأحاديث السادة ؟ قال الرجل الآخر الذي صفع سلمان من خلفه .
التفت سلمان بصعوبة خلفه فإذا هو بين يدي رجل بدا مألوف الملامح ..............إنه السيد الذي يعمل لديه سلمان عبداً!
أعادت هذه اللطمة تذكير سلمان بأنه كان قد أصبح عبداً منذ فترة، ولكنها ذكرته أيضا بأول لطمة على وجهه كان قد تلقاها قبل عشرين عاما يوم أن كان يهم بالبدء في مغامرته.
لم تكن تلك اللطمة الأولى التى تلقاها سلمان من سيد يعمل لديه , بل كانت موجة من قبضة يد أبيه الذي حاول ثنيه عن ما كان ينوي عمله في بداية مغامرته التي قاربت على الانتهاء الآن. فنظر سلمان لسيده و ابتسم ابتسامة ملؤها الأمل وقال :
_ عذرا يا سيدي.............سامح عبدك المخطئ سلمان!
*************************
بداية الحكاية
من أصفهان
كان سلمان سيداً من سادات الفرس , وكان أبوه هاقان ( عمدة القرية عند الفرس) في قرية من قرى أصفهان و كان يملك مالا وفيرا و ضيعاَ فسيحة فيها من الثمر و الخيرات مالا يحصى ولا يعد , وعندما رزق بسلمان أحبه حباً شديداً جعله يخشى عليه من كل شيئ و يحرص عليه أيما حرص, فنشأ سلمان في البيت كالأمراء لا يُسمح له بالخروج من القصر و إنما يأتيه ما يتمنى وهو في منزله حيث ينعم بخدمة الخدم والعبيد. وكان أكثرشيئٍ يشغل سلمان صباح كل يوم هي حيرته في اختيار ما يرتديه في ذلك اليوم من الملابس الحريرية التي كان أبوه يشتريها له من تجار القوافل التي كانت تمر بطريق الحرير الممتد من أقصى بلاد الصين حتى بحر الروم (البحر المتوسط) . وبالرغم من أن سلمان كان يحصل على كل شيئ بمجرد الإشارة لأحد الخدم , فإنه لم يكن سعيداً في حياته, فقد سئم من حياة الترف واللهو من دون أي هدف في الحياة, وكان السؤال الذي الذي يدور بذهن سلمان دائما ...ما هي السعادة؟ هل هي المال؟ أم هي أولئك الفتيات الجميلات اللائي كن يسعين لخدمته في القصر؟ أم تراها تلك الأشجار الخضراء في حديقة القصر حيث يجري جدول أزرق اللون بارد المشرب ؟!
وعندما بلغ سلمان أشده كبر معه تساؤله وزادت معه حيرته . ولاحظ أهله أنه قد أصبح نحيل الجسم شارد الذهن , فذهب إليه والده ذات ليلة هادئة حيث يجلس سلمان كعادته متأملاً في السماء بالقرب من جدول ماء في حديقة القصر .
_ لماذا يجلس ولدي الحبيب وحده تاركاً والده المسكين يبحث عنه ؟ قال الأب مداعباً سلمان
_ أهلاً أبي ! تفضل. قال سلمان
_ ماذا تفعل وحدك يا ولدي؟ تساءل الأب
_ أفكر في سؤال لا أجد له إجابة !
_ وماذا يكون هذا السؤال ؟
_ من أنا ؟ قال سلمان موجها سؤاله لأبيه
_ أنت ولدي الحبيب سلمان . أجاب الأب مبتسما
_ لم أقصد هذا يا أبي , إنني أعني من أكون ؟ لماذا أنا هنا ؟ لماذا أنا حبيس هذا القصر ؟
_ أنت هنا لأن القصر أفضل لك من هذه الدنيا الملئى بالمخاطر...ولأني أخاف منها على ولدي الوحيد!
_ ولكن , تخاف علي من ماذا ؟
_ من هذه الدنيا نفسها , من البشر, من كل شيئ... إن هذه الدنيا مليئة بالأشرار و المخاطر !
_ و كيف لي أن أعلم إن كانت كذلك حقاً و أنا لم أخرج أصلاً إلى هذا العالم !!
_ وهل ينقصك شيئ في هذا القصر يا ولدي ؟ أخبرني ماذا تريد و سوف أحضره لك ولو كلفني ذلك كل ثروتي .
نظر سلمان في عيني أبيه وقال بصوت شجين:
_ السعادة ......السعادة يا أبي ! هل بإمكانك أن تشتريها لي ؟!!
سكت الأب و نظر إلى سلمان لبرهة ثم قبله بين عينيه و تركه لوحده
سلمان
على حافة الهاوية
مرت الأيام والأشهر وحالة سلمان تزداد سوءًا فوق سوء, وقد نالت الكئابة منه نصيباً عظيماً, فأصبح يفضل العزلة في حديقة القصر ويطيل النظر إلى السماء ويتأمل فيها .
و لم يعد أبوه يتحمل رؤية ابنه الوحيد يضيع منه ببطء, فذهب إلى كاهن القرية يطلب منه المساعدة في إعادة ابنه إلى رشده. فأتى كاهن القرية إلى القصر و طلب رؤية سلمان, وذهب إليه حيث يجلس في الحديقة وحده وبادر بتحيته :
_ مساء الخير يا ولدي! قال الكاهن لسلمان
_ مساء الخير يا سيدي! أجاب سلمان بصوت هزيل
_ بماذا تفكر يا صغيري ؟
صمت سلمان قليلاَ ثم نظر إلى السماء مجدداً وقال :
_ أفكر في حياتي في هذا العالم من حولي ! ولم أنا لست سعيدًا ؟
_ إذاَ أنت تبحث عن سر السعادة! .... السعادة...... إنها ضالة الإنسان التي يبحث عنها منذ الأزل .
ثم صمت الكاهن للحظة و نظر إلى شجرة تفاح بجانب سلمان و قال له:
_ انظر إلى هذه الشجرة يا سلمان ! أي نوع من الأشجار تكون؟
_ إنها شجرة تفاح ! أجاب سلمان مبتسماً من غرابة السؤال
_وكيف عرفت ذلك؟ سأل الكاهن
_ من ثمار التفاح تلك يا سيدي! ألا تراها متدلية من أغصانها؟!
_ إذًا فالثمرة تدل على الشجرة !
_ بالتأكيد!.........أجاب سلمان
_ إن السعادة كالشجرة يا سلمان لا تدركها إلى بثمارها !
لم يفهم سلمان كثيرًا ما قاله الكاهن ولكنه أحس بطمأنينة في حديثه إليه .
_ كلامك جميل أيها الكاهن...ولكن هل لك أن تساعدني في البحث عن سر السعادة الحقيقية ؟
ابتسم الكاهن في وجه سلمان ثم قال له :
_ يا سلمان .... اطلب من أبيك أن تزورني في المعبد غداَ عند الضحى!
ثم ودع الكاهن سلمان وانصرف, فركض سلمان باتجاه والده وطلب منه زيارة الكاهن قي الغد, فابتسم الوالد لرؤية الحياة تدب بابنه الوحيد واشترط عليه أن يتناول الطعام لكي يسمح له بذلك . و قد كان سلمان صائمًا عن الطعام لعدة أيام فصاح سلمان في أمه :
أمي...... أمي....... أعدي لي الطعام !........ إني جائع جدًا !
************************************************
الأفيستا
والنار المقدسة
طلب سلمان من (كورش) خادمه الخاص الانتظار خارج المعبد, ودخل إلى المعبد ليجد الكاهن في الردهة يتعبد و يصلي .
_ أهلًا يا سلمان ! إنني في انتظارك يا صغيري .
ثم أخذ الكاهن سلمان إلى داخل المعبد حتى وصل إلى موقد نار عظيمة يكاد لهبها يضيئ كالشمس !
_ انظر يا سلمان إلى هذه النار التي تنير لنا الظلمات وتنضج لنا الطعام وتمدنا بالدفء في برد الشتاء القارص ........ إن هذه النار ستمدك بالنور الكافي للوصول لضالتك .
فتح سلمان عينيه متأملا ثم قال :
_ حقا ! إن أحدا لا يستطيع أن يحيى من غير النار!
ثم مد الكاهن يديه إلى خزانة في ركن الغرفة و أخرج منها كتابا ناوله لسلمان قائلا :
_ هذا هو كتاب السعادة يا سلمان ......إنها الأفيستا !
_ الأفيستا ! قال سلمان متعجبا
_ نعم الأفيستا , كتاب زارادشت المقدس , هذه نسخة نادرة من بضع نسخ قام الفرس بكتابتها عن الكتاب المقدس الأصلي لزارادشت !
_ ولكن أين الكتاب الأصلي يا سيدي ؟ سأل سلمان
_لم يعد هناك كتاب أصلي يا سلمان , لقد اختفت كل النسخ الأصلية لكتاب زارادشت ! ثم تابع الكاهن :
قبل تسعة قرون قام رجل من بلاد الإغريق بغزو بلادنا ثم جمع كل كتب زاراداشت وقام بإحراقها جميعا !_
_من هو هذا الرجل يا سيدي ؟
_الإسكندر ......الإسكندر الأكبر يا سلمان !
لم يهتم سلمان كثيرا بقصة هذا الإغريقي وتاريخه, بل أخذ الكتاب من الكاهن وانكب يقرأ به .
وصار سلمان يأتي إلى المعبد كل يوم يتعلم من الكاهن ويقرأ الأفيستا ويصلي إلى النار العظيمة الباعثة للدفء . وأصبح سلمان هو المسئول عن إبقاء النار المقدسة للقرية مشتعلة طيلة الوقت, فكان يأتي في أوقات مختلفة ليضع الحطب للنار التي لا يجب أن تنطفئ وبعد أن يرمي الحطب يقوم بالتعبد لهذه النار!
أحيانًا... كان سلمان يتسائل عن هذا الرب الذي يحتاج إلى الإنسان ليقذف له بالحطب ليبقى موجوداً, ففي يوم من الأيام تأخر سلمان عن وضع الحطب للنار وكادت النار أن تنطفئ لولا أن سلمان عالجها بقليل من القش اليابس الذي جلبه من اسطبل البهائم بالقرب من المعبد فعادت الحياة للنار من جديد, فصلى لها سلمان شكرا لها على بقائها!
ثم حاول سلمان أن يسأل الكاهن عن هذا الرب الذي يحتاج للإنسان لكي يستطيع البقاء حياُ ولكن الكاهن نهاه عن كثرة الأسئلة وقال له :
_ الإيمان يا سلمان .....تذكر .....الإيمان, فإن الشيطان يريد أن يضعف من إيمانك بكثرة الأسئلة, ولا تنسَ أنه لولا هذه النار ما كان إنسان أصلاً على قيد الحياة لكي يتمكن من جمع الحطب لها, بل لانقطعت الحياة من أصلها!
لم يكن سلمان مقتنعا كثيرا بهذا الجواب, ولكنه كان يستمتع بقرائة الأفيستا وتعاليمها التي تحض على الحب و السلام بين الناس, وحب الطبيعة وكل المخلوقات, وإن كانت الأسئلة عن طبيعة هذا الرب تراوده من حين إلى آخر حتى و إن كانت تعاليمه سامية !
********************************
الخروج إلى العالم
مرض أبو سلمان مرضا أقعده طريح الفراش ولم يعد باستطاعته الذهاب إلى الضيعة خارج القرية , فطلب من سلمان أن يذهب إلى الضيعة الواقعة خارج أصفهان و ذلك للإشراف على جني الثمار في هذا اليوم
_ ماذا ؟ أنا ....أنا أذهب إلى الضيعة ؟ خارج أصفهان ؟! تسائل سلمان
_ أجل يا ولدي ! إنني كما ترى طريح الفراش , واليوم هو يوم الحصاد , ويجب أن تشرف على الحصاد بنفسك !
كانت الضيعة تقع خارج مدينة أصفهان , وكان سلمان حبيس القصور طيلة حياته , وهاهو الآن يُطلب منه الذهاب إلى خارج المدينة التي لم يعرف غيرها ! فانتابه شعور غريب بالخوف من المجهول , وبالرغم من أنه كان يحلم طيلة حياته باستكشاف العالم من حوله, إلا أنه الآن خائف حتى من مغادرة مدينته !
ومشى سلمان متجهاً لضيعة أبيه خارج أصفهان, وبينما هو غارق في تساؤلاته وإذ به يسمع أصوات أجراس تنبعث من كوخ على طريق الضيعة !!
وقد كان سلمان ظمآنًا شديد الظمأ ففكر بالذهاب إلى هذا الكوخ طلبا للماء , وإن كان فضوله لاستكشاف سر هذه الأجراس هو الدافع الأول الذي جعله يقصد الكوخ وقد هز رنينها قلبه لرقتها وعذوبة الترانيم المصاحبة لها.
_ طاب يومكم يل سادة ! أنا سلمان من أصفهان , هل لي بكأس من الماء ؟
_ بكل سرور ......تفضل يا ولدي العزيز .........أجاب شيخ كبير تبدو عليه ملامح الطيبة وقد كان ذا لحية بيضاء طويلة, وثوب أسود يلتف حول رقبته سلسة تحمل صليبا ذهبيا .
_ شكرا يا سيدي ! تناول سلمان الكأس و أخذ يشرب الماء وعيناه تحدقان بهؤلاء الرجال الذين يتلون هذه الترانيم الغريبة من حوله.
_ أشكر إليك جميل صنعك يا سيدي ! هل لي بسؤالك عن هذه الترانيم الجميلة ؟
_ إنها الصلاة يا ولدي ......نحن نصلي هنا !
_ صلاة ؟ استغرب سلمان ......ولكني لا أرى نارا هنا !
_ نحن لا نصلي للنار ,نحن نصلي للرب .........للرب يا ولدي !
سقط الكوب من بين يدي سلمان و أحس بإحساس غريب ينتابه عند سماعه اسم الرب !
_ ومن هو الرب ؟ سأل سلمان
_ الرب هو الذي خلق الجبال و الأنهار , الذي سخر كل شيء لجعل الإنسان سعيدا .
_ وكيف يكون الإنسان سعيدا ؟ تسائل سلمان
أخذ الكاهن يشرح لسلمان معنى السعادة الحقيقية النابعة من القلب وعن نعم الرب للإنسان من سمع و بصر.
كان سلمان منبهرا لما كان يسمعه من الكاهن وظل يستمع إليه حتى غياب الشمس فودع الكاهن ووعده بأن يأتي إليه في اليوم التالي.
وعند مغادرته تذكر سلمان بأن أباه قد طلب منه الإشراف على الحصاد, ولكن الليل كان قد حل فانطلق متجها إلى مدينته غير مبال بأمر الضيعة وأمر حصادها, فهاهو في أول رحلة له منذ ولادته يكتشف أناسا آخرين وفكرا آخر للسعادة .
*************************************
المواجهة
وصل سلمان إلى القصر واتجه مباشرة إلى حجرة أبيه ليطمئن على صحته فوجده مازال طريح الفراش فقبل رأسه وقال :
_ كيف حالك يا أبي العزيز ؟ إنك تبدو في حال أفضل مما تركته عليك صباحا .
_ أفضل قليلا يا ولدي , خبرني يا سلمان ..... كيف كان الحصاد ؟
_ سامحني يا والدي فإني لم أذهب إلى الضيعة فقد وجدت أناسا في الطريق يمتلكون دينا خيرا من ديننا ويعبدون إلهاً خيرا من إلهنا ويلبسون صلبانا في أعناقهم .
_ دعك من هذا الهراء يا ولدي فدينك دين الأجداد , كذلك ولدنا وكذلك نموت .
_ وإن كان أجدادنا على ضلال ؟ قال سلمان
_ ماذا ؟ أتركتك تخرج يوماً واحداً خارج المدينة لكي تعود إلي بهذا الحديث الغريب, لا تعد هذا على مسامعي أبداً واطلب من النار المقدسة أن تسامحك على هذا القول !
_ يا أبت , إن آلهة تحتاج إلى إنسان يسهر على وضع الحطب فيها لكي تبقى مشتعلة لا تستحق أن تعبد أبداً!
وعند هذه اللحظة قام أبو سلمان من فراشه غاضبا وعيناه تقدحان شررا وصفع سلمان صفعةً على وجهه .
_ أبي ! إنك لم تضربني طيلة حياتي !
_ يبدو أنك قد جاوزت الأدب مع أبيك .....اذهب الآن إلى المعبد وضع حطبا للنار واطلب المغفرة منها !
_ لن أذهب يا أبي , بل سأذهب إلى الكهنة المسيحيين غدا .
_ إذاً فإنك تعصي أباك !
_ إنك أبي العزيز, ولكن لا تطلب مني شيئا يتعارض مع العقل ولا تكرهني على عبادة ما لا ينفع ولا يضر .
نظر الأب بغيظ شديد إلى سلمان ثم نادى خدم القصر:
_أيها الخدم ! صاح الأب بصوت عال .....ائتوني بالسلاسل و أوصدوا هذا الولد العاق إلى أن يعود إلى رشده .
وما هي إلا لحظات حتى كان سلمان مشلول الحركة مقيدا بالأغلال .
ظل سلمان حبيس حجرته مغلول اليدين وكانت الأيام تمر عليه كالسنين , ولكنه كان قد طلب من خادمه الشخصي كورش أن يذهب إلى الكهنة المسيحيين ويخبرهم بما حل به ويأتيه بأخبارهم. وطالت أيام السجن وسلمان مقيد بأغلاله فبعث كورش ليسأل الكهنة عن منبع دينهم فأخبروه أن منبعه أرض الشام فطلب سلمان من كورش أن يخبرهم بأنه عازم على السفر إلى بلاد الشام إذا هم أحدهم بالسفر هناك. وفي يوم من الأيام جاء كورش سرا إلى سلمان وأنبأه بأن أحد الكهنة مسافر إلى الشام غداً صباحا . ففرح سلمان لهذا الخبر ثم ما لبث أن بدت عليه ملامح الحزن .
_ ما بك يا سيدي ؟ سأل كورش
_ كيف لي أن ألحق بهذا الكاهن المسافر وأنا كما تراني مغلول اليدين ! قال سلمان حزينا
ابتسم كورش ابتسامة خبيثة ثم أخرج من جيبه مفتاحا و قال :
_ وهل فاتني هذا الأمر يا سيدي ؟
_ ولكن .......كيف يا كورش؟!! كيف حصلت على المفتاح و قد أخبرتني أمي أنها بحثت عنه في كل أرجاء المنزل فلم تجده؟! .
ابتسم كورش ثم قال :
_ أظن بأن داريوسا جارية أبيك الحسناء مغرمة بخادمك المطيع كورش لدرجة دعتها أن تسرق المفتاح منه وتعطيه لي مقابل وعد زائف مني بالرحيل معها لقريتها غدا و الزواج منها!
فك كورش قيد سلمان و قد عزم على مصاحبته إلى بلاد الشام ,ثم أعطاه ملابسا للخدم للتخفي, و خرج الاثنان في عتمة الليل فتسللا خارج القصر ولما جاوزا علت صيحة مدوية في القصر و انبعث الحرس يبحثون عن سلمان , فاختبأ سلمان و كورش فوق شجرة بالقرب من القصر, وانكب الحرس يبحثون عنهما طوال الليل , وطال وقت الإختباء, ولاحظ كورش أن دموعا تنهمر من عيني سيده فقال :
_ لماذا تبكي يا سيدي , فنحن في أمان هنا, لن يعثروا علينا أبداً ! _ أعلم أننا بأمان من الحرس فوق هذه الشجرة يا كورش, ولكن إذا بقينا مختبئين طيلة الليل فلن نلحق بركب الكاهن المغادر في الفجر, وأخشى أن هذه هي فرصتي الأخيرة للبحث عن ضالتي, وإن هؤلاء الجنود لن يتركوا هذا المكان حتى الصباح . صمت كورش للحظة ونظر بكل حنان إلى سلمان ثم ابتسم وعيناه تفيضان بالدموع وقال لسلمان : _ لقد عشت معك منذ أيام طفولتك, كنت فيها سيدي و أخي في آن واحد ولم تشعرني أبداً أني خادمك, اذهب سلمان .... وامض في مغامرتك وابحث عن سعادتك المنشودة واعلم بأني قد تشرفت برفقتك طيلة هذه السنين. _ ماذا تقصد يا كورش؟ قال سلمان متعجبا ابتسم كورش ومسح على كتف سلمان وقال له : _ سمعت أن نساء الشام فائقات الجمال, ولكن يبدو أن قدري اختار لي داريوسا الحمقاء لأعيش معها بقية عمري ! ثم قفز بخفة عجيبة من فوق الشجرة و أخذ يجري و يصيح بالحرس ليلفت انتباههم . وما هي إلا ثوان معدودة حتى كان كل الحرس يركضون خلف كورش الذي اتجه في الطريق المعاكس لطريق سلمان . كانت الصدمة قد شلت عقل سلمان قبل جوارحه, ولماَ أدرك ما فعله كورش من أجله حاول أن يتبعه ولكنه كان قد ابتعد ساحبا معه كل الحرس. فأخذ ينظر إلى السماء باكيا حزنا على كورش فوجد أن الفجر يكاد ينبثق فتذكر الكاهن المسافر , فأخذ يركض باتجاه كوخ الكهنة متسابقاً مع الشمس التي أوشكت أن تشرق ودموعه تتطاير خلفه وداعا لخادمه الوفي .
كان الكاهن قد انتظر طويلا . وعندما أشرقت الشمس يأس من قدوم سلمان وهم بالرحيل وحده . فودع باقي الكهنة وركب على فرسه, وإذ به بخيال كالشبح يقترب مسرعاً باتجاهه من بين الأشجار! _ انتظرني يا سيدي ....................انتظرني ............. إني راحل معك !!
***********************************
بداية المغامرة
الطريق إلى الأرض المقدسة
كانت الشام تقع قي أقصى غرب آسيا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط , وكانت أصفهان الواقعة في قلب الأمبراطورية الفارسية تبعد عنها مسيرة أشهر . وكان لزاما على سلمان والكاهن أن يقطعا أولاً نهر ( زاينده ) الذي كان بمثابة شريان الحياة لمدينة أصفهان القليلة المطر, لذلك أسماه الفرس (زاينده ) ويعني بالفارسية (نهر الخصب) لأنه سبب خصوبة أصفهان التى أسموها (أصفهان نصف جيهان) أي (أصفهان نصف العالم) وذلك لكثرة حدائقها و جمال أرضها . وكان سلمان راكبا خلف الكاهن على نفس الفرس وعيناه تتأملان الجبال و الوديان التي يمران بها , وكان كلما مر بشيء لم يره من قبل سأل الكاهن عنه, فكان الكاهن الطاعن في السن يحاول أن يجيب عن أسئلة هذا الشاب الذي يريد أن يتعلم كل شيء . ولكن التعب كان يعييه من كثرة أسئلة سلمان الذي يرى العالم لأول مرة , فيغرق الكاهن العجوز في النوم أحياناً فوق ظهر الفرس ويتظاهر بالنوم أحياناً أخرى ليتخلص من أسئلة سلمان التي لا تنتهي, وما أن تبدو عليه مظاهر اليقظة حتى يعيد عليه سلمان طرح الأسئلة , فيذعن الكاهن لرغبته و يجيبه عن سؤاله . كانت الأيام تمر بسلمان والكاهن في طريقهما إلى بلاد الشام , وكان سلمان كلما ابتعد في طريقه ورأى جمال الأرض من حوله ازداد ندمه على الأيام الضائعة التى قضاها في قريته في أصفهان حبيس القصور, وفي هذه الأرض ما فيها من جمال لا يراه إلى من تحرر من قيد القصور وزينة الدنيا الخادعة . وكانت كسرة الخبز اليابسة التى يتقاسمها مع الكاهن ألذ وأشهى من كل الموائد التى كانت تقام في قصر أبيه . وبينما كان سلمان راكبا خلف الكاهن يتأمل طبيعة الأرض من حوله و إذ بالفرس تقف بهم ! _ لماذا توقفنا يا سيدي ؟ سأل سلمان _ نحن على أعتاب مدينة ( ديزفول ) يا سلمان ! وقد وصلنا إلى خندقها ! _خندق أي خندق ؟ تساءل سلمان _ إنه خندق مدينة ( ديزفول ) العظيم الذي أنقذ هذه المدينة من جيش (الإسكندر الأكبر) الجرار الذي اجتاح العالم بأسره . كانت هذه هي المرة الثانية التي يسمع بها سلمان عن هذا الفاتح الإغريقي الذي غزا العالم من أقصاه إلى أقصاه فأخذ يسأل الكاهن عنه , فقص الكاهن على سلمان أسطورة الإسكندر الأكبر التي يتداولها الناس منذ أن تسلم الحكم وهو شاب يافع بعد مقتل أبيه , فوحد بلاد الإغريق كلها تحت رايته قبل أن يسيطر على مصر ويبني فيها مدينة (الإسكندرية ) ثم يتجه شرقا فيحتل سائر الإمبراطورية الفارسية ثم يفتح بلاد الهند قبل أن يداهمه مرض غريب قيل أنه بسبب سم دس له من المقربين إليه , فمات في طريق العودة وهو شاب لم يتجاوز الثالثة و الثلاثين بعد أن قال وهو على فراش الموت جملة غامضة لم يفهمها الكثيرون حوله , فقال لقادته وأصحابه (إلى الأقوى ! ) . فدفن في مكان مجهول إلى يومنا هذا مع كنوز لم يرى الإنسان بقدرها على مر الأزمان, و حيكت حوله الأساطير العجيبة , وأصبح قبره إلى يومنا هذا قبلة للباحثين عن الكنوز ! مرت الأيام و الليالي وسلمان والكاهن يمر من أرض إلى أرض , ومن واد إلى واد , حتى وصل إلى نهر عظيم لا يكاد يرى ضفته الأخرى ! _ أين نحن الآن يا سيدي الكاهن ؟ سأل سلمان _ هذا هو نهر دجلة العظيم ............. يا سلمان .......مرحباً بك في بلاد الرافدين !
*************************************
بلاد الرافدين
كانت بلاد الرافدين ( العراق حالياً ) من أجمل البلدان في الأرض , وقد سميت بهذا الاسم لأن نهرين عظيمين يمران بها وهما (دجلة) و (الفرات) . وقد نشأت فيها حضارات عظيمة مثل حضارة السومريين و الكلدانيين و الآشوريين و البابليين . و قد اشتهر أهل هذه الأرض بالحدائق الغناء مما دعا المؤرخ الإغريقي (هيروديت) أن يعد حدائق بابل المعلقة إحدى عجائب العالم السبع . ومن شدة جمال هذه الأرض وكثرة خيراتها كانت دائما مطمعاَ للفرس , فقاموا باحتلالها , بل و اتخذها الساسانيون ( العائلة الامبراطورية الفارسية ) موطناَ لعاصمتهم (المدائن) التي كانت من أعظم مدن الأرض آنذاك . وكانت أنوار المدائن تتلألأ لعيني سلمان من بعيد وهو يقترب منها شيئاً فشيئاً . كانت (المدائن) مدينة حصينة , بناها الفرس بين نهري (دجلة) و (الفرات) ، وعندما دخلها سلمان انبهر بعظمة بنيانها وجمال سوقها. وكانت ملابس سلمان التي أعطاه إياها كورش قد اهترأت من طول الرحلة , فاشترى الكاهن الطيب لسلمان شيئاً ليلبسه ويعينه على إكمال رحلته ثم اشترى شيئاَ من الطعام ليتزودا به في طريقهما, وهمَّ الاثنان بالإنصراف من المدينة . وقبل عبور نهر الفرات لاحظ سلمان قصراً لم يرى بعظمته من قبل , تحيط به حدائق خضراء لم يرى بجمالها من قبل, فأراد أن يلقي نظرة عن قرب على هذا القصر العظيم . _ بإذنك يا سيدي ...فلتمهلني بعض الوقت لأرى هذا القصر عن قرب وأعود بسرعة ! ضحك الكاهن ضحكة احمر لها وجه سلمان خجلاً ثم قال : _ بإمكاني أن أمهلك وقتاً لك لكي تقترب من هذا القصر , ولكني لا أظن أنك سوف ترجع إلي ورأسك فوق كتفيك يا صغيري ! _ لماذا يا سيدي ؟ تعجب سلمان _ إنه قصر كسرى ................ امبراطور فارس العظيم !
********************************
الفراق
مرت الأيام بسلمان و هو راكب خلف الكاهن على ذات الفرس , وقد نشأت علاقة من نوع خاص بين الإثنين على طول الرحلة . _ أترى هذه الأسوار يا سلمان ؟..... إنها أسوار (أورسالم) .............. إيلياء الأرض المقدسة ! قفز سلمان من على ظهر الفرس و أخذ يتأمل الأسوار العالية أمام ناظريه ثم التفت إلى الكاهن متسائلاً : _ هل هذا هو المكان الذي سوف أجد أجوبة عن ماهية الإنسان ومغزى الحياة ؟ _ أرجو ذلك يا ولدي ................أرجو ذلك. ثم نزل الكاهن من على ظهر الفرس ووضع يده في جيبه فأخرج قطعتين من الذهب كانتا كل ما يملك من مال . _ خذ هذا يا ولدي ! فأنت بحاجة إليه أكثر مني , وها أنا قد أوصلتك إلى حيث تريد , وأظن أن لحظة الوداع قد أزفت ! _ ماذا ؟ .......كيف؟ .....كيف تتركني لوحدي أيها الأب الطيب ؟ _ لست وحدك يا طفلي ...لست وحدك, فإن الرب معك ! فالرب الذي قادك إلينا في كوخنا النائي في أول خروج لك من مدينتك منذ مولدك , لن يضيعك ! وإني خبرت الناس في حياتي الطويلة وإني رأيت في عينيك شيئاَ ما رأيته في أحد من قبلك في بحثه عن الحق, وإني لأرى أنك ستصبح ذا شأن عظيم يوما ما ! انكب سلمان باكياَ بين ذراعي الكاهن ثم نظر إلى الكاهن وقال له : _ ولكن إلى أين؟ إلى أين أيها الأب الطيب ؟ _ في هذه الدنيا يا سلمان هناك الكثيرون ممن يريدون أن يغيروا من حياة الضياع التي يعيشونها , ولعلي أجد بعضا منهم لكي أدلهم على طريق المسيح الذي يدعو إلى الخير و الصلاح. ولكن هناك شيء أريد ذكره لك قبل رحيلي. _ وماذا يكون ذلك يا سيدي ؟ _ كل ما صنعته لك هو أني قد أرشدتك إلى الباب , أما الدخول من عدمه فهو باختيارك, و إن أنت لم تختر بنفسك أن تدخل , فلن يُدخلك أحد قط إليه ! ثم ركب الكاهن على دابته ومضى في طريقه وسلمان يودعه بناظريه مبتعداً , ثم التفت إلى بوابة المدينة العظيمة وأخذ يتأمل كلام الكاهن . _ ترى ما الذي كان يقصده الأب الطيب بعبارته الأخيرة لي؟! أي باب كان يقصد؟ تساءل سلمان في نفسه لم يطل سلمان التفكير وإنما مدى خطاه ليدخل المدينة المقدسة ........إيلياء.
**********************************
أورسالم...(القدس)
لم يذكر التاريخ مدينةَ حظيت باهتمام وذكر في القصص و الأساطير كالذي حظيت به مدينة إيلياء. ويذكر التاريخ أن أول اسم ورد لهذه المدينة هو (أور سالم) وهو الاسم الذي أطلقه عليها الكنعانيون ويعني (مدينة السلام). وبالرغم من هذا الاسم الذي تحمله هذه المدينة الغريبة, إلاْ أنها كانت بعيدة كل البعد عن السلام الذي تحمل اسمه على مر العصور حتى يومنا هذا (إلا في فترات محدودة). فاحتلتها شعوب كثيرة كانت كل منها تدعي أنها صاحبة الحق بهذه المدينة. فقد كان الكنعانيون و اليبوسيون أول من سكنها, ثم قام الملك داوود بالسيطرة عليها عام 1004 ق.م. واحتلها البابليون والفرس والإسكندر الأكبر ملك الإغريق قبل أن يستولي عليها الرومان وتصبح من نصيب الامبراطورية الرومانية الشرقية بعد أن قسم (ثيودوسيوس الأول) الامبراطورية الرومانية العظيمة بين ولديه. فكانت الامبراطورية الرومانية الغربية وعاصمتها مدينة (ميلانو) من نصيب ابنه (هونوريوس), وكانت الامبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها القسطنطينية (اسطنبول حالياَ) من نصيب ابنه الآخر (أركاديوس).
كان سلمان حزيناَ لفراق الكاهن الطيب, إلاً أنه كان يشعر بأنه اقترب شيئاَ ما من حلمه عند دخوله هذه المدينة. فقام بسؤال أهل المدينة عن أعلم رجل فيها, فدلوه على كاهن طاعن في السن كانوا يعدوه أعلم رجل في الشام كلها. فذهب إليه سلمان و قص عليه حكايته , وطلب منه أن يخدمه على أن يعلمه من علمه , فقبل الكاهن هذا العرض, واعجب باجتهاد سلمان في خدمته والحرص على طلب العلم, فاتخذه خادما شخصياَ له, فلم يكن يذهب لأي مكان دون أن يصطحب سلمان معه, فأحبه سلمان حباً جماً . وقد لاحظ سلمان أن الكاهن كان يطلب منه أن يحمل كيساَ به حمل مجهول ويتبعه إلى مكان خال من البشر, ثم يطلب من سلمان أن ينتظره في مكانه فيأخذ هذا الكيس ويعود به فارغاً. وفي ليلة من الليالي طال غياب الكاهن وسلمان ينتظره, فقلق سلمان على سيده وخشي أن يكون قد ألم به شيئ, فذهب حيث يوجد الكاهن فوجده بخير لم يصبه أي مكروه, ولكنه صعق مما قد رآه ! رأى سلمان الكاهن يخرج من تحت الأرض جرة بها ذهب كثير ثم يفرغ ما بالكيس من ذهب وفضة في هذه الجرة ثم يعيد دفنها. سقط سلمان على الأرض من هول ما رأى, ودار في ذهنه ما كان يقوله له أبوه عن هذه الدنيا وما بها من شر في قلوب الناس. فقد كان هذا الكاهن يأخذ أموال الناس التي يتصدقون بها ويقوم بكنزها لنفسه. فهانت في عيني سلمان هذه الدنيا, وكره هذا الرجل كرهاً شديداً, بل وقد عزم على إنهاء مغامرته والعودة لبلده طالباً السماح من أبيه لتهوره, ولكنه لم يكن يملك شيئاً من المال ما يعينه في سفره.
ظل سلمان يخدم هذا الكاهن الذي أصبح الآن أكثر إنسان يكرهه على وجه الأرض. وفي يوم من الأيام أحضر سلمان طعام الإفطار للكاهن في حجرته حيث اعتاد تناوله على سريره الذهبي, فوجده ملقاً على فراشه الحريري وقد لفظ أنفاسه الأخيرة, فحزنت البلاد كلها عليه, وأخذ الناس في المدينة يبكون على رحيل كاهنهم, فذهب سلمان إلى سوق المدينة وجمع الناس حوله ثم قال : _ أيها الناس .....إن هذا الرجل الذي تذرفون الدمع عليه لهو رجل سوء, وإنه كان يجمع الصدقات منكم ولا ينفقها على الفقراء ! عند ذلك هم الناس بضرب سلمان لذمه سيدهم لولا أنه طلب منهم أن يتبعوه ليتأكدوا بأنفسهم, فأخذهم سلمان إلى مكان الأموال, فحفر الناس تحت الأرض فوجدوا سبع جرار مملوءة بالذهب و الفضة! وعندها اندفعت جموع الناس الغاضبة إلى بيت الكاهن و أخذوا جثته من فوق فراشه الحريري وسحلوها ثم صلبوها وأخذوا يرجموها بالحجارة. ثم اختار الناس رجلاً آخر ليخلف مكان الكاهن, وكان هذا الكاهن الجديد على عكس من قبله تماماَ. فقد فكان زاهداً عابدً, فأصبح أحب أهل الأرض على قلب سلمان, فصحبه سلمان يتعلم منه كل يوم إلى أن أتاه الموت فجلس سلمان بجانبه وقال : _ إلى من توصي بي أيها الأب؟ وما تأمرني؟ _ أي بني........والله ما أعلم أحداَ اليوم على ما كنت عليه, لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلاً رجلاً بالموصل وهو على ما كنت عليه, فالحق به ! ثم مات الكاهن الطيب . فرحل سلمان لى أرض الموصل (شمال العراق) كما أوصاه سيده قبل وفاته. فبحث عن الكاهن الموصلي حتى وجده, فقص عليه حكايته وكيف أن سيده أوصاه أن يصحبه, فرحب به الكاهن, وصحبه إلى أن حضرته الوفاة فسأله سلمان بماذا يوصيه قبل وفاته , فقال له الكاهن الموصلي : _ أي بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به ! ثم مات الكاهن، فرحل سلمان يقصد مدينة نصيبين ( جنوب شرق تركيا )، فوجد صاحب نصيبين ، فأخبره بما جرى وما أمره به صاحبه الموصلي ، فرحب به الكاهن ، وأقام عنده سلمان يتعلم منه حتى أتته المنية، فسأله سلمان عن وصيته فقال له : _ أي بني، والله ما أعلم أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فأته فإنه على مثل أمرنا . ثم مات الرجل الطيب. فأعد سلمان راحلته وهم بمتابعة مغامرته في البحث عن السعادة ، فركب فرسه وقال لنفسه : _ إلى أرض عمورية إذاً !
*********************************
سر كاهن عمورية
كانت عمورية تقع في قلب آسيا الصغرى (تركيا حالياً) . وكان الكاهن المسيحي الذي قصده سلمان في عمورية رجلاً صالحاً غزير العلم واسع المعرفة ،فقص عليه سلمان مغامرته في البحث عن السعادة ، فأعجب الكاهن بعزم هذا الشاب ومثابرته في البحث عن الحق ، فصحبه سلمان وأحبه حباً عظيماً ، وبادله الكاهن محبةً بمحبة ، وقام بمعاونة سلمان ببعض المال ، فتاجر به سلمان وأصبح ذا مال وقطيع. وعاش سلمان مع الكاهن المسيحي أياماً سعيدةً يتعلم منه مما أوتي من علم ، حتى جاءت تلك الليلة الغريبة التي قلبت حياة سلمان ظهراً على عقب !........
كانت ليلة ليلاء, شديدة العتمة غاب عنها ضوء القمر, زاد من عتمتها سحابة ممطرة حجبت بريق النجوم عن سماء عمورية . فكان البرق يطعن أرض هذه المدينة بنصل لامع ليتبعه هزيم الرعد، فيتردد صداه بين جدران الكنيسة... فيزيد من رعب ظلمة الليل الحالك. ومما زاد من وحشة هذه الليلة المرعبة أن الكاهن الطيب قد مرض مرضاً شديداً أبقاه طريح الفراش منذ عدة أيام ، فأخذ سلمان يصلي له منذ الصباح ويجهش في البكاء حزناً على معلمه . وفي منتصف هذه الليلة وبينما سلمان يصلي للكاهن في عتمة الكنيسة وصوت الرعد يزمجر في أرجائها, وإذ بضوء خافت يقترب من حجرة الصلاة حيث كان يصلي, فصمت سلمان عن الصلاة وأخذ يترقب هذا الضوء الذي يقترب منه شيئاً فشيئاً، ولماَ أصبح الضوء قريباً من باب الحجرة أمعن سلمان بناظريه يترقبه, فلم يصدق سلمان عينيه من هول ما رأى !
_ سيدي الكاهن !! لماذا غادرت فراشك أيها الأب الطيب وأنت في هذه الحالة ؟! نظر الكاهن إلى سلمان وقد عكس ضوء الشمعة التي يحملها بريق عينيه المجهدتين من شدة المرض فقال بصوت خافت أنهكه المرض : _ اتبعني يا سلمان ! ثم استدار و أخذ يمشي بخطوات بطيئة بين دهاليز الكنيسة وسلمان يتبعه لا ينطق ببنت شفة وصوت الرعد يكسر سكون المكان، حتى وصل إلى قبو الكنيسة ، فوقف الكاهن والتفت إلى سلمان فارتعب سلمان من الشحوب المرعب لوجه الكاهن وقد أصبح قريباً منه ! _ هل أنت على ما يرام يا أبت ؟ هل أذهب فأستدعي لك طبيب المدينة ؟ _ اجلس يا سلمان ! فليس لدي الكثير من الوقت ، وعندي ما اطلعك عليه ! قال الكاهن جلس سلمان قبالة الكاهن و ضوء الشمعة يضفي على المكان رهبة وغموضاً زاد من غموض المجلس . _ يا سلمان ....لقد تركت أرضك و أهلك وخرجت في هذه المغامرة بحثاً عن السعادة ، ورحلت من مكان إلى مكان طلباً لها ولقد أتى بك القدر إلي من بلاد بعيدة ، فما رأيت أحداً أحرص منك على البحث عن الحق، ولكني أخشى أن أجلي قد اقترب ! _ أرجوك أن تخلد إلى فراشك الآن يا سيدي، فأنت تحتاج إلى الراحة . قال سلمان _ دعني أكمل حديثي يا سلمان ! قال الكاهن بحدة أسكتت سلمان قبل أن يُهدأ من حدته ويخاطبه بعطف الوالد على ولده : _ أي بني ! والله ما أعلم أحداً من الناس على ما كنا عليه لكي أوصيك أن تذهب إليه من بعدي ! وما أن قال الكاهن ذلك حتى فاضت عينا سلمان بالدموع . فلقد زاد من حزنه على قرب فراق الكاهن احساسه بالضياع من بعده . _ ولكن..................! استدرك الكاهن _ ولكن ماذا يا سيدي ؟! وهنا اقترب الكاهن من سلمان و نظر إليه بنظرة ملؤها الأمل وقال له: _ ولكن .....لقد أطلك وقت نبي آخر الزمان ! _ ماذا ؟ نبي آخر الزمان !! _ نعم نبي يا سلمان ! ورسول للناس في كل مكان على وجه الأرض ! نظر سلمان بإمعان لوجه الكاهن, فقد ظن أن حديث الكاهن ما هو إلاَ بفعل الحمى التى اشتدت وطأتها عليه، ولكنه فوجئ أن الكاهن جاد في حديثه ! _ ولكن يا سيدي ....إن الكتاب المقدس لم يذكر شيئاًعن هذا النبي!! بل إن المسيح في الكتاب المقدس قد حذر أتباعه من رجال يأتون من بعده يدعون النبوة وهم كاذبون ! ابتسم الكاهن بصعوبة في وجه سلمان ثم قال : _ ولكن المسيح لم يقل أبداً أنه لن يأتي نبي من بعده ! بل لقد كان اليهود ينتظرون قدومه بعد المسيح ! صمت سلمان للحظة وقد وضع يده على رأسه وكأنه يعصر أفكاره، ففهم الكاهن المسيحي ما يفكر به تلميذه النجيب، فقد كان سلمان يحفظ الكتاب المقدس عن ظهر القلب، فحاول أن يسترجع عبثاً ما ورد به من نبوءات مستقبلية ولكنه لم يجد ما يشير إليه الكاهن من نبوءة عن هذا النبي، فقاطع الكاهن أفكار سلمان قائلاً : _ هل تذكر يا سلمان ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا (19-1 ) ؟ نظر سلمان إلى الكاهن ، ثم قال : _ لقد ورد الآتي يا أبت : (19 وهذه هي شهادة يوحنا حين ارسل اليهود من اورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من انت. 20 فاعترف ولم ينكر واقرّ اني لست انا المسيح. ) ثم توقف سلمان عن القراءة وقال للكاهن : _ ولكن هذا يدل على أنهم كانوا ينتظرون المسيح ، وقد جاء بالفعل ! _ لا تتوقف عن القراءة ، أكمل يا ولدي _ قال سلمان يكمل ما ورد في إصحاح يوحنا : ( 21 فسألوه اذا ماذا. ايليا انت. فقال لست انا. النبي انت. فاجاب لا. ) ثم بادر الكاهن سلمان قائلا ً : _ إذاً فقد كان اليهود ينتظرون المسيح وقد جاء كما قلت ، ولكنهم كانوا ينتظرون ايضاً نبي فسألوا يوحنا إن كان هو النبي ! ولاحظ يا ولدي أنهم سألوه (النبي انت؟) ولم يقولوا ( نبي انت؟) أي أنهم كانوا ينتظرون نبياً بعينه يأتي بعد المسيح! لم يقتنع سلمان كثيراً بكلام الكاهن المسيحي , ففهم الكاهن ذلك من عينيه الحائرتين، فقال له : _ سلمان! هل لك أن تقرأ لي ماذا قال المسيح لأصحابه في الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا (7-16) ؟ _ ماذا ؟ الإصحاح السادس عشر ؟ حسناً يا أبت ... يقول المسيح : (7 لكني اقول لكم الحق انه خير لكم ان انطلق .لانه ان لم انطلق لا يأتيكم المعزي . ولكن ان ذهبت ارسله اليكم ) _ ولكني يا أبت قد تعلمت و أنا في إيلياء أن المقصود بالمعزي هنا هو الروح القدس . قال سلمان _ لقد قال أرسله .....أرسله يا سلمان! أي أنه لم يكن موجوداً عندما قال المسيح هذا الكلام ! والروح القدس موجود منذ الأزل كما تعرف يا ولدي . فقد كان الروح القدس مع امرأة زكريا (اليصابات) قبل ولادة المسيح وورد ذلك بكل وضوح في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا : (1: 41 فلما سمعت اليصابات سلام مريم ارتكض الجنين في بطنها و امتلات اليصابات منالروح القدس) بل كانت مع زكريا قبل ولادة المسيح أيضاً في نفس الإصحاح في إنجيل لوقا : (1:67 وامتلأ زكريا أبوه من من الروح القدس ) بل إن الكتاب المقدس يوضح أن المعزي ليس هو الروح القدس الذي كان موجودا مع الرجل الصالح (سمعان) أثتاء حياة يسوع كما جاء في الإصحاح الثاني من لوقا : (2:35 وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان . وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه ) فتح سلمان عينيه كأنه عثر على شيئ كان خفياً عليه طيلة الوقت ثم قال : _ أجل ........كيف لم أنتبه إلى ذلك من قبل ؟! إذاً فيجب علي أن أرجع إلى أور سالم من جديد و أنتظر هذا النبي . صمت الكاهن لبرهة من الزمن ثم نظر إلى سلمان وقال : _ لا يا ولدي!.......ليس الأراضي المقدسة هذه المرة .......لن يخرج من أورسالم ! _ ولكنها أرض الأنبياء يا أبت ! انها أرض الميعاد ..... لقد سكنها اسحق و داوود و سليمان و زكريا و عيسى وغيرهم الكثيرون من الأنبياء و المرسلين من شعب الله المختار.... اليهود ! _ صدقت يا سلمان ، فقد خرج أغلب الأنبياء من اليهود (بني إسرائيل) حتى خرج المسيح من بينهم فلم يؤمنوا به فقال لهم المسيح في إنجيل متى الإصحاح الحادي والعشرين (43-21) : (43 لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل اثماره) _ نعم ! ينزع منهم............ولكن إلى أين أيها الأب الطيب؟ إلى أين ؟ تساءل سلمان _هل تذكر ما قاله موسى نقلاً عن الرب في الإصحاح الثامن العشر من سفر التثنية يا سلمان ؟ ( 18 اقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل مااوصيه به .) قرأ سلمان ثم أضاف : _ ولكن أليس المقصود هنا هو المسيح ؟ ثم إن الرب يقول من اخوتهم ، أي من إخوة اليهود والمسيح هو من اليهود و الرب يقول أيضاً ان ملكوت الله ينزع منكم) إنني لم أعد أفهم شيئاً ...كيف يقول الرب ان ملكوت الله ينزع منكم) ثم يقول مرة ثانية : (اقيم لهم نبيا من وسط اخوتهم مثلك ) ؟!! ابتسم الكاهن بوجه سلمان الذي تملكته الحيرة فأصبح يحوم حول الكاهن يحاول عبثاً أن يربط ما ورد في الكتاب المقدس بعضه ببعض . _ إن الأمر أبسط مما تتخيل يا سلمان .... إن الرب قد قال لموسى (مثلك) وهذا يعني أن المقصود هنا ليس المسيح! لأن المسيح ليس كموسى، فموسى ولد من أب وأم ، ومات و دفن ، وتزوج و أنجب ، وهذا كله لا ينطبق على المسيح! ثم أن الرب قال (من وسط اخوتهم) ولم يقل (من وسطهم ) أو (من بينهم ) أو (منهم) أو حتى (من أبنائهم أو نسلهم) . _ وما الفرق بين ذلك و ذاك يا سيدي ؟ تساءل سلمان _ من هم أخوة اليهود يا سلمان ؟ _ لم أفهم ماذا تقصد يا أبت ؟ _ من هو أبو اليهود (بني إسرائيل) يا سلمان؟ _ إسحق بن إبراهيم من زوجته سارة . _ ومن هو أخو اسحق ؟ _ ومن هو أخو إسحق ؟ _ إسماعيل بن إبراهيم من زوجته هاجر الجارية . قال سلمان ثم ابتسم الكاهن ثم سأل سلمان : _ وإسماعيل هو أب لأي أمة يا صغيري ؟ صمت سلمان لثانية وكأن صاعقة من السماء قد أصابته ثم قال للكاهن بصوت تملؤه الدهشة : _ ماذا ؟!! مستحيل!!!!! العرب!!!!!!
**********************************
لماذا العرب؟!!
(هو الذي بعث في الأميين رسولاً)
تغير وجه سلمان وبدا عليه الضيق و الغضب ، فقد كان العرب المجاورون لأرض فارس مجرد تبع للفرس . و قد كان كل ما يعرفه سلمان عن العرب أشياءاً فظيعة! _ ولكن لماذا ؟ لماذا العرب ؟ إننا في بلاد فارس نعرف العرب كثيراً ، فهم أمة تعيش في الصحراء مع الجمال ، ويعبدون أصناماً يصنعونها بأيديهم ، وليس لديهم حضارة تذكر كحضارة الفراعنة أو الإغريق ، وليس فيهم ملك أو مملكة بل هم قبائل متفرقة تعيش على الرعي وحياة البداوة ، ولم يذكر التاريخ اسهاماّ علمياً لأحدهم ، فليس فيهم عالم فلك كعلماء الفرس أو فيلسوف كفلاسفة الإغريق والهنود ، وإن من يستطيعون القراءة والكتابة لديهم قليلون جداً. كيف يختار الرب هذه الأمة الغبية لنشر آخر الرسالات للبشرية كلها با أبت؟! كيف تكون هذه الأمة ال......................... توقف سلمان عن الحديث وكأن صاعقة أشد من سابقتها قد ضربته ففهم الكاهن ما دار بذهن تلميذه فنظر لوجه سلمان ضاحكاً ثم قال: _ صدقت يا سلمان ......صدقت أمة غبية ! ثم قال الإثنان بصوت واحد وكأنهما يقرءان أفكار بعضهما البعض : (32:21 تثنية : هم أغاروني بما ليس إلاهاً . أغاظوني بأباطيلهم . فأنا أغيرهم بما ليس شعباً. بأمة غبية أغيظهم) وقف سلمان عن الحركة ، وتعجب من من هذا الذي قاله الرب في سفر التثتية ، وكيف لم ينتبه إليه من قبل وقد قرأه مئات المرات قبل ذلك ! _ ولكن هل يختار الرب هذا النبي الذي يحمل الرسالة الأبدية من أمة غبية لمجرد إغاظتهم أيها الكاهن؟ إن هذا ليس عدلاً! فهذا الدين هو آخر الأديان الذي يتوقف عليه مصير البشر بعد موتهم ، فيجب أن يكون الإختيار دقيقاً ! _ كلا يا سلمان! ليس المقصود بالأمة الغبية هنا أنها ناقصة للذكاء لأنه ليس هناك جنس بشري يتميز عن جنس آخر بالذكاء, ولكن المقصود بهذه الأمة أنها أمة غالبها من الأميين, فيبعث الرب في هؤلاء الأميين رسولاً! بل إن الإختيار لأمة لم يظهر بها مفكر أو فيلسوف جاء مقصوداً . فلو أنه ظهر في الأرض المقدسة لقيل أنه مجرد مدع جمع من حكم من قبله من الأنبياء. ولو ظهر هذا الرسول في أمة كان بها فيلسوف من قبله لقال الناس إنما هو فيلسوف آخر أتى بفكر جديد. ثم تخيل معي يا سلمان أن يخرج هذا الرسول في أمة بها فلاسفة عظام مثل (أرسطو) و (أفلاطون) ، وتخيل أيضاً أن الإغريق صدقوه هناك، فما الذي سوف يفعله هؤلاء المفكرون والفلاسفة بهذه الرسالة من بعده؟ سوف يحرفونها من دون أدنى شك ،وسوف يفسرها كل فيلسوف على حسب منهجه، وعندما تصل هذه الرسالة إلى الشعوب الأخرى سوف تكون شيئاً مختلف عن الذي أنزله الرب، وليس هذا غريب على الفلاسفة الذين اختلفوا عن منشأ الطير أكان بيضة أم طيراً في البداية . وأنت تعرف جيداً أن العرب بما فيهم من مساوئ يمقتون الكذب ولا يحترمون من يكذب وهم قوم يقدمون أرواحهم من دون أي خوف من أجل رسول آخر الزمان فيُضمن أنهم لن يكذبوا على رسولهم بعد مماته ولن يحرفوا كتابه وراسلته, ثم أن الرب سيغير من حال هذه الأمة بعد مجيئ هذا الرسول، فبعد أن يؤمنوا به سيصبحون أمة متعلمة عظيمة تنشر دين الرب وتبدع في مختلف نواحي العلوم الإنسانية من رياضيات وفلك وطب وغير ذلك كما وعد الرب إبراهيم في سفر التكوين (21:12) : (21:12..وابن الجارية أيضاً سأجعله أمة عظيمة) والجارية هي (هاجر) ولم تأتي أي أمة من نسل هاجر تحمل صفة العظمة إلى الآن ...فمن ستكون هذه الأمة التي وُعد ابراهيم غير العرب؟! كان سلمان يتحرك جيئة و ذهابا في أرجاء الغرفة يستمع لتحليل الكاهن وضوء الشمعة الخافت يضفي جواً من الإثارة على هذا الحديث ، ثم بادر الكاهن بالسؤال قائلاً : _ ولكن صحراء العرب كبيرة وشاسعة فمن أين بالضبط يخرج هذا الرسول الذي يبعث لكل البشر يا سيدي ؟ _ لا أعرف يا سلمان بالضبط، لا أعرف ! فقد بحثت كثيراً عن موطنه ولكني متأكد أن مكان بعثه مذكور في الكتاب المقدس في مكان ما، ولكني أترك هذه المهمة لك . نظر سلمان بحزن إلى الكاهن ثم قال : _ إذاً ليس هناك مكان توصيني بالذهاب إليه ؟ صمت الكاهن قليلاً و اخذ يفكر ثم قال لسلمان : _ أترى هذا الكتاب المقدس الموضوع الإريكة هناك ؟ هل لك أن تناوله لي يا سلمان ؟ قام سلمان إلى مكان الكتاب المقدس وقد تساءل في قرارة نفسه عن سبب طلب الكاهن للكتاب المقدس وهو يعلم أن سلمان يحفظه عن ظهر قلب . أخذ الكاهن الكتاب من يدي سلمان وقربه من ضوء الشمعة الخافت وقال : _ انظر يا سلمان إلى هذه الخارطة الموجودة في الصفحة الأولى من الكتاب المقدس أترى ما اسم هذه الأرض في الحجاز ببلاد العرب ؟ _ إتها تدعى ( أرض تيماء) .... قال سلمان _ نعم أرض تيماء ، وبجوارها أرض ديدان في غرب الجزيرة العربية في أرض الحجاز كما هو ظاهر في هذه الخريطة في أول صفحة في الكتاب المقدس . إن هذا النبي سيخرج من مدينة ما في الحجاز ، ولكن قومه سوف يكذبوه كما فعل قوم نوح معه و قوم لوط و قوم عيسى ، وبعد ذلك سوف يهاجر إلى مدينة في أرض تيماء و ديدان حيث يناصره الناس هناك ويستقبلونه وهناك سوف ............... عند ذلك قاطع سلمان الكاهن قائلاً : (وحي من جهة بلاد العرب. في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين13. هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان ارض تيماء وافوا الهارب بخبزه14 فانهممن امام السيوف قد هربوا. من امام السيف المسلول ومن امام القوس المشدودة ومن امامشدة الحرب15. فانه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الاجير يفنى كل مجدقيدار16 ) سفر أشعياء الإصحاح 21 _ نعم يا سلمان ...( وحي من جهة بلاد العرب ) كان الكاهن المسيحي الطيب يتكلم وسلمان يستمع إليه منصتاً ، ثم سأل الكاهن قائلاً : _ ولكن يا أبت .... لماذا لم يذكر الرب صراحةً هذا النبي بالاسم كما بشر بالمسيح في العهد القديم ، لماذا لم يبشر المسيح بهذا النبي الخاتم في العهد الجيد إذا كان هذا الأمر بهذه الخطورة ؟ _ ومن قال لك ذلك يا سلمان ؟ من قال لك أنه لم يذكر في العهد الجديد ؟ _ ماذا؟ ولكني أحفظ عن ظهر قلب الأناجيل الأربعة المكونة للعهد الجديد في الكتاب المقدس، لقد درست إنجيل متىَ وإنجيل لوقا و إنجيل القديس مرقص وإنجيل يوحنا ، ولم أعثر أبداَ على ما يدل على اسم نبي آخر الزمان هذا ! صمت الكاهن للحظة مرت كأنها دهر على سلمان ثم رفع رأسه بصعوبة أعياها المرض ونظر إلى سلمان ثم قال : _ ولكنك لا تحفظ إنجيل (القديس برنابا) ! _ ماذا ؟ إنجيل القديس (برنابا) !!!
********************************
الإنجيل الغامض
( إنجيل القديس برنابا )
سيطرت الدهشة على سلمان و عمت حالة من الصمت في أرجاء قبو الكنيسة المظلم لم يعترضها إلاَ صوت المطر الغزير الذي لم ينقطع ، فقد أثار حديث الكاهن المسيحي جواَ من الغموض والحيرة . _ هل تقصد برنابا تلميذ المسيح يا أبت ؟ لم أسمع أبداً أن هناك انجيلاً غير هذه الأناجيل الأربعة يا سيدي ! _ بلى يا سلمان ! انه برنابا نفسه الذي ورد في الكتاب المقدس ، لقد كان له انجيل عرف في التاريخ بإنجيل برنابا حتى عام 325 م . _ وماذا حل به يا سيدي بعد ذلك ؟ تسائل سلمان _ لقد حرق ! أجاب الكاهن _ حرق ! ولكن لماذا ؟ لماذا يحرق انجيل كتبه تلميذ المسيح ؟ قال سلمان _ إن هذا الإنجيل يا سلمان لم يعتمد في ( مجمع نيقية ) . _ لم أفهم يا سيدي ! _ حسناً يا ولدي..... لقد كانت هناك عدة أناجيل غير هذه الأناجيل الأربعة كان من بينها إنجيل القديس برنابا . ولكن كهنة المسيحيين قاموا بعقد مؤتمر في مدينة نيقية ( الشمال الغربي لتركيا الآن ) وقاموا باعتماد هذه الأناجيل الأربعة وحرق باقي الأناجيل ومنها إنجيل برنابا بناءاً على طلب ( أثناسيوس ) ومعاقبة من يجدون عنده نسخة منه . _ ومن هو ( أثناسيوس ) يا سيدي ؟ _ إنه القديس أثناسيوس (ولد في 293 ، توفي في 2 مايو 373) كان بطريرك الإسكندرية في القرن الرابع. و تم الإعتراف به كقديس من الكنيسة الكاثوليكية و الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، و قد ولد أثناسيوس في الاسكندرية من أبوين وثنين على دين الفراعنة القدامى. توفي والده وهو صغير وكان وهو صغير يلعب مع أصدقائه المسيحين تمثيلية المعموديه وكان يقوم بدور الكاهن في التمثيليه فرآه البابا إلكسندروس البطريرك التاسع عشر فأعجب به فإستفسر عنه ثم قام بإستحضار أم أثناسيوس وبشرها بأنه سيكون لإبنها شأن كبير في المسيحية فإستئذنها بأن يمكث معه ليعلمه وتم تعميدها هي وإبنها وعلمه أصول المسيحيه . وعندما كبر أثناسيوس قام بادخال مبدأ ( الثالوث المقدس ) على الدين المسيحي ، و قد كان المسيحيون حتى عام 325 يؤمنون بوحدانية الله حتى جاء أثناسيوس . _ أتقصد الثالوث المقدس ( الآب ، الابن والروح القدس ) ؟ سأل سلمان _ نعم يا سلمان ، إن فكرة الثالوث المقدس تتوافق مع فكرة الثالوث المقدس (أوزريس الأب، حورس الإبن ، إزيس الأم ) عند ديانة الفراعنة التي كان أثناسيوس يتبعها سابقاً ، بل وقد ظهر هذا الثالوث عند كل الديانات الوثنية تقريباً ، فقد كان للهنود الثالوث البرهمي المقدس ( برهما : الإله) ،( فشنو : المخلص) (سيفا : الروح العظيم ) ، وعندكم أيضاً يا سلمان في بلاد فارس في الثالوث الزردشتي المقدس ! _ ( الروح الصالحة ، الكلمة الصالحة والعمل الصالحة ) قال سلمان مقاطعاً _ نعم يا ولدي ولكن أحد الكهان المسيحيين من (ليبيا ) ويدعى ( أريوس ) وقف له بالمرصاد ، وأنكر ما جاء به أثناسيوس بحجة في غاية البساطة وهو أن المسيح لم يذكر كلمة واحدة في الكتاب المقدس بأنه إله ولم يرد في الانجيل أبداً أنه قالً للناس اعبدوني ، فنشب خلاف كبير بين (أثناسيوس) و سيده بابا الإسكندرية آنذاك (ألكساندريوس الأول ) من جهة وبين ( أريوس ) ومن معه من المسيحيين من جهة أخرى ، فأمر الإمبراطور الروماني الذي كان يحكم مصر آنذاك ( قسطنطين الأول ) بعقد هذا المجمع المسكوني الأول وهو أحد المجامع المسكونية السبعة . _ وماذا حدث بعد ذلك يا سيدي ؟ سأل سلمان بفضول _ لقد حضر الإمبراطور هذا المجمع ، وقامت المناظرات بين الطرفين ، ونجح أريوس الذي يدعو للوحدانية في المناظرات, ولكن الإمبراطور الروماني (قسطنطين الأول) لم يكن مسيحياً حينئذ ، وقد كان يؤمن بدين الرومان الوثني الذي يؤمن كأغلب الديانات الوثنية بالثالوث الروماني المقدس ( الله ، الكلمة والروح ) ، فتم اعتماد ما جاء به أثناسيوس من فكرة الثالوث المفدس ، فرفض ( آريوس ) ومن معه من القساوسة التوقيع على الوثيقة التي تضيف للمسيحية ألوهية المسيح والروح القدس ، رغم طلب الإمبراطور نفسه . _ وماذا حصل لآريوس ومن معه من الكهان يا سيدي ؟ _ لقد أمر الامبراطور ( قسطنطين الأول ) بنفي ( آريوس ) ومن معه إلى أليرا ( البلقان حالياً ) ، وأمر أيضاً بحرق (إنجيل برنابا) ومعاقبة من يملك غير هذه الأناجيل الأربعة . _ إذاً فقد ضاع أي دليل على اسم النبي الذي أمرنا المسيح أن نتبعه . قال سلمان والحزن يملؤ صوته _ ليس تماماً يا سلمان ....ليس تماماً! مازال الاسم موجوداً في (إنجيل برنابا) و لا شك أن نسخة من هذا الانجيل قد نجت من الحرق, وهو مخبئ في مكان ما من قبل أحد ما, و لكن..... الاسم ليس مهماً الآن..... ثم وضع يديه على كتفي سلمان و قال له: _ اذهب يا بني إلى هنالك (أي أرض العرب)، فإن هذا النبي يأتي مهاجراً إلى أرض بين حرّتين ( أي أرضين سوداوين ) بينهما نخل ، وفيه علامات لا تخفى تظهر للناس يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فالأنبياء لا يأكلون الصدقات ، بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل ! كان الكاهن المسيحي الطيب يتحدث والعرق يتصبب من جبينه ، فلم ينتبه سلمان لذلك من هول ما استمع إليه من الحديث، فلما خفت صوت الكاهن من شدة الإعياء طلب منه سلمان أن يخلد إلى فراشه ، فقام سلمان بإسناده حتى أوصله إلى حجرته فتمنى له الشفاء وقبله على جبينه الذي كان بارداً على الرغم من تصببه بالعرق !
ملاحظة :عثر على نسخة نادرة من إنجيل برنابافي سنة 1709 من قبل كريمر أحد مستشارى ملك بروسيامكتوبة باللغة الإيطالية . و قد انتقلت النسخة مع بقية مكتبة ذلك المستشار فى سنة 1738 إلى البلاط الملكى بفينّا. و كانت تلك النسخة هى الأصل لكل نسخ هذا الإنجيل فى اللغات التى ترجم إليها ، وهذه المقتطفات من النسخة الأصلية الموجودة في المكتبة الوطنية في النمسا, وهذه مقتطفات مترجمة من اللغة الايطالية التي وُجد بها هذا الانجيل :- _ الفصل 36 و هو كتاب ترك الصلوات : (قال يسوع: و لكن الإنسان و قد جاء الأنبياء كلّهم إلا رسول الله، الذى سيأتى بعدى لأن الله يريد ذلك حتى أهيء طريقه) _ الفصل 43 و هى سورة خلق رسول الله : (أجاب المسيح : الحق أقول لكم إن كل نبى متى جاء فإنه إنما يحمل علامة رحمة الله لأمة واحدة فقط . و لذلك لم يتجاوز كلامهم الشعب الذى أرسل إليهم. و لكن رسول الله متى جاء. يعطيه الله ما هو بمثابة خاتم. فيحمل خلاصا و رحمة لأمم الأرض الذين يَقبلون تعليمه. و سيأتى بقوة على الظالمين.) _ الفصل 44 : (لذلك أقول لكم إن رسول الله بهاءٌ يَسُرّ كل ما صنع الله تقريبا. لأنّه مزدان بروح الفهم و المشورة. روح الحكمة و القوّة. روح الخوف و المحبة. روح التبصر و الإعتدال. مزدان بروح المحبة و الرحمة. روح العدل و التقوى. روح اللطف و الصبر التى أخذ منها من الله ثلاثة أضعاف ما أعطى لسائر خلقه. ما أسعد الزمن الذى سيأتى فيه إلى العالم. صدّقونى إنى رأيته و قدّمت له الإحترام كما رآه كل نبى. لأن الله يعطيهم روحه نبوة. و لمّا رأيته إمتلأت عزاءً قائلا: { يا محمد ليكن الله و ليجعلنى أهلا أن أحل سير حذائك }. لأنى إذا قلت هذا صرت نبيا عظيما و قدّوس الله. ثم قال يسوع: إنّه سرُّ الله ) _ الفصل 39 و هو كتاب آدم: ( فلمّا انتصب آدم على قدميه. رأى فى الهواء كتابة تتألق كالشمس نصّها { لا إله إلا الله و محمد رسول الله }. ففتح آدم حينئذ فاه و قال: أشكرك أيها الرب إلهى لأنك تفضّلت فخلقتنى. و لكن أضرع إليك أن تنبئنى ما معنى هذه الكلمات { محمد رسول الله }؟ فأجاب الله: مرحبا بك يا عبدى يا آدم. و إنّى أقول لك إنك أول إنسان خلقت. وهذا الذى رأيته هو إبنك الذى سيأتى إلى العالم بعد الآن بسنين عديدة. و سيكون رسولى الذى لأجله خلقت كل الأشياء. الذى متى جاء سيعطى نورا للعالم. الذى كانت نفسه موضوعة فى بهاء سماوى ستين ألف سنة قبل أن أخلق شيئا. فتضرّع آدم إلى الله قائلا: يا رب هبنى هذه الكتابة على أظفار أصابع يدي. فمنح الله الإنسان الأول تلك الكتابة على إبهاميه. على ظفر إبهام اليد اليمنى ما نصّه { لا إله الا الله } و على ظفر إبهام اليد اليسرى ما نصّه { محمد رسول الله }. فقبّل الإنسان الأول بحنان أبوّى هذه الكلمات و مسح عينيه و قال: بورك اليوم الذى سوف تأتى فيه للعالم.) _ الفصل 41 هو باب الجزاء : ( حينئذ قال الله: إنصرف أيها اللعين من حضرتى. فانصرف الشيطان. ثم قال الله لآدم و حوّاء اللذين كانا ينتحبان: أخرجا من الجنة. و جاهدا أبدانكما و لا يضعف رجاؤكما. لأنى سوف أرسل إبنكما على كيفية يمكن بها لذرّيتكما أن ترفع سلطة الشيطان عن الجنس البشرى. لأنى سأعطى رسولى كل شيء. فاحتجب الله. و طردهما الملاك ميخائيل من الفردوس. فلمّا التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب { لا إله إلا الله محمد رسول الله }. فبكى عند ذلك و قال: أيّها الإبن عسى الله أن يريد أن تأتى سريعا و تخلّصنا من هذا الشقاء.)
*****************************
الرحلة إلى بلاد النخيل
أرض بين حرتين !!
لم تمض إلاَ أيام قليلة حتى لفظ الكاهن المسيحي الطيب أنفاسه الأخيرة ، فحزن سلمان لفراقه حزناً شديداً ، ولكنه قرَر تنفيذ وصية الكاهن و البحث عن رسول الله الذي حدَثه عنه . فبحث في أرجاء عمورية عن أحد يوصله إلى بلاد العرب فلم يجد أحداً . وفي يوم الأيام وجد سلمان تجاراً من قبيلة (كلب) العربية ، فعرض عليهم سلمان أن يعطيهم كل ما يملك من قطيع على أن يوصلوه لبلاد العرب ، فقبلوا عرضه واصطحبوه معهم ، ولماَ وصل سلمان إلى شمال الجزيرة العربية أحس باقترابه من تحقيق حلمه ، ولكن الذين اتفق معهم ما إن أصبحوا في رمال الصحراء العربية القاحلة حتىَ سلبوه كل ما كان يملك وباعوه لأحد الرجال هناك ، فأصبح سلمان عبداً له . كان حزن سلمان هذه المرة أشد من كل مرة ، فهاهو الأن يكاد يصل إلى هدفه الذي هاجر من أجله من سنين ، ولكنه يصبح الآن عبداً مسلوب الإرادة في أرض غريبة لا يعرف عنها أي شيئ ، وقد كان قد خطط من قبل أن يفتش عن المدينة التي حدثه عنها كاهن عمورية في كل أرجاء بلاد العرب ، فأحس سلمان بالبؤس الشديد ، وشعر كأنه ظمآن شديد الظمأ في صحراء مقفرة ، فلما رأى واحة خضراء صافية مياها تطل عليه من بعيد فقد ساقيه ، فلم يعد قادراَ على متابعة المسير ، فلا هو هلك قبل أن يراها ، ولا هو وصل إليها وارتوى بمائها العذب ! ومما زاد من كمد سلمان أن سيده باعه مرة أخرى إلى ابن عم له في مدينة أخرى ، فرحل معه سلمان وهو لا يعرف إلى أي أرض يسير وأي قدر ينتظره ، فحمل سلمان أحمال سيده الثقيلة على ظهره وتبعه إلى المدينة الجديدة وحمله الذي يحمله في قلبه أشد وطأة عليه من حمله على ظهره ! وما أن وصل سلمان إلى مدينة سيده الجديدة حتى سقطت الأحمال التي يحملها على ظهره ، ووقف سلمان جامداً لا يتحرك من هول ما يرى ! _ ما بك أيها العبد اللعين ؟ هل تعبت ؟ احمل ما أسقطه عليك اللعنة ! كدنا نصل . قال السيد غاضباً لم يصدق سلمان ما تراه عيناه .... لقد وصل إلى مدينة كثير نخلها ......بل إنه لم ير في حياته مدينة بها هذا العدد الهائل من النخيل ! فأحس بالدم الحار يتدفق في عروقه ، وأن قلبه يخفق بسرعة كادت تقضي عليه ، فأسرع يحمل متاع سيده على ظهره وكأنه حمل من الريش الخفيف ، ومان إن وصل إلى بيت سيده حتى اتجه إليه قائلاً : _ سيدي .... هل تأذن لي أن ألقي نظرة على المدينة يا سيدي ؟ فإني أريد أن أرى المدينة و طرقها لكي أحضر ما يطلبه سيدي بسرعة إذ اما طلب شيئاً من أسواق المدينة ! _ حسناً أيها العبد اللعين ... ولكن لا تتأخر وإلا حلَ عليك غضبي .
خرج سلمان مسرعاً قاصداً سوق المدينة ، فطلب من الناس هناك أن يدلوه على مكان يرى به المدينة كلها ، فدله الناس على قمة جبل يطل على كل المدينة ، فأسرع سلمان إلى هذا الجبل راكضاً بسرعة يسابق بها الريح مخترقاً بساتين النخيل الممتدة في أرجاء المدينة كسهم ثاقب ، وما أن تسلق الجبل وأصبح على قمته المطلة على المدينة حتىَ جثى على ركبيته ، ثم نظر إلى السماء وعيناه مغرورقتان بالدموع قائلاً :
_ أرض بين حرتين، بها نخل كثير...أيها الكاهن الطيب................... لقد وصلت !
*******************************
البشارة
ظلَ سلمان يعمل عند سيده بهمة و نشاط لكي يرضى عليه سيده ويحتفظ به ، فقد كانت من عادة الناس في هذه الأرض أن يبيعوا عبيدهم إلى آخرين إذا ما أحسوا فيهم الوهن و الكسل ، وقد كان سلمان يحرص كل الحرص على إرضاء سيده لكي يبقى في هذه المدينة (يثرب) التي سوف يأتي إليها رسول الله مهاجراً . ومرت الأيام و الأيام ، ومرت بعدها شهور و سنين ، حتى مرت على سلمان عشرون عاماً مذ مغادرته من أصفهان أول مرة بحثاً عن السعادة ، وطال انتظار سلمان ، ولكن ما كان يواسي انتظاره الطويل أنه يشعر في قرارة نفسه بأن الرب الذي أتى به إلى هذه يثرب وهو عبد مقيد الحركة من دون أن يبحث عنها بنفسه لهو قادر على أن يكمل فرحته برؤية حلمه يتحقق في حياته . حتى أتى ذلك اليوم الذي كان فيه سلمان في أعلى النخلة يجني الرطب لسيده الذي كان يوجهه من أسفله ، فإذا بابن عم لسيده يأتي إليه غاضباً ويقول له بأن الناس يجتمعون بقباء (منطقة في يثرب) برجل قدم إليهم من مكة اليوم يزعم بأنه نبي ! فما أن سمع سلمان حديثه من أعلى النخلة حتىَ أخذته الرعشة ونزل بسرعة من أعلى النخلة ليستوضح من هذا الرجل عن حديثه ، ولكن سيده لطمه ونهاه عن التدخل بحديث السادة ، فأكمل سلمان عمله حتى حلَ المساء ، فأخذ شيئاً من الثمر كان يملكه وخرج قاصداً ذلك الرجل القادم من مكة وهو يتذكر تحذير المسيح لأتباعه من أناس يدعون النبوة من بعده، ويردد في قرارة نفسه ما قد ذكره له الأب المسيحي الطيب عن صفاة هذا النبي ( يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة) ، حتى وصل سلمان إليه وهو جالس بين أصحابه فحياه سلمان ثم قال له : _ لقد بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيئ كان عندي للصدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم . فقرب سلمان الثمر إليه ، وأخذ يرقب ماذا يفعل ، فقال الرجل لأصحابه : _ كلوا ! وراقب سلمان يدي الرجل فرآها ثابتتين لا تمتدان للطعام أبداً ، فقال سلمان لنفسه : _ هذه واحدة ! ثم انصرف سلمان فجمع شيئاً من الثمر كان يملكه وعاد به إلى هذا الرجل وقال له : _ إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية اكرمتك بها . فأمر الرجل أصحابه أن يأكلوا وأكل معهم، فقال سلمان لنفسه : _ هاتان اثنتان ! ثم جاء سلمان إلى هذا الرجل ليتأكد من العلامة الأخيرة ، فوجده جالساً بين أصحابه فحياه ثم استدار لينظر إلى ظهر الرجل الغريب ليرى العلامة التي وصفها له كاهن عمورية ، ولكنه لم ير شيئاً ، فأخذ يلتفت يميناً وشمالاً علَه يجد هذه العلامة ولكنه لم يعثر عليها. فلاحظ الرجل أن سلمان يريد أن يتثبت من شيئ وُصف له ، فألقى ردائه عن ظهره ، فنظر سلمان بين كتفيه فوجد العلامة التي وصفها الكاهن المسيحي . وفي لحظة واحدة أحس سلمان بتعب عشرين عاماً من الترحال والعبودية ينزاح عن كاهله ، فأخذ يبكي بكاء الفرحة ويعانق هذا الرجل ، فطلب منه الرجل أن يهدأ من روعه ويقص عليه حكايته، فأخذ سلمان يقص عليه مغامرته منذ البداية في بلاد فارس حتى أصبح عبداً في يثرب مروراً بما شاهده في بلاد الشام و الموصل و صفين و عمورية ، فأعجب الرجل بما سمع من سلمان ، وسأل سلمان أن يقص على أصحابه حكايته ففعل سلمان ذلك وهو سعيد في غاية السعادة لا يصدق أن من كان يقرأ عنه في الكتاب المقدس يراه رؤيا العين ويلمسه بيديه ! لقد كان هذا الرجل القادم من مكة هو ( محمد بن عبدالله) رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ونبي آخر الزمان .
*******************************
محمد
كان الزمن هو القرن السابع الميلادي, وكانت الأرض مقسمةً بين الإمبراطورية الفارسية في الشرق و الإمبراطورية الرومانية في الغرب, وقد ساد الظلم في مشارق الأرض و مغاربها, فكان الرومان يتسلون ويستمتعون برؤية الأسود تنهش بلحوم العبيد في أقفاصٍ مغلقة وهم جالسون في مدرجاتهم, فالعبيد (وهم ثلاثة أرباع المجتمع) لا يملكون حق المواطنة, وحتى الإغريق لم يكونوا يعتبرون العبيد بشراً ذوي حقوق متساوية مع الغير, ومما يبعث للإستغراب أن (أفلاطون) الفيلسوف الإغريقي صاحب كتاب (المدينة الفاضلة) كان يقول أن في مدينته الفاضلة لا يجب أن يعطى العبيد حق المواطنة حتى لو وُلدوا هناك ! و ساد زنى المحارم بين الفرس حتى تزوج كبيرهم كسرى (يسجرد الثاني) من ابنته قبل أن يقتلها, و تزوج كسرى (بهرام) من أخته, وتزوج آخر من أمه وقد قسموا البشر إلى سبع طبقات, فعامة الشعب في المرتبة الدنيا, وكسرى في قمة الهرم الاجتماعي حيث كان يعتبر نفسه ذا دماءٍ مقدسة تختلف عن دماء باقي البشر. وكان يجب على من يريد الحديث معه من وزرائه أن يقف بعيداً عنه ويضع منديلاً على أنفه وفمه لكي لا يلوث الهواء من حول كسرى بأنفاسه! و كانت كل قبيلة عربية تمثل كياناً مستقلاً في حد ذاتها, فلم يكن للعرب كيان مستقل كما في بلاد فارس و الروم , بل كانت العرب قبائل متشرذمة يغير بعضها على بعض طلباً للماء و الكلأ, وكان العبيد مجردين من الكرامة عند العرب, وقام الكثيرون بدفن بناتهم الرضع أحياءاً بين رمال الصحراء (وأد البنات).
ولم يذكر التاريخ في صفحاته أن ظهر بين العرب عالم أو فيلسوف كما هو الحال في بلاد الفراعنة و الإغريق أو فلكي كما في بلاد الفرس و البابليين, و إنما برع العرب في شيئ واحد , الشعر, فقد كانت اللغة العربية (وما زالت) لغةً ثرية جداً، بل هي أثرى لغة عُرفت في الأرض، والشيء الواحد له أكثر من اسم في هذه اللغة العظيمة: فالعسل له ثمانون اسمًا، والثعلب له مائتا اسمٍ، والأسد له خمسمائة اسمٍ، والسيف له ألف اسمٍ. فكانت لغةعجيبة في ثروة مفرداتها وقوة تراكيبها, فبرع العرب في نظمها في قصائد غاية في الروعة, وتبارزوا فيما بينهم في الأسواق فيمن يحسن نظم الشعر و تمجيد مفاخر قبيلته بأبياته من صدق وشهامة وقوة في القتال. وظهرت لديهم المعلقات السبع, و هي قصائد طوال لسبع شعراء عظام كتبت بماء الذهب وعلقت على أسوار الكعبة (لذلك سميت بالمعلقات) .
وعلى الرغم من تشتت العرب السياسي إلا أنهم كانوا يشتهرون بالشهامة و الفروسية و الكرم, وقد كان المرء يقيم حرباً لعشرات السنوات لمجرد أن أحداً قد أهان أمه, كالحرب التي أقامها (عمرو بن كلثوم) سيد قبيلة (تغلب) على (عمرو بن هند) ملك الحيرة لإهانته لأمه. وكان الكرم صفة حميدة يفتخر بها العرب, وقد ظهر فيهم (حاتم الطائي) الذي لماَ لم يجد شيئاً يقدمه لضيفه قام بذبح فرسه لتقديمه طعاماً له . وكان (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب) رجلاً من قريش, وهي القبيلة الكبرى في بلاد العرب , وكانت قريش تسكن في مكة, وكانت مكة أهم مدينة في بلاد العرب لاحتوائها على الكعبة التي بناها نبي الله (إبراهيم) بمساعدة من ابنه (إسماعيل), وكانت القبائل من كافة أصقاع بلاد العرب تحج إليها في أشهر كانت تسمى الأشهر الحرم و هي أشهر يمنع فيها القتال, وقد أكسبت الكعبة قريشاً مكانةً رياديةً بين قبائل العرب. وكان (عبد المطلب بن مناف) جد محمد سيداً لقريش, وكان نسبه يمتد إلى إسماعيل بن إبراهيم. وقد مات (عبد الله) أبو محمد قبل أشهرٍ من ميلاده فسماه جده محمداً (ويعني الرجل محمود الذكر). ثم ماتت أمه (آمنة بنت وهب) و هو طفل صغير فرباه جده, ثم مات جده فرباه عمه (أبو طالب) فنشأ محمد يتيماً. وقد سُمي محمد (بالصادق الأمين) لما أُشتهر به بين قومه من الصدق و الأمانة, وقد كان محل احترام كبير بين قومه, إلا أنه لم يكن مقتنعاً بدين قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام. وقد كان العرب في بادئ الأمر يعبدون الله رب إبراهيم ولكن رجلاً اسمه (عمرو بن لحي الخزاعي) ذهب في تجارة للشام, فرآى أناساً يعبدون الأصنام, فلما سألهم كيف يعبدون أصناماً يصنعونها بأيديهم لا تسمع ولا تنطق! قالوا له إنهم لا يعبدون الأحجار وإنما يعبدون روح الرب التي تسكن بداخلها, فراق لعمروٍ هذ التفسير, وطلب منهم أن يعطوه صنماً, فأعطوه صنماً يدعونه (هبل), فأخذه لقومه ونشر عبادة الأصنام بين العرب, فكان لكل قبيلة عربية صنماً يعبدونه. فعبدت العرب أصناماً كثيرة كان منهم (اللات) و (العزى), أما قريش فقد عبدت كبير الأصنام (هبل). وقد اعتاد محمد أن يختلي بنفسه في غار (كهف) في أحد الجبال المطلة حول مكة يسمى (غار حراء). وعندما بلغ الأربعين من عمره وبينما محمد يتعبد في الغار نزل عليه الملك (جبريل) وطلب منه أن يقرأ فأجاب محمد بأنه ليس بقارئ (وقد كان محمد أمياً لا يعرف القراءة و الكتابة) فكررها مرة ثانية و ثالثة و محمد يجيب ما أنا بقارئ ما أنا بقارئ. ثم قال له جبريل: اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ و ربك الأكرم ، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم العلق 1-5 كان سلمان يستمع إلى قصة محمد و يحاول أن يعرف كل شيئ عن هذا النبي الذي بعث منذ ثلاثة عشر عاماً ولم يعلم عنه شيئاً لاشتغاله بالرق عند سيده, و أخذ يقارن أول ما أنزل من القرآن بما ورد في سفر أشعياء (يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا اعرف الكتابة ( أشعياء : 29 : 12 فرجع محمد بها الخبر ترجف بوادره حتى دخل على زوجته ( خديجة بن خويلد) فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة و أخبرها الخبر : _ " أي خديجة لقد خشيت على نفسي" . فقالت له : _ كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ; إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به (ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن قصي) - وهو ابن عم خديجة أخو أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية (مسيحي)، وكان شيخا كبيرا قد عمي - فقالت خديجة : _ أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : _ ابن أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : _ هذا الناموس ( الملك جبريل) الذي أنزل على موسى ليتني فيها جذعا (شاباً) أكون حياً حين يخرجك قومك . فقال محمد : " أومخرجي هم !؟ " فقال ورقة: _نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم مات ورقة بعد ذلك . فدعا محمد قومه وأخبرهم بأنه رسول الله إلى الناس أجمعين يبشرهم بالحياة السعيدة في الدنيا و الجنة بعد الموت إذا عبدوا الله وحده و عملوا صالحاً في حياتهم و ينذرهم بالشقاء في الدنيا و النار في الآخرة إذا أصروا على كفرهم بالله الواحد و أعمالهم السيئة من قتل البنات و اضطهاد العبيد و غيرها من السيئات, و لكن سادة مكة لم يكونوا على استعداد على ترك دين آبائهم و مساواتهم بالعبيد كما يدعو الإسلام من سواسية البشر على اختلاف أعراقهم و ألوانهم, فكذبوه, وقاموا بإيذائه و من اتبعه, واتهموه بالجنون و الكذب ونسوا بأنهم كانوا يدعونه بالصادق الأمين قبل ذلك! ولما اشتد تعذيب قريش لأتباع محمد الضعفاء طلب منهم الهجرة و قال لهم: _ لو خرجتم إلى أرض الحبشة, فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد.
******************************************
الحبشة
(فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد)
كانت مملكة الحبشة (أثيوبيا و أريتريا و شمال الصومال) مملكة قوية في شرق أفريقيا, يحكمها رجلٌ مسيحي يلقب بالنجاشي، واسمه ( أصحمة) - وللنجاشي قصة عجيبة، ففي إحدىالليالي قام بعض المتآمرين بقتل والده ملك الحبشة، واستولوا على عرشه، وجعلوا علىالحبشة ملكًا آخر، لكنهم لم يهنأوا بفعلتهم، فقد ظل ابن الملك المقتول يؤرقهم،فخافوا أن ينتقم منهم عندما يكبر، فقرروا أن يبيعوه في سوق العبيد، وبالفعل نفذوامؤامرتهم، وباعوا ذلك الغلام لأحد تجار الرقيق. وفي إحدى الليالي خرج الملكالغاصب فأصابته صاعقة من السماء فوقع قتيلاً، فسادت الفوضى في بلادالحبشة وبحثواعمن يحكمها، وأخيرًا هداهم تفكيرهم إلى أن يعيدوا ابن الملك الذي باعوه في سوقالرقيق لأنه أحق الناس بالملك، وبعد بحث طويل وجدوه عند أحد التجار، فقالوا له: ردإلينا غلامنا ونعطيك مالك. فرده إليهم. فقاموا على الفور بإعادته وأجلسوه علىالعرش، وألبسوه تاج الملك، لكنهم أخلفوا عهدهم مع التاجر ولم يعطوه ماله، فقالالتاجر إذن أدخل إلى الملك، وبالفعل دخل إليه وأخبره بما كان، فقال لهم الملكالجديد: إما أن تعطوا التاجر حقه، وإما أن أرجع إليه، فسارعوا بأداء المال للتاجر. وبعد سنوات من حكمه، انتشر عدله، وذهبت سيرته الطيبة إلى كل مكان،وسمع بذلك المسلمون في مكة، فهاجروا إليه فرارًا بدينهم بعد أن خاف محمد عليهم من أذى قريش واضطهادهم،لكن قريشاً لم تتركهم يهنئون في دار العدل والأمان، فأرسلوا إلى النجاشي سيداً من ساداتها وهو (عمرو بنالعاص)، و كان داهية العرب و تربطه بالنجاشي روابط صداقة قديمة، و أرسلت معه (عبد الله بن أبي ربيعة) بالهدايا العظيمة حتى يسلمهماالمسلمين الذين جاءوا يحتمون به، ودخل عمرو، وعبد الله، وقدَّما الهدايا إلىالنجاشي ثم توجه له عمرو قائلاً: أيها الملك! إنه قد ضوى (جاء) إلى بلادك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك (المسيحية)، بل جاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم لتردهم إليهم. فقال النجاشي: _ ولكني أرى أنه من العدل أن أستمع إليهم قبل أن أسلمك أناس أتوني لاجئين. فبعث إلى المسلمين رسولا يطلب منهم الحضور، لمقابلة النجاشي، فوقفواأمامه، وكان( جعفر بن أبي طالب) رضي الله عنه ابن عم الرسول أميرهم والمتحدث عنهم،فسأله النجاشي: _ ما الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في دينى، ولا في دينأحد من الأمم؟ فرد عليه جعفر يشرح له ماهية الإسلام قائلاً: _ أيها الملك إنا كنا قومًا أهل جاهلية نعبدالأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسئ الجوار ويظلم القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفته، فدعانا إلي عبادة إله واحد، وأن نخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من أحجار وأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم .. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فآمنا به، واتبعناه فيما جاء به، فعدا علينا قومنا .. فعذبونا ليردونا عن ديننا إلي عبادتهم، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلي بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك. فقال له النجاشي و قد أعجبه ما يدعو إليه الإسلام : _ هل معك شيء مما جاء به رسولكم عن الله قال جعفر: نعم. قال النجاشي: فاقرأ عليَّ. فنظر جعفر إلى النجاشي ثم قال : كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا[مريم: 1- 22].
لم يتحمل القساوسة أثر تلك الكلمات المعجزة، فما تمالكوا أن انهمرت دموعهم غزيرة فياضة، وبكى النجاشي حتى ابتلت لحيته، وبكى الأساقفة، ولم تقف هدايا عمرو حائلاً بين كلام الله وبين قلوب السامعين، وهنا وبوضوح أخذ النجاشي القرار وقال: _ إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. ثم التفت إلى عمرو و عبد الله بن أبي ربيعة وقال لهما: _انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا.
ثم التفت النجاشي إلى جعفر و قال:
_ إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة وقال لابن العاص وزميله عبد الله بن أبي ربيعة:
_ انطلقا إلي قومكما، فوالله لا أسلمهم لكما أبداً. ففرح المسلمون وعانقوا بعضهم البعض لحكم الملك العادل, ولكن عمرو بن العاص لم يستسلم للهزيمة فحاول أن يكيد للمسلمين، وأن يوقع بين النجاشي وبين المسلمين, فذهب للنجاشي وقال له: _ أيها الملك إنهم ليقولون في عيسى قولاً عظيماً! فطلب النجاشي جعفراً يسأله ماذا يقول المسلمون في عيسى فقال جعفر بكل رباطة جأش: _ نقول فيه الذي جاء به نبينا نقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول (العذراء هي البكر، والبتول هي المرأة التي لا شهوة لها في الرجال).
وفي موقف مهيب وقف النجاشي وفاجأ أهل الحبشة، بل وفاجأ عمرو بن العاص وصاحبه، بل ولعله أيضًا فاجأ جعفر نفسه، حين ضرب الأرض بيده، وأخذ منها عوداً رفيعاً وصغيراً من النبات يكاد لا يرى ثم قال: _ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. أي أن النجاشي رأى أن الفارق بين كلام جعفر بن أبي طالب في وصف حقيقة المسيح، وبين وصف المسيح نفسه لحقيقته هو فارق ضئيل جداً، يكاد لا يذكر، أو يكاد لا يرى. ثم التفت إلى عمرو بعين حادة وقال له:
_ يا عمرو والله لا أسلمك هؤلاء أبداً, فخذ هداياك وارجع إلى قومك.
*************************
الحرية
(أعينوا أخاكم !)
كان سلمان يستمع إلى محمد وأصحابه يحاول أن يعرف كل شيئ عن هذا الدين الذي عبر البلدان و الصحاري بحثاً عنه و يستغرب كيف لم يسمع عنه مع أن محمداً بُعث منذ سنين عدة, ولكن استغرابه سرعان ما يتلاشى عندما يتذكر أنه عبد مسلوب الإرادة و حرية التنقل, فحتى بعد أن أسلم سلمان لم يكن باستطاعته أن يغيب كثيراً عن سيده لكي يقوم على خدمته. ومما زاد من حزن سلمان أنه لم يتمكن من المشاركة مع المسلمين في معركة (بدر) عندما جاءت قريش بجيش كبير ليحاربوا المسلمين مع أنهم طردوهم من ديارهم و استولوا على كل ممتلكاتهم في مكة, وكان عدد جيش قريش 1000 مقاتل وعدد المسلمين 313 مقاتل, و بالرغم من الفارق الكبير بين الجيشين من حيث العدة و العتاد فإن المسلمين استطاعوا أن يحققوا نصراً كبيراً. وبالرغم من أن محمداّ صلى الله عليه وسلم كان هو الحاكم الفعلي للمدينة, إلا أنه لم يحرر سلمان بالقوة من مالكه الذي كان من غير المسلمين من (بني قريظة), فكان سلمان حزيناً لعدم قدرته على الدفاع عن الإسلام و المشاركة في (بدر) لاشتغاله بالرق, ولكنه كان في أشد حالات السعادة عندما لم تستطع قريش على استئصال شوكة الإسلام, و مما زاد في سعادته على نتيجة هذه المعركة التي حدثت بعد سنة من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ما تذكره من الكتاب المقدس يؤكد أن محمداً هو الرسول الموعود في الإنجيل من (سفر أشعياء 16/21): (فإن هكذا قال لي السيد : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار)
وقيدار هو الجد الأكبر لقبائل مكة، وهو من أبناء إسماعيل عليه السلام، كما يخبر الكتاب المقدس في (سفر التكوين الإصحاح 25 الفقرة 13) (وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبائيل ومبسام……). وظل سلمان سلمان يعمل عبداً عند سيده الذي لم يكن مسلماً و إنما كان يعيش في المدينة ككثيرٍ من غير المسلمين في الدولة الناشئة التي أسسها محمد صلى الله عليه وسلم و ترك لهم حرية الإعتقاد و الدين وكفل لهم الإسلام العيش بسلام و أمان جنباً إلى جنب مع المسلمين. وكان مما يحزن سلمان كل مساء هو استماعه إلى مجالس سيده و أصحابه عندما يجتمعون لكي يستهزئوا بالرسول وما يأتي به من القرآن. فيأتون بشيئٍ من القرآن يخبر عن أخبار الأمم السابقة و عن ادم و نوح و ابراهيم و اسحق و سليمان و موسى و عيسى, فيقوم أحدهم و يقول: _ إن محمداً ما هو إلا رجل كذاب, لا بد أنه قرأ ما ورد في التوراة و الانجيل من قصص الأنبياء و أعاد صياغتها في القرآن! فيرد آخر و يقول: _ و لكن ما يذكره محمد عن هؤلاء الأنبياء و الرسل لا يطابق تماماً ما في كتبنا ثم إنه أمِّي لا يستطيع القراءة أو الكتابة! فيتعجب من في المجلس من أمر هذا الرجل الذي لم يخرج من أرض العرب ليأتي بأخبار الأمم حول الأرض! ثم يبدأون بالاستهزاء به و بدينه, فيأتون بشيئٍ من القرآن يوضح أن الأرض كروية الشكل وأن الشمس و القمر يتحركان خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار " (الزمر:5) فيضج المجلس بالضحك ! ثم يأتي آخر بآيةٍ أخرى من القرآن لكي يتندر عليها : َولَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّجَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةًفَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَاالْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُالْخَالِقِينَ (المؤمنون 12-14) فتنبعث قهقهة عالية في أرجاء المجلس فيصيح أحدهم لعل محمد يستطيع أن يرى الأجنة في بطون أمهاتهم, فتزداد الضحكات ارتفاعاً .ثم يصمت الجمع و ينظر بعضهم على بعض ويتساءلون كيف لرجل أمي لا يعرف القراءة و الكتابة أن يأتي بكلام فصيح معجز في فصاحته حتى أن الشعراء عجزوا أن يأتوا بآية واحدة من مثله !!؟ ثم ينظر أحدهم إلى الآخرين و الغيظ يملأ عينيه و يقول: _ إن محمداً لم يكتفِ بذكر أشياءٍ غريبةٍ كهذه, بل إنه يريد أن يغير من عادات البشر, فهو يعطي للنساء حقوقاً يرونها مجحفة في حق الرجل, فهو يفرض على المسلمين أن يُوَرثوا البنات على أن تأخذ البنت نصف ما يأخذ الولد على أن يكون الرجل ملزماً بالنفقة على زوجته و أبنائه حتى ولو كانت امرأته تملك مالاً كثيراً و لا يجوز له أن يأخذ من مالها غصباً ! بل إنه أتى بشيئٍ ما أتى به أحد من قبله حيث يعطي للمرأة الحق أن تكون هي من يطلب أن تنفصل عن زوجها حتى ولو لم يقبل أن يطلقها (الخلع) . كان الرجال يتكلمون و يتناقشون في أمر رسول الله ويستهزئون به و بتعاليم الإسلام و سلمان يستمع إليهم و لا يستطيع أن يرد كلام سيده, وعندما يحين وقت راحته يذهب إلى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ليتعلم منهم ما يتيسر له من تعاليم الدين و آيات القرآن. وفي يومٍ من الأيام وبينما سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : _ كاتب يا سلمان ! (وكان ذلك يعني في عرف الصحراء أن العبد يطلب حريته من سيده في مقابل يرضى عنه السيد) فكاتب سلمان سيده فطلب الرجل من سلمان ثلاثمائة ودية (شتلة النخيل) وأن يزرعها له من دون أن تموت منها واحدة, إضافة لأربعين أوقية من من ذهب, فذهب سلمان حزيناً لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لا يملك شيئاً مما طلبه سيده, فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم للنجوم المرابطة من حوله, نظر إلى خير البشر بعد الرسل والأنبياء....نظر لصحابته رضوان الله عليهم أجمعين و قال : _ أعينوا أخاكم ! وقد كان الصحابة الكرام فقراء لا يملكون الكثير, فالمهاجرون منهم تركوا كل ما يملكون في مكة ليهاجروا سراً لله ورسوله, أم أهل المدينة من النصارى فقد كانوا في الأساس فقراء وكانوا قد اقتسموا كل ممتلكاتهم مع إخوانهم المهاجرين, إلاَ أنهم كانوا يمتازون بصفة ميزتهم عن كل البشر في تاريخ الإنسانية, فقد امتاز الأنصار جميعاً من دون استثناء رجل واحد منهم وبالرغم من فقرهم الشديد بصفة الإيثار.... العطاء برغم حاجتهم الشديدة من دون أخذ أي مقابل. وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بقولهوالذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهمحاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك همالمفلحون (الحشر 9) فقام أحد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وقال: _ أنا أعين بثلاثين ودية. وقال آخر : و أنا بعشرين _ وأنا بعشرة . _ وأنا بواحدة . نظر سلمان إلى هؤلاء الرجال الذين يتسابقون للتبرع من أجل حريته وهو غير عربي و لا يمت لهم بقرابة من قريب أو بعيد, ففهم ما تعنيه الأخوة الحقيقية. فلما اكتملت الثلاثمائة نخلة أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم و غرسها بيديه في التربة, فما ماتت منها واحدة! فذهب سلمان لسيده وأراه النخيل الصغير, فطلب منه سيده أن يكمل ما عليه من أربعين أوقية من الذهب, فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمانَ بيضة صغيرة من ذهب و قال : _ خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان ! نظر سلمان إلى هذه البيضة الصغيرة مستعجباً كيف لها أن تفي بما طلب سيده, فنظر إليه محمد و قال : خذها ...فإن الله سيؤدي بها عنك . فذهب بها سلمان إلى سيده ووزن البيضة الذهبية وإذ بها أربعون أوقية لم تزد عنها أو وتنقص شيئاً ! و بذلك أصبح سلمان حراً
***************************
(صَدَقَ سلمان)
أصبح سلمان حراً بعد سنواتٍ من الرق و العبودية قضاها بين الحل و الترحيل بحثاً عن هدفه, و هاهو يمتلك حريته أخيراً و لكنه لا يملك أي شيئٍ يعتاش منه, و لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أقام نظاماً اجتماعياً فريداً من نوعه يسمى (المؤاخاة), وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمؤاخاة سلمان برجلٍ من النصارى يسمى (أبو الدرداء) رضي الله عنه وأرضاه. وأقام سلمان مع أبي الدرداء في بيته و قد أصبح أخاً له, وكان أبو الدرداء رجلاً صالحاً يقوم الليل و يصوم النهار, و قد رأى سلمان أنه يبالغ في العبادة فنصحه أن يخفف من ذلك فقال أبو الدرداء لسلمان: _ أتمنعني أن أصوم لربي و أصلي له؟! فقال سلمان: _ إن لعينيك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً, صم وافطر و صلِّ ونام. فبلغ هذا الكلام محمداً فقال: _ صدق سلمان.
في السنة الخامسة من الهجرة قامت بعض القبائل التي أغاظها ما وصل إليه الرسول و صحابته من قوة, ولم يرق لهم ازدياد عدد المؤمنين به و بدينه و ما يدعو إليه من السواسية بين الناس, فأنشأوا وفداً يضم كبارهم و ذهبوا إلى القبائل المتفرقة لكي يجمعوا جيشاً جراراً يستأصل الإسلام وإلى الأبد فيقضون به على الإسلام نهائياً, فحرَّضوا قريشاً فجمعت أربعة آلاف مقاتل وقاموا بشراء ذمم ستة آلاف مقاتل من المرتزقة و قطاع الطرق من قبائل (غطفان) و (بني سليم) و (بني مرة) و (بني أشجع) و (بني سليم) و (بني أسد) فتجمع لديهم أكبر جيش تم جمعه في تاريخ جزيرة العربية وهو عشرة آلاف مقاتلٍ من أجل مشترك...... تدمير الدولة الإسلامية الوليدة و استئصال شأفة المسلمين إلى الأبد. ووصل الخبر ليثرب (و قد سميت بالمدينة المنورة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها) فكان أول شيئٍ قام به زعيم الدولة أن عقد مجلس شورى (و هو نظام إسلامي ذُكِر بالقرآن و أصبح أصلاً من أُصول الحكم في الإسلام ويتشاور فيه المسلمون في قراراتهم). و أخذ الرسول والصحابة يتباحثون في كيفية الدفاع عن دولتهم المكونة من مدينة واحدة. وكان يحق لجميع المسلمين إبداء الرأي بغض النظر عن مكانة الشخص الاجتماعية أو أصله أو لونه, و تباحث الصحابة (و هو الاسم الذي أُطلق على أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم و الصحابي هو كل من لقي الرسول مؤمنًا به ومات على ذلك) وأخذوا يقترحون الحلول و لكن شخصاً ما كان صامتاً يفكر و قد بدت عليه معالم التركيز الشديد, فلم يكن باستطاعة سلمان أن يتخيل بأن حلم كل شيئٍ سينتهي هكذا بكل بساطة بعد أن لاقى ما لاقاه من ترحالٍ و رقٍ مقابل أن يصل إلى حلمه, كيف ينتهي هذا الحلم الجميل بهذه السرعة بعد أن عانى من العبودية عند سيده بانتظار هذا النبي الذي أخبره كاهن عمورية بسره, وأخذت الذكريات القديمة تمر على ذهن سلمان كأنها كانت قبل يوم أو بعض يوم, فتذكر سلمان كيف رحل إلى (عمورية) من (صفين) وقبلها من (الموصل) وقبلها من (بلاد الشام) بعد أن ترك (بلاد فارس) وعبر مع الكاهن المسيحي الطيب خلال (بلاد الرافدين) حتى يصل إلى (يثرب) هذه المدينة الجميلة التي طلب منه كاهن عمورية أن يرحل إليها بقوله (اذهب إلى مدينةٍ بها نخلٌ كثير, بين حرتين!)...... عند ذلك اتسعت عينا سلمان على آخرهما وكأنه قد تذكر شيئاً كان غائباً عنه ... (بين حرتين) أعادها سلمان على نفسه و قد زادت دقات قلبه وكأنه عثر على شيئٍ كان ضائعاً عن ذهنه! ووضع سلمان يده على رأسه و كأنه يعصر أفكاره, وازداد اتساع حدقتي عينيه و كأنه يرى المدينة من نفس المكان الذي رآها منه لأول مرة من أعلى نقطة فيها يوم أن أتى به سيده عبداً إليها, فرأى المدينة محاطةً بالجبال من الجهة الشرقية و الجهة الغربية وكانت الجهة الجنوبية محروسةً من (بني قريظة) ضمن اتفاقية مع المسلمين ألاّ يسمحوا لأي جيش معادِ بالمرور من خلالهم. إذاً لم يكن أمام هذا الجيش الجرار إلاّ الإغارة على المسلمين من الشمال, وعند هذه اللحظة رجع سلمان مرةً أخرى بذاكرته إلى بداية مغامرته... إلى رحلته خلال بلاد فارس مع الكاهن المسيحي الذي ساعده على الفرار إلى بلاد الشام وكيف روى له عن ذلك الجيش الجرار الذي أتى به ذلك الفاتح ليغزوا به مدن الفرس, و كيف صمدت أمامه المدينة التي مر بها سلمان في رحلته الأولى. _ يا رسول الله! نظر الجميع باتجاه مصدر هذا الصوت الذي انبعث بنبرة مليئةٍ بالثقة و القوة فرأوا رجلاً طويل الساقين غزير الشعر يوجه حديثه للرسول إلى الرسول: _ يا رسول الله ... إنّا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا عليهم. صمت الجميع بانتظار رد الرسول الذي أدار الفكرة في رأسه, ثم أقرَّ بها..... أقرَّ خطة سلمان (الخندق)!
********************************
المشروع المستحيل
كانت المدينة المنورة مدينةً تقع بين جبال سوداء من الشرق والغرب (بين حرتين) و كانت المنطقة الجنوبية منها مسكونة من (بني قريظة) و قد كانت شديدة التحصين وقد عقدوا اتفاقية مع المسلمين على أن لا يسمحوا لأي قوة معتدية من المرور من عندهم بل وكان عليهم المحاربة مع المسلمين كما تقول الاتفاقية وقد بعث الرسول إليهم ليتأكد من ولائهم فأكدوا له الوفاء بالإتفاقية , لذلك استحال دخول جيش الأحزاب المتحالفين من هذه الجهة (أوهكذا كان يظن المسلمون!) فكان الهدف إذاً حفر خندق في المنطقة الشمالية, و كانت المسافة المراد حفرها بين الجبال الشرقية و الجبال الغربية تعادل (12 كيلو متر) وكان يجب على المسلمين أن يحفروا خندقاً لا يقل عمقه عن (5 أمتار) و عرضه يتراوح تبعاً لطبيعة الأرض ما بين (5 _11 متر), أي أنه كان على المسلمين حفر ما لا يقل على (000 300 متر مكعب), و قد كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف رجل فقط بعضهم يقوم بحراسة سكان المدينة و بعضهم يقوم برعاية أمور الحياة الأخرى في المدينة لإعداد ونقل الطعام و الشراب و البعض كان مريضاً في بيته و البعض كان يعمل في نقل الصخور و الرمال بعيداً عن الخندق, وإذا ما افترضنا جدلاً أن جميع الثلاثة آلاف رجل كانوا يحفرون بغض النظر إن كان الرجل شاباً أو كهلاً, وإذا ماعلمنا أن أرض المدينة كانت أرضاً صخريةً و لم تكن رملية يسهل حفرها إضافةً أنه لم تكن للمسلمين أي خبرة في حفر الخنادق من قبل, بل لم يكن للعرب كلهم أي خبرة سابقة بهذا الأمر الذي أتى من بلاد فارس, و إذا ما علمنا أنه كان على المسلمين حفر هذا الخندق في أسبوعين فقط قبل أن تباغتهم الجيوش المتحالفة, إذا ما حسبنا هذا كله وأضفنا إليه ظروف الصحراء القاحلة من حرٍ شديد في الصباح و برد قارسٍ في الليل فإن أقل وصفٍ يمكن أن يُوصف به هذا المشروع أنه مشروع مستحيل! بدأت عملية الحفر الجبارة, و قسَّم الرسول المسلمين إلى مجموعات تقوم كل مجموعة بحفر مساحة معينة حتى إذا ما فرغت منها بدأت بغيرها,و شارك الرسول صلى الله عليه وسلم والذي قارب على الستين من عمره في الحفر مع المسلمين. ومما زاد من صعوبة الحفر الجوع الشديد الذي أنهك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكاد يقضي عليهم حتى أن بعض المسلمين ربطوا على بطونهم حجارةً لكي يخففوا من وجع معداتهم الفارغة و لماّ اشتد بهم الجوع ذهب بعض الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكون له شدة الجوع فرفعوا عن بطونهم عن حجر لكي يظهروا له شدة جوعهم فرفع لهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن حجرين في بطنه و تابع الحفر. وكان سلمان يحفر مع مجموعته في المساحة المخصصة لهم و كان يشاهد هؤلاء الأناس الغريبين و يتسائل إن كانوا بشراً من أهل الأرض كباقي البشر أم أنهم غير ذلك! لقد كاد الجوع و البرد يفتكان بهم و هم يحفرون بصخور صماء ولكنهم كانوا سعداء في غاية السعادة وهم يعملون بجدٍ غريب و الابتسامة مرسومة على وجوههم التي غطتها الأتربة من أثر الحفر فلا يكاد يُرى في وجوههم إلّا تلك الإبتسامة التي لم يرى مثلها و هو على موائد قصر والده العامرة بألوان الطعام و الشراب. لقد كان منظراً غريباً لهؤلاء الرجال الجائعين زاد من غرابته أن الرسول صلى الله عليه وسلم و هو يحفر بدأ ينشد شعر الصحابي(عبد الله ابن رواح) رضي الله عليه و ينشد وهو ينقل التراب وقد غطى بطنه من كثرة الحفر:
اللهم لولا أنت مااهتدينا و لا تصدقنا و لا صلينا فأنزلن سكينـة علينـا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الآلي قد بغـوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم ينظر إلى صحابته العظام و هم يحفرون بعزم و همة برغم الجوع و البرد و يقول: اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للمهاجرة و الأنصار فيجيب صحابة محمد رضوان الله عليهم أجمعين بصوت واحد و السعادة بادية على محياهم: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدًا كان سلمان رضي الله عنه ينظر إلى هؤلاء الأناس العجيبين التي لم يرَ مثلهم على وجه الأرض وهم يمرحون و ينشدون و هم يحفرون بعزيمة كانت أشد و أقوى من هذه الصخور العاتية. و بينما سلمان يحفر في الخندق و يتأمل في هؤلاء الصحابة العجيبين اعترضت معوله صخرة صمّاء فحاول أن يحطمها بمعوله و لكن الصخرة لم تتزحزح من مكانها على الرغم محاولاته العديدة التي ضاعت عبثاً, فذهب إلى رسول الله يستأذنه في تغيير مسار الحفر تفادياً لتلك الصخرة فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة وقال: _ الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمر الساعة. ثم ضرب الثانية فقال: بسم الله, فقطع آخر فقال: _ الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن. ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني. كان سلمان يستمع إلى هذه البشرى و يتذكر ذلك القصر الأبيض في المدائن الذي رآه قبل أكثر من عشرين سنة و هو في بداية مغامرته في البحث عن السعادة, في البحث عن الحق, و تذكر ما اعتراه من مصاعب في حياته لكي يجد هذا الرجل الواقف أمامه حقيقةً لا خيالاً. واكتمل المشروع الخيالي في أسبوعين, و وصل الأحزاب إلى مشارف المدينة فتفاجئوا بوجود هذا الخندق أمامهم فوقع في أيديهم وطاش صوابهم و قالوا: _ هذه مكيدة ما عرفتها العرب! وقد نسوا أن الإسلام ليس ديناً للعرب وحدهم وأن بينهم صحابي جليل من بلاد فارس. فوقف الأحزاب أمام الخندق عاجزين أمام هذا المانع الصناعي الضخم, و حاولوا اقتحام الخندق من أماكن مختلفة و لكنهم وجدوا مقاومة شديدة من المسلمين الذين حالوا بينهم و بين عبور الخندق, و لكن فارساً من فرسانهم و يدعى ( عمرو بن عبد ود) استطاع أن يعبر الخندق بفرقة من الفرسان الأشداء, و لكنه فوجئ بمقاومين من الصحابة الكرام على رأسهم الصحابي (علي بن أبي طالب) رضي الله عليهم يصدون تقدمهم, فحدثت مبارزة شديدة بين الاثنين استطاع فيها عليٌ رضي الله عليه أن يصرعه قبل أن يفر الفرسان المقتحمين. و استمر الحصار شهراً كاملاً و الأحزاب عاجزةٌ على العبور بالرغم من محاولات الإقتحام المتعددة . و يأس الجيش الغازي و كادت فلولهم تندحر تجر أذيال الهزيمة خلفها........ لولا أن شيئاً مفاجئاً حدث, فغير من مجرى الأحداث! !
الخيانة!!!
عجز الأحزاب على اقتحام المدينة بعد شهرٍ من الحصار الشديد, وأيقنوا أن هؤلاء الصحابة لن يتركوا المقاومة أبداً, فأرادوا تجربة طريقة أخرى للإقتحام عن طريق الخديعة, فقام (حيي بن الأخطب) سيد بني النضير و كان أشد الناس في جيش الأحزاب كرهاً و حقداً و حسداً على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كان هو من طاف بين القبائل يحرض على محمدٍ و يجمع الجيوش لمحاربته, فقال لزعماء الأحزاب : _ إن كنّا لم نستطع أن ندمر المسلمين من الشمال فلسوف نباغتهم من الجنوب! و ذهب حيي إلى (بني قريظة) وقام بالاجتماع مع كبيرهم (كعب بن أسد) سراً لكي يقنعه لكي يقنعهم بفتح الحصون الجنوبية للجيوش الغازية فقال: _ ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر, جئتك بقريش على قادتها وسادتها, وبغطفان على قادتها وسادتها, قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه . فقال كعب بن أسد سيد بني قريظة: _ بل جئتني والله بذل الدهر , ويحك يا حُيي فدعني وما أنا عليه فإني لم أرَ من محمدٍ إلا صدقاً ووفاءًا. و لكن حيياً ظل يقنع به على فتح الحصون للتخلص من المسلمين حتى اقتنع كعب بخيانة العهد الذي كان بينه و بين الرسول صلى الله عليه وسلم, بل لم يكتفِ بقراره فتح الأبواب للجيوش الغازية بل أخذ يهيئ جيشاً لاستئصال المسلمين عن بكرة أبيهم, فكانت الخيانة! ووصل خبر خيانة (بني قريظة) للرسول صلى الله عليه وسلم, وكانت خطة بني قريظة أن يدخلوا على المسلمين من جهة الجنوب حيث نساء المسلمين و أطفالهم في المدينة و المسلمون مرابطون حول الخندق في الشمال, وأدرك الرسول مدى خطورة الموقف, فكتم الخبر عن الصحابة و بعث بوفد من الصحابة على رأسهم الصحابي (سعد بن معاذ) سراً إلى بني قريظة ليتأكد من صحة الخبر, وطلب منهم أن يكتموا الخبر ويستفسروا من بني قريظة, فإذا كانوا قد خانوا فلا يخبروا أحداً و ليخبروه عن طريق الاشارة بحيث لا يفهمها إلا هو حتى لا يحبط المسلمين المقاومين و قال لهم: _ انطلقوا حتى تنظروا ، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس . فذهب الصحابة إليهم و سألوهم إن كانوا مازالوا على عهدهم مع رسول الله, فأجابوهم: _ من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد . فأخذوا يشتمون الرسول بأقبح الألفاظ و الصحابي (سعد بن معاذ) يردهم. وبعد ذلك رجع الصحابة ووجدوا الرسول بين الناس, فأرادوا أن يبلغوه بخيانة القوم من دون أن يفهم ذلك من حوله كما أمرهم فقالوا له: _ (عضل و قارة!) ففهم الرسول أنها الخيانة , فقد كانت هذه عبارة توحي بحادثتين تعرض فيهما المسلمين للخيانة من قبل. فحزن الرسول صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً خوفاً على أرواح المسلمين و نسائهم و أطفالهم و أخذ يفكر كيف ينقذ هؤلاء الصحابة الأوفياء و الأحزاب من أمامهم و بني قريظة من خلفهم, وانتشر الخبر بين المسلمين و كأن زلزالاً قد أصاب القوم. ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم ورفع رأسه بين أصحابه وصاح فيهم عالياً: _ الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بفتح الله و نصره. وعند هذه اللحظة نهض الرسول صلى الله عليه وسلم من هول الصدمة وأخذ يفكر بعمق وأخذ قراراً بشكل حاسم ...ارسال كتيبة من من الجند إلى الجنوب لحماية النساء و الأطفال , و في هذه الأثناء طلب المرتزقة من قبيلة غطفان من الرسول أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة لسنة كاملة مقابل رجوعهم إلى ديارهم وترك قريش لوحدها, وكتبوا صحيفة بهذه الاتفاقية لكي يصادق عليها الرسول, و لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان زعيم المسلمين إلاّ أنه طلب أن يأخذ رأي سكان المدينة الأصليين لأنهم هم أصحاب الأرض الأصليين و إن كان هو القائد الفعلي إلاّ أنه كان يحترم الملكية الخاصة فلم يرد أن يتخذ قراراً في مالٍ لا يملكه حتى ولو كان في ذلك إنقاذ لأرواح المسلمين. فأخذ الرسول الصحيفة وعقد مجلس شورى مصغر مع زعيمي الأنصار من الأوس (سعد بن معاذ) و الخزرج (سعد بن عبادة) رضي الله عنهما, و عرض الصحيفة عليهما, فألقوا نظرة على الصحيفة ثم قالا للرسول: _ يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا ؟ قال رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم برفقٍ و حنان : _ بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما فقال له سيد الأوس (سعد بن معاذ) رضي الله عنه وأرضاه : _ يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً(ضيافة) أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا !؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . وقد كان سعد يخاف إذا وافقوا على هذا الإبتزاز أن يكرره المرتزقة دائماً كلما احتاجوا إلى المال و تهتز صورة المسلمين أمام الناس. فاقتنع الرسول بوجهة نظر السعدين رضي الله عنهما أُعجب برأيهم و قال لسعد بن معاذ : _ فأنت و ذاك . فتناول سعد بن معاذ رضي الله عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال بصوت تجسدت فيه كل معاني الشجاعة والإباء: _ ليَجهدوا علينا ! (لِيِرونا ما هم صانعون!) ثم ذهب ليعد سلاحه ويودع أمه فقالت له أمه: _ الحق بني فقد والله أخرت. فتناول سعد رمحه و تقدم يقاوم القوات الغازية بإقدام عجيب ليدافع عن المسلمين وهو ينشد:
لبّثْ قليلا يشهد الهيجا جمَل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فتعجب الأحزاب من هذا الفارس الذي يقدم للقتال رافعاً رمحه عالياً يدافع به عن المسلمين. فألقوا عليه النبال, فأصيب سعد بسهمٍ من سهام الغزاة و كانت إصابته خطيرة, فاجتمع المسلمين حول هذا الزعيم الشاب الذي يبلغ من العمر سبعاً و ثلاثين سنةً فقط فأخذ (سعد بن معاذ) رضي الله عنه وأرضاه يدعو الله ويقول: _ اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها واجعل موتتي فيها. ثم تذكر ما عاناه الرسول و الصحابة في حفر الخندق من بردٍ وجوعٍ و تعب, وأن تعبهم سيضيع هباءاً نتيجةً لخيانة بني قريظة فقال في آخر دعائه: _ ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. حزن المسلمون أشد الحزن لما أصاب كبير الأنصار, وازداد الحصار وطأة, وأصبحت المدينة مهيأة للإقتحام في أي لحظة وأطفالهم و نساؤهم فيها, وزُلزل المسلمون أيما زلزال وزاعت الأبصار, وبلغت القلوب الحناجر, ولكن الصحابة العظام ثبتوا وعزموا على الدفاع و المقاومة حتى آخر رمق في حياتهم, وأوشكت القوات الغازية على التحرك. وفي هذه اللحظة وبينما الرسول يفكر في مصير المسلمين وفي مصير الإسلام بل وفي مصير الناس في جميع أرجاء الأرض الذين لم تصلهم دعوة الإسلام في ترك عبادة الخلق و عبادة رب الخلق, وبينما هو يفكر ويناجي ربه وإذ برجل ملثم يأتي خفية في ظلمة الليل للرسول ويتحدث معه بحديثٍ سري ثم يتركه, فيذهب لعمل شيءٍ ما يغير فيه مسير المعركة رأساً على عقب!
(الجنود التي لم تروها)
كان هذا الرجل الذي قدم للرسول سيداً من سادات قبيلة غطفان ويدعى (نعيم بن مسعود الأشجعي) وكان قائداً من كبار قادة جيش الأحزاب, وكان هدفه الذي أتى من أجله هو تدمير الإسلام و إنهائه من الوجود لما سمعه من قبل من أقاويل عن الإسلام و محمد, ولكنه لمّا قدم بجيشه إلى المدينة ورأى ما رآه من صلابة المسلمين و دفاعهم تعجب من السبب الذي يدعو هؤلاء الناس من الثبات أمام جيشٍ جرار لم ترَ الصحراء مثله من قبل وهم محاصرون من أمامهم و من خلفهم, فسأل عن سر هذا الدين الذي يجعل من أناسٍ بسطاء يملكون هذه القوة و الثبات وأخذ يسأل عن محمد و دينه من دون أن يجعل قلبه الحاقد على الإسلام يحكم على عقله الذي بدأ يتعرف على حقيقة الإسلام من دون تشويه أو حكم مسبق. فكان العجب! لقد أيقن هذا الرجل الذي كان يكره المسلمين و رسولهم أشد الكره أن هذا الدين هو الدين الحق و أن هذا الرجل الذي كان يتمنى قتله هو رسول الله الذي بعثه لهداية الناس أجمعين, فخاطر بحياته و تسلل إل المدينة وهو يعلم أنه معرض للقتل في أي لحظة, واتجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي, فلما انتهى الرسول من صلاته جلس وقد كان يعرفه وقال له: _ ما جاء بك يا نعيم ؟ فقال نعيم بن مسعود: _ إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق ، فمرني بما شئت
يا رسول الله فوالله لا تأمرني بأمر إلا مضيت له ، فقومي لا يعلمون بإسلامي. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: _ إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا ان استطعت، فإن الحرب خدعة. فانطلق نعيم و أخذ يفكر كيف يحمي المسلمين من القتل من قبل الأحزاب المتحالفة و قد كان رجلاً ذا عقلٍ و تدبير, فخطرت على باله فكرة, ودعا ربه أن ينجح في تنفيذها و ذهب إلى بني قريظة مباشرة و قال لهم: _ يا بني قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم. (وقد كان نعيم بن مسعود رضي الله عنه صديقاً قديماً لهم يأتي إليهم بين حين و آخر ليشرب و يتسامر) قالوا: صدقت، لستعندنا بمتهم. فقال لهم: _ إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه اموالكموابناؤكم ونساؤكم،لا تقدرون على ان تحولوا منه الى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوالحرب محمد واصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسواكأنتم، فإن رأوا نهزة اصابوا بها، وان كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبينالرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به ان خلا بكم......ثم أضاف : _فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهمرهنا من أشرافهم، يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه. فقالوا له: قد أشرت بالرأي. واقتنع بنو قريظة بكلام نعيم, وخافوا من أن تذهب جيوش الأحزاب و تتركهم لمحمد لينتقم من خيانتهم له, فقرروا أن يأخذوا راهئن من سادة قريش ليضمنوا أنهم لن يرجعوا قبل أن يبيدوا المسلمين. ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لزعيمهم (أبي سفيان بن حرب) ومن معه من رجال قريش: _ قد عرفتم ودي لكموفراقي محمدا، وانه قد بلغني أمر، قد رأيت علي حقا ان ابلغكموه، نصحا لكم، فاكتمواعني. فقالوا: نفعل. فقال: _ تعلمون إن معشر (بني قريظة!) قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهموبين محمد، وقد أرسلوا اليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك ان نأخذ لك منالقبيلتين، من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معكعلى من بقى منهم حتى نستأصلهم, فأرسل اليهم أن نعم، فإن بعثوا إليكم يلتمسونمنكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا! ثم خرج فأتى غطفان فقال: _ يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبالناس إلي ولا أراكم تتهموني. قالو: صدقت ما أنت عندنا بمتهم فقال: فاكتموا عني. قالو: نفعل. ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم. فاستشاط زعماء قريش وغطفان غضباً وخافوا من أن يغدر بنو قريظة فيهم كما غدروا بمحمد من قبل, فقرروا أ ن يتأكدوا من ذلك بأنفسهم, فأرسلت قريش وغطفان الى بني قريظة رسلاً لتحديد موعد الهجوم, فأجابهم (كعب بن أسد) سيدبني قريظة: _ إن اليوم هو يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا وقد كان بعضنا أحدث فيه حدثا فأصابهما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكميكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب أن تنشمروا إلىبلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: _ والله لقد حدثكم نعيم بن مسعود بحق. فأرسلوا إلى بني قريظة بالرسل قائلين: _ إنا والله ما ندفعإليكم رجلا من رجالنا فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فاجتمع بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا الجواب و قالوا لأنفسهم: _ إن الذي ذكر لكمنعيم لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوه. وإن كان غير ذلكانشمروا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغطفان جوابهم: إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونارهن. فأبت قريش و أبت غطفان و أصر بنو قريظة على طلبهم . فثار الشك بين الأحزاب و بعضهم البعض, ومما زاد من سوء وضع الأحزاب حدوث شيئٍ لم يستطيعوا تفسريه, فقد هبت ريح شديدة قاسية البرودة على معسكر الأحزاب اقتلعت كل خيامهم و أطفأت نيرانهم و قلبت قدورهم, و الغريب أن هذه الريح كانت هينة على المسلمين مع أنهم كانوا في نفس المكان لا يفصل بينهم و بين الأحزاب إلا الخندق, فضاقت الأرض بالأحزاب و اتخذوا قرارهم النهائي. وبعث الرسول الصحابي (حذيفة بن اليمان) رضي الله عنه إلى معسكر الأحزاب ليستطلع أخبارهم فرجع حذيفة بالخبر الجميل: _ لقد عزم الجميع على الرحيل! الله أكبر ...صاح الصحابة الكرام و عانقوا بعضهم البعض فرحاً للنصر على أكبر جيش عرفته الصحراء, ودمعت الأعين فرحاً و حمدوا الله على ما آتاهم. و انسحبت كل قبيلة من حيثما أتت تجر ورائها ذيول الخيبة بعد حصار شهر, و تفرقت الأحزاب, و انتصر المسلمين. و قد خلَّد الله هذه المعركة الباسلة في القرآن, فأصبحت قصتها خالدة خلود القرآن:
رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته في المدينة بعد شهر من الرباط و المقاومة حول الخندق و اغتسل و أراد أن يستريح من بعد طول عناء فجاءه جبريل عليه السلام و قال له: _ أوضعت السلاح؟! والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها (في إشارة إلى أن الملاكة كانت جنوداً في المعركة) ثم أضاف جبريل: فانهض بمن معك إلى بني قريظة ، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب! فتناول الرسول صلى الله عليه وسلم سلاحه و طلب من الصحابة أن يتجهوا سريعاً لبني قريظة للإنتقام السريع من خيانتهم للعهد (وكان الصحابة قد أرادوا الاستراحة بعد شهر من المعركة) فما أن سمعوا كلام الرسول حتى قاموا رضوان الله عليهم أجمعين كأنهم كانوا في شهر من الراحة و الاستجمام , و اجتمع ثلاثة آلاف صحابي كأنهم فرسان من السماء و قال لهم الرسول: _ لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة. فأسرع الصحابة إلى معسكر الخونة الذين أرادوا قتل نسائهم و أطفالهم بينما هم مرابطون حول الخندق, فملئت قلوب بني قريظة بالرعب, فهربوا مسرعين إلى حصونهم و أقفلوا خلفهم الأبواب, فحاصرهم المسلمون خمس وعشرون ليلة. فلما اشتد الحصار اجتمع بنو قريظة ليتشاوروا ماذا هم فاعلون, فعرض عليهم رئيسهم (كعب بن أسد) ثلاث خصال وقال لقومه: _ إما أن تسلموا وتدخلوا مع محمد في دينه _ وإما أن تقتلوا أولادكم و نسائكم وتخرجوا إليه بالسيوف مصلتة حتى تظفروا به أو تُقتلوا عن آخركم _ وإما أن تهجموا على محمد وأصحابه وتباغتوهم يوم السبت لأنهم قد أمنوا أن تقاتلوهم فيه ! فلم يرضَ بنو قريظة على اقتراحات سيدهم الثلاثة و استسلموا , و انتظر الناس ماذا يحكم الرسول بهم, و لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحكم عليهم بشيئ و إنما نظر للأوس الذين كانو حلفاء بني قريظة قبل الإسلام فأرادوا الرفق بهم في الحكم على الرغم من خيانتهم وقال لهم: _ ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى . قال : فذاك إلى سعد بن معاذ .(كبير الأوس) قا لوا : قد رضينا. فأرسل إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه ، وكان في المدينة لم يخرج معهم وقد ازداد جرحه سوءاً و عجز عن المسير فأركبه الصحابة دابةً فجاء إلى الرسول , فجعل الأوس يقولون له وهم بجانبه على الطريق: يا سعد أجمل إلى مواليك ، فأحسن فيهم فإن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك فيهم لتحسن فيهم. فسكت سعد ولم يقل شيئاً. و استمر الأوس بالإلحاح على سيدهم أن يرفق بهم رغم خيانتهم, فلما أكثروا عليه قال : _ لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فلما وصل سعد وهو مصاب نتيجة غدر بني قريظة وقف النبي صلى الله عليه وسلم احتراماً له و قال لصحابته: _ قوموا إلى سيدكم فلما أنزلوه قالوا : _ يا سعد إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك فقال سعد: قال وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا : نعم . قال: وعلى المسلمين ؟ قالوا : نعم . ثم اتجه سيد الأنصار برفق واحترام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و قال: _ وعلى من ها هنا؟...... وأعرض بوجهه وأشار إلى ناحية رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له وتعظيما (ولم يقل و حكمي على رسول الله من شدة أدبه ورفعة أخلاقه) فقال الرسول: نعم وعلي . فنظر سعد نحو الخونة من بني قريظة و تذكر أنهم كانوا قد وعدوا المسلمين بالدفاع عن المدينة ضمن اتفاقية دفاع مشترك يحمي بها المسلمين بني قريظة إذا تعرض لهم أحد, وتذكر كيف اطمأن المسلمون لهم من الجنوب مما دفعهم إلى أن يحفروا الخندق ليلاً ونهاراً في جهة الشمال قبل أن يغدروا بالعهد و يتاحلفوا مع الأحزاب الغازية لقتل أطفال المسلمين و نسائهم الموجودين لوحدهم في المدينة و المسلمون مرابطون في الشمال في عملية غدر أقل ما يقال عنها أنها قذرة, تذكر أنه ذهب إليهم يطلب منهم البقاء على العهد فسبّوه بألفاظ نابية و نالوا من رسول الله بكلمات فاحشة, تذكر كيف هيئوا الجيوش لمباغتة المسلمين من الجنوب بينما ينقض الأحزاب من الشمال فيدمروا الإسلام إلى الأبد, تذكر كيف تركهم المسلمون يعيشون في المدينة في سلام على الرغم من كونهم غير مسلمين و تذكر كيف ترك المسلمون لهم حرية العبادة في الدولة الإسلامية من دون تدخل,وأن المسلمين حفظوا لهم أعراضهم و مالهم و لم يتعرضوا لها أبداً بل إنهم أعطوهم مالاً كثيراً ليحرروا سلمان الفارسي رضي الله عنه من سيده , تذكر كيف قابلوا المعاملة الحسنة بالخيانة و الغدر, فأدرك أن الحكم العادل بهم هو حكم الخيانة العظمى فقال و الإصابة محفورة في جسده حفراً: _ فإني أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتسبى الذرية وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات.
وتم تنفيذ حكم الخيانة العظمى بالقوم الخائنين لما صنعته أيديهم و عند هذه اللحظة ازدادت شدة الحمى بالصحابي الجليل (سعد بن معاذ) فتذكر الصحابة دعاءه عندما أصيب بالسهم: ( اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجرها (اي الاصابة) واجعل موتتي فيها, ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.) أما و قد أقر الله عينيه من بني قريظة, فقد أزفت ساعة الوداع....... فأعيد سعد رضي الله عنه الى فراشه في المدينه, فحضره رسول الله عليهالصلاة والسلام ومعه وزيريه (ابو بكر الصديق) و(عمر بن الخطاب) رضي الله عنهما وهما يبكيان بصوت عالٍ فلم يميز المسلمين بكاء أبي بكر من بكاء عمر. وأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام رأس سعد وقد نالت منه الحمى ما نالت و وضعه فيحجره وقال: _ اللهم إن سعدا قد جاهد في سبيلك, وصدقرسولك,وقضى الذي عليه, فتقبل روحه بخير ماتقبلت به روحاً. فلما سمع سعد كلام رسولالله فتح عينيه الضعيفتين ونظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بصوت خافت: _السلام عليك يارسول الله, أما إني أشهد أنك رسول الله .........جزاك الله خيراً يارسول الله من سيد قوم , فقد أنجزت اللهَ ماوعدته , ولينجزنك الله ماوعدك. وانفجر جرح سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه كما دعا ربه . و استشهد متأثراً بإصابته في معركة الخندق الخالدة. فحزن الرسول و الصحابة حزناً شديداً على فقدان سعد رضي الله عنه وأرضاه. وتذكر المسلمين بطولة هذا الشاب الذي كان سبباً في إسلام قبيلة الأوس كلها, و كيف استقبل المهاجرين المستضعفين في ديارهم وكيف وقف قبل غزوة بدر يقول كلاماً عجزت الألسن أن تنطق بمثله عندما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمع رأي الأنصار قبل معركة بدر فوقف سعد بن معاذ رضي الله عنه بثباته المعهود و قال للرسول: _ يا رسول الله ........لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودناومواثيقنا، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتبنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بناعدونا غدًا، إنا لصُبُر في الحرب، صُدُق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرَّ بهعينك، فسر بنا على بركة الله. وحمل الصحابة الكرام جنازته فوجدوا أن جنازته خفيفة على الرغم من أنه كان رجلاًجسيماً فتعجبوا من ذلك فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: _ إن الملائكة كانت تحمله. وقال الرسول لأصحابه : _ اهتز موت الرحمن لموت سعد بن معاذ
**********************************
حقيقة الإسلام
ذاع صيت المسلمين بعد انتصارهم في معركة الأحزاب (الخندق) , و صارت القبائل العربية تتناقل قصص هذه المعركة التي صمد فيها قلة من الناس أمام أكبر جيش متحالف عرفته رمال الصحراء القاحلة, فاكتسب المسلمون قوة عظيمة لم يجرؤ أحد على تحديها و لم يفكر أحد بغزو المدينة بعد هذه المعركة. ولكن المسلمين تفاجئوا بشخص متوجه نحو المدينة من منطقة (نجد), فارتاب الصحابة لهيئته المتخفية, فأوقفوه في طريقه و حقق معه بعض الصحابة فاعترف لهم أنهم قادم إلى المدينة متخفياً ليغتال رسول الله صلى الله عليه وسلم و يحقق ما لم تحققه جيوش العرب مجتمعة, فاندهش الصحابة من جرأة هذا الرجل و ازدادت دهشتهم لما علموا من هو! لقد كان (ثمامة بن أثال) زعيم بني حنيفة و من أغنى أغنياء العرب, فجاءوا به إلى الرسول ليحكم على هذا الرجل الذي قطع الصحراء لاغتيال الرسول, فأمر بربطه في عمودٍ من أعمدة المسجد! و أتى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرجل الذي قدم لقتله و سأله برفق: _ ما عندك يا ثمامة؟ (أي ما رأيك في هذا الأمر) فأجاب ثمامة: _ عندي خير يا محمد...... إن تقتل تقتل ذا دم (أي أن لدي قبيلة سوف تنتقم لي إذا قُتلت) و إن تُنعم تُنعم على شاكر (أي اني سوف أحفظ لك حسن صنيعك إن عفوت عني) و إن كنت تريد المال فسَل تعطى ما تريد! ففرح مساكين المسلمين لعلمهم أن ثمامة من أغنى أغنياء العرب و أنه سيفدي نفسه بمالٍ كثير يخرج المدينة من ضائقتها الصعبة في ذلك الوقت الصعب بعد حصار الأحزاب لهم, وربما رأى بعض الصحابة رضوان الله عليهم أن يقتل عقاباً لأنه كان ينوي اغتيال الرسول, و لكن الرسول لم يجبه و تركه مربوطاً في الجامع يرى المسلمين و هم يصلون و يقرأون القرآن و يتباحثون فيما يدعو إليه الإسلام. و في اليوم التالي جاء الرسول إلى ثمامة و سأله برفق: _ ما عندك يا ثمامة؟ فكرر ثمامة اقتراحاته الثلاثة على الرسول, فتركه الرسول في المسجد و مضى. ومكث ثمامة في المسجد و أخذ يشاهد المسلمين من حوله فرأى أناساً عجباً, رأى الأبيض يمشي بجوار الأسود, بل كان الرجل الذي يؤذن للرسول وأصحابه رجلاً أسوداً (بلال بن رواح رضي الله عنه), وسمع قرآناً لا هو بالشعر ولا هو بالسحر يتلى على المسلمين فيخترق قلبه قبل أن يصل إلى أذنيه, وسمع الصحابة يتباحثون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه من تعاليم سمحة من احترام الكبير و العطف على الصغير و اطعام الجائع و نصرة المظلوم, فلما جاء اليوم الثالث جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم و قال له: _ ما عندك يا ثمامة؟ فرد ثمامة بنفس الرد الذي رده من قبل. فقال الرسول: _ أطلقوه قد عفوت عنك يا ثمامة ! فك الصحابة قيد ثمامة الذي كان يمكن أن يفدي نفسه بمال لا يتخيل و قد تعجب هو نفسه من حكم الرجل الذي أتى لقتله, فخرج ثمامة حتى أتى حائطا من حيطان المدينة فاغتسل فيه وتطهر وطهر ثيابه ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فقال: _ يا محمد لقد كنت وما وجه أبغض إلي من وجهك ولا دين أبغض إلي من دينك ولا بلد أبغض إلي من بلدك ثم لقد أصبحت وما وجه أحب إلي من وجهك ولا دين أحب إلي من دينك ولا بلد أحب إلي من بلدك ؛ وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . وأسلم الرجل الذي كان يريد قتل الرسول منذ ثلالثة أيام فقط بعد أن فهم ما يدعو إليه الإسلام من دون تحريف, بعد أن عرف من هو نبي الإسلام الذي كان يظن أنه رجل شريرمن قبل فإذا هو بعد مقابلته و التعرف عليه شخصياً يصبح أحب أهل الأرض على قلبه. و قد قام (أثامة بن أثام) رضي الله عنه بعد إسلامه مباشرةً بشيئٍ عجيب, فلم يرد أن يسلم و يتعبد الله بالصلاة فقط, و إنما أراد أن يكون مسلماً إيجابياً لنصرة الإسلام و رسوله, فقام مباشرة بعمل (مقاطعةٍ إقتصادية) على الذين يحاربون الإسلام فلم يشترِ من قريش أي شيئ و لم يبع لهم أي شيئ, فقطع الشعير الذي كان يورده إلى مكة, فانقطع الغذاء عن قريش, وكان هذا أسلوب جديد في محاربة أعداء الإسلام (المقاطعةٍ الإقتصادية) وقد أقره الرسول لما له من دور كبير في نصرة المسلمين في كل زمان!. وتوسل زعماء قريش من ثمامة أن ينهي هذه المقطعة الاقتصادية التي كانت أصعب عليهم من الحرب نفسها, فقال لهم ثمامة رضي الله عنه: _ والذي نفس ثمامة بيده لا تأتيكم حبة من اليمامة وكانت ريف أهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعثت قريش بوفد للرسول يستحلفونه بالأرحام أن يطلب من سيد بني حنيفة الذي صار يمتثل له أن يفك المقاطعة عليهم, فتذكر المسلمون كيف حاصرت قريش المسلمين شهراً كاملاً في الأحزاب, و تذكروا كيف منعت الناس الشراء أو البيع للمسلمين وبني هاشم ثلاثة أعوام في مكة قبل ذلك حتى ماتت زوجة الرسول (خديجة بنت خويلد) رضي الله عنها و عمه (أبو طالب) في (عام الحزن), و كيف حاربت المسلمين و شردتهم من ديارهم, رغم هذا كله بعث الرسول لثمامة أن يفك الحصار عليهم لما لهم من الأرحام.
*****************************
1500
(أنتم خير أهل الأرض)
قويت شوكة الإسلام بعد الأحزاب, وتثبتت دعائم الدولة, و كانت غزوة الأحزاب بحقٍ بمثابة الفاصل ما بين زمنين اثنين (زمن التأسيس) و (زمن التمكين).
و رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في منامه رؤية أنه يدخل البيت الحرام (الكعبة) هو وأصحابه معتمرين, وقرر أن يذهب مع أصحابه في رحلة عمرة جماعية إلى مكة, و قد كان هذا القرار يحمل خطورة كبيرة على أرواح المسلمين ذلك أنه لم تكن هناك أي اتفاقية عدم اعتداء بين المسلمين و قريش, فكيف بهم يذهبون إلى عقر دار قريش بأنفسهم و هم لا يحملون سلاحاً للحرب (إلا سلاح المسافر لحماية النفس), و على الرغم من وجود قانون بين العرب حتى من قبل الإسلام يمنع القبيلة التي تشرف على الكعبة (و هي قريش) من الاعتداء على أي أحد يأتي ليزور الكعبة بل و يفرض عليها اكرامه و حمايته من أي مكروه, إلا أن قريشاً جمعت جيشاً كبيراً و أرادت اعتراض طريق الرسول و صحابته لثنيهم عن القدوم لمكة, إلا أن المسلمين ثبتوا و أصروا على حقهم بزيارة البيت, فقامت قريش بمفاوضة الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يرجع من حيثما أتى, و أرسلت الرسول تلو الرسول إلى المسلمين للتفاوض معه, فأخبرهم الرسول أنه لم يأتِ للقتال و إنما مجيئه لأداء العمرة فقط. و لكن مجموعة من خمسين شاباً من شباب قريش لم يعجبها أن يكون هناك صلح مع المسلمين, فأرادت أن تشعل شرارة الحرب الأولى بمباغتة المسلمين ليلاً و هم نيام فيُفرض القتال فرضاً على الطرفين, فتسللوا في عتمة الليل حيث المسلمون نيام, و لكنهم فوجئوا (بقائد العمليات الخاصة للمسلمين) و هو الصحابي (محمد بن مسلمة) رضي الله عنه فقام و من معه من الصحابة الكرام بسلاحهم الخفيف بأسر المجموعة المتسللة كلها, فأُسر الخمسون شاباً, و لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى قريش و أخبرهم أنه لا يريد القتال و إن كان المسلمون لا يخشون القتال. و لقد خلد الله سبحانه وتعالى ما صنعه هذا القائد الصحابي (محمد بن مسلمة) رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الكرام في سورة الفتح وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً(24) (و الجدير بالذكر أنه قد أوكلت لهذا الصحابي الجليل (محمد بن مسلمة) رضي الله عنه قبل هذه المهمة و بعدها مهام أقل ما توصف بها أنه مهام فدائية!) و توالت السفارات بين قريش و رسول الله صلى الله عليه وسلم, حتى قررت قريش أن تبعث أعظم زعيم من زعماء العرب ليتوسط بينهم وبين المسلمين, فبعثت بزعيم قبيلة ثقيف (عروة بن مسعود الثقفي) و كان سيداً له احترامه بين قبائل العرب قاطبة, و هو أحد الرجلين اللذين ورد ذكرهما بالقرآن عندما تمنّى كفار قريش أن يكون النبي أحدهما في سورة الزخرف وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍالزخرف31...... و القريتين هما مكة و الطائف و الرجل الثاني هو الوليد بن المغيرة سيد مكة السابق. فأخذ عروة بن مسعود يتفاوض مع الرسول و الرسول يبلغه أنه قادم للعمرة ولا يريد قتالاً, و قد لاحظ عروة الصحابة الذين من حول الرسول فتعجب منهم أيما عجب وقد كان من بينهم رجل بجانب الرسول وسيفه معه يحرس النبي, فسأل من هذا فقالوا له هذا ابن أخيك الصحابي (المغيرة بن شعبة بن مسعود الثقفي) رضي الله عنه فتعجب من ولاء هؤلاء الصحابة لرسولهم وفيهم ابن أخيه يسمع و يطيع للرسول دون عمه ! فرجع عروة بن شعبة الثقفي إلى قريش يبلغهم بنتيجة سفارته فقال لقريش: _أي قومِ، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً وقال أيضاً يصف الصحابة: إذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له , وإنه قد عرض عليكم خطة رشدٍ فاقبلوها! فأصبحت قريش في حيرة من أمرها أتقبل الصلح مع المسلمين أم تحاربه و هي تعرف أن لا قبل لهم بملاقاة محمدٍ و أصحابه, فقرر الرسول أن يبعث بسفير إلى مكة ليتفاوض مع قريش من دون وسيط و يعرض عليهم الصلح وما أراد الرسول نقله لقريش , فبعث الرسول الصحابي ذا النورين (عثمان بن عفان) رضي الله عنه وأرضاه (و قد كان زوج ابنة الرسول أم كلثوم عليها السلام حينئذٍ بعد أن توفيت زوجته رقية عليها السلام بنت الرسول أيضاً فسُمِّي بذي النورين) و كان رجلاً حليماً كريماً محبوباً عند العرب من قبل إسلامه و بعده, فوصل عثمان رضي الله عنه إلى مكة ونزل في جوار (ابان بن سعيد) الذي أخبره أنه كان للتو في تجارة في الشام فأنبأه كاهن مسيحي أن نبياً سيخرج الآن في بلاد العرب. و أحسنت قريش استقبال عثمان بل و عرضت عليه ما منعته على المسلمين أن يعتمر و يطوف حول البيت بينما هم يتباحثون في أمر الصلح فكان رد ذو النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه رداً واضحاً: _ لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم! فازداد غيظ قريش من محمد وأصحابه و أدركوا أنهم أمام رجالٍ يدينون بالولاء التام لقائدهم, فأخذوا يبحثون شروط الصلح مع المسلمين و عثمان رضي الله عنه وأرضاه ينتظر الرد ليرجع به. و لمّا طال غياب عثمان أُشيع بين المسلمن أن قريشاً قتلت الصحابي السفير عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه, فجمع الرسول أصحابه وطلب منهم أن يبايعوه على القتال و عدم الفرار حتى ولو واجهوا الموت على الرغم من أنهم لا يملكون إلا سلاحاً خفيفاً للحراسة و قريش و حلفائها من الأحابيش في كامل عدتهم و سلاحهم. فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم تحت شجرة و أتى ألف و خمسمائة صحابي يمدون أيديهم يبايعونه واحداً تلو الآخر وبعضهم يبايعه على الموت و بعضهم يبايع الرسول على الموت ثلاث مرات ولم يبقَ إلا عثمان رضي الله عنه لم يبايع من الصحابة والمسلمون لا يعرفون أحياً كان أم ميتاً, فوضع الرسول يده اليمنى على يده اليسرى وقال: _اللَّهم هذه عن عثمان. فبايع له الرسول بيده. ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم بفخر إلى هؤلاء الرجال الألف و خمسمائة صحابي الذين يقدمون أرواحهم للموت و قال لهم: _ أنتم خير أهل الأرض. ونزل قرآن يترضى على هؤلاء الألف و خمسمائة صحابي ويؤكد أن قلوبهم صادقة في قوله عز و جل: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (الفتح:18) وقد سميت هذه البيعة ببيعة الرضوان أو بيعة الشجرة.
**********************************
الفتح المبين
ِانَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
وعند هذا الموقف الذي أعلن فيه الصحابة تضحياتهم العظيمة، ورغبتهم الأكيدة في الموت اهتزت مكة من داخلها هزة عنيفة، فأدركوا أنهم أمام رجالٍ يطلبون الموت, فقد بايع الصحابة على أن يموتوا وعلى ألا يفروا حتى النهاية، حتى ولو كانوا عُزْلاً أو لم يكن معهم إلا سلاحٌ بسيط. فأسرعت قريش باطلاق عثمان رضي الله عنه وأرضاه وأبلغته أنها جاهزة للتفاوض وبعثت رجلاً من أشرافهم ليتم الصلح هو (سهيل بن عمرو) وكان رجلاً موتوراً مجروحاً في كرامته لأن أغلب عائلته أسلمت من غير رضاه, فقد أسلم ثلاثة إخوة له و ثلاثة أبناء رابعهم أسلم و أراد اللحاق بالمسلمين و لكن أباه قيده و ربطه في المنزل وأتى ليفاوض الرسول, فلمّا وصل إلى الرسول و دارت المفاوضات ودعا الرسول الصحابي (علي بن أبي طالب) صلى الله عليه وسلم ليكتب كتاب الصلح بين الطرفين وقال لعلي رضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم
فقال سهيل : أماالرحمنفواللهماادريماهو ولكن اكتب باسمك اللهم فقالالمسلمون : واللهلانكتبها إلا بسماللهالرحمنالرحيم .
فقال رسول الله : اكتب باسمك اللهم, فكتبها علي ثم قال الرسول : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو
فاعترض سهيل وقال : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب اسمك و اسم أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واللهإنيلرسولاللهوانكذبتموني . ثم قال الرسول لعلي: امحه فأبت نفس علي أن تمحو كلمة رسول الله, فسأل الرسول علياً عن موضع الكلمة (و قد كان أمياً لا يستطيع القراءة و لا الكتابة) فأشار علي إلى موضع كلمة (رسول الله) فمحاها الرسول بنفسه.
وقال رسول الله لعلي : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو وأخذ علي يكتب بنود الصلح وكان أهم ما ينص عليه: _ أن يعود المسلمون هذا العام على أن يدخلوا مكة معتمرين في العام المقبل. _ هدنة مدتها 10 سنين. _ وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه, ومن أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه مع عدم الاعتداءعلى أي قبيلة أو على بعض مهما كانت الأسباب. _ وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه, ومن أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه.
استغرب كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين من هذا الصلح الذي رأوه ظالماً لهم و هم الذين كانوا قد قرروا الموت نصرة للإسلام. فكيف يعيد المسلمون من أتاهم من قريش مسلماً ولا تعيد قريش من أتاها من المسلمين ؟! ولكن الرسول كانت له نظرة مستقبلية للأمر أكثر عمقاً و تأملاً: فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أنه إذا كان هناك أحد بين المسلمين ينافق في شأن إسلامه فمن الأفضل للمسلمين أن يتركهم و يذهب إل قريش من أن يظل بين المسلمين يزعزع أمن المدينة و ينشر البلابل فيها, أما من كان صادق الإيمان فلن يترك معسكر الإسلام تحت أي ظرف كان, أما من أراد أن يسلم من قريش و كان صادق الإيمان فلن تمنعه أي قوة من أن يترك إسلامه. وهذا ما كان, فلم يخرج أي أحد من الصحابة المدينة ليذهب إلى قريش و هذا ما يدل على صدق إيمانهم و اطمئنان قلوبهم للإسلام, بينما خرج من قريش من أسلم وأراد الالتحاق بالمسلمين فقد كان منهم العجب: فقبل اعتماد الإتفاقية و بينما سهيل بن عمرو يتفاوض, وإذ بشابٍ يأتي من بعيد و يقترب من الرسول وهو يجر قيوده من خلفه فصُدم سهيل بن عمرو مما يرى! لقد كان عذا الشاب هو ابنه (أبو جندل بن سهيل) رضي الله عنه الذي ربطه أبوه في البيت بعد إسلامه, ففك قيوده و أتى للمسلمين. فازداد غيظ سهيل و قال للرسول: _هذا أول ما أقاضيك عليه. ولكن الرسول حاول قدر المستطاع أن يحمي أبا جندل من أبيه باللين، فقال لسهيل: _ إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ.(أي لم نوقع الإتفاقية بعد!) فقال سهيل: فوالله إذن لا أصالحك على شيء أبدًا. فحاول الرسول أن يستعطف سهيلأ ليسمح لابنه أن يذهب حيثما شاء و يعتبر هذا استثناءاً و لكنه رفض بشدة و هدد بإلغاء الصلح. فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم بعطف إلى هذا الشاب الجريئ الذي ترك كل شيئٍ من أجل دينه و قال له: _ يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ. وأُرجع أبو جندل رضي الله عنه بالرغم من حزن الرسول و الصحابة من أجله أشد الحزن. و لكن شخصاً آخر و يدعى (أبو بصير) أتى للرسول من قريش يعلن إسلامه, فأخبره الرسول بأنه لا يمكنه أن يستقبله و يغدر بعهده. وبعثت قريش برجلين ليسترداه, فهرب أبو بصير رضي الله عنه خارج المدينة المنورة وبدأ يهاجم القوافل المتجهة من مكة المكرمة إلى الشام, وعندما سمع بعض المسلمين المستضعفين في داخل مكة المكرمة وفي غيرها بما فعل أبو بصير رضي الله عنه، بدءوا يأتون إليه، وازداد عددهم وصاروا يعترضون طريق القوافل المكية، فحدثت أزمة كبيرة في مكة! وأسرع أهل مكة إلى رسول الله يناشدونه بالرحم أن يضم أبا بصير إلى المدينة المنورة، وأن يلغي هذا البند من صلح الحديبية، وأن يقبل المسلمين من مكة ولا يعيدهم إليها مرة أخرى. وما هي إلا أيام قليلة بعد صلح الحديبية حتى مُحِي هذا البند من المعاهدة، وأصبحت المعاهدة خالصة لصالح المسلمين، وأصبحت فتحًا مبينًا حقيقيًّا للمسلمين. ونزلت الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ِانَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا[الفتح: 1].
************************************
عالمية الإسلام.....الإسلام ينطلق!
فلم يكن هدف الرسول استئصال قريش، ولم يكن الهدف إيمان مكة فقط، إنما كان الهدف أعمق من ذلك بكثير.
كان الهدف بشكل واضح هو تبليغ الرسالة لجميع أهل الأرض. فالرسول محمد هو آخر الرسل, فكان لزاماً أن يكون دينه هو الدين الخاتم مكملأ لرسالات الرسل من قبله, و مصححاً لما لحق برسالاتهم من تحريف أتى من بعدهم. لذلك كان لزاماً أن لا يحرف مصدر الدين الأول ...القرآن..... لأنه آخر كتاب سينزل على البشر, و هو الذي سيصحح ما حرُّف من الكتب الأخرى (لذلك لا يوجد أي اختلاف بين ملايين النسخ الموجودة من القرآن حول العالم رغم مرور مئات السنين, ولا حتى حرفاً من الحروف. على عكس الكتب الأخرى التي يوجد منها مئات الكتب التي لا تختلف فقط في بعض الكلمات و إنما في فصول و أجزاء كاملة, و الجدير بالذكر أنه لا يوجد مصدر أصلي مكتوب باللغة الأصلية لهذه الكتب بينما المصدر الأصلي للقرآن و هو المصحف العثماني موجود منذ أكثر من ألف و أربعمائة عام و حتى يومنا هذا و هو موجود الآن في متحف مدينة اسطنبول التركية) و القرآن يدل على ذلك في آيات عديدة :
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
وقد كان الرسول و الصحابة غير قادرين على تبليغ الرسالة إلى أهل الأرض لأن قريشاً كانت تتربص بهم من قبل, أما الآن فإن هناك صلحاً بين الطرفين, و أصبح المسلمون آمنين على أرواحهم إذا تنقلوا بين الناس, فقرر الرسول أداء ما طلبه منه الله....التبليغ. ليس واجباً على المسلمين أن يجعلوا كل أهل الأرض مسلمين, بل الهدف الأساسي هو إبلاغ الناس عن حقيقة الإسلام, فكان واجباً على المسلمين إيضاح حقيقة الإسلام للناس أجمعين من دون تشويه أو تحريف, ثم يُترك للشخص حرية اتباع الدين الذي يريده بعد أن تصله الرسالة من دون تزييف أو ضغط من الذين يحكمونه, فإن شاء أسلم و إن شاء بقي على دينه, كما ورد ذلك في القرآن: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
من أجل ذلك كله قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينطلق برسالته إلى أهل الأرض كلها بعد أن اطمأن من غدر قريش, فجمع سبعاً من صحابته الأوفياء الذين لم يكونوا يخشون الموت على الرغم من خطورة سفاراتهم , و بعث بسبع رسائل إلى ملوك العالم القديم:
- رسالة إلى (النجاشي أصحمة) ملك الحبشة يحملها الصحابي (عمرو بن أمية الضمري) رضي الله عنه. - ورسالة إلى (المقوقس) زعيم مصر يحملها الصحابي (حاطب بن أبي بلتعة اللخمي) رضي الله عنه. - ورسالة إلى (كسرى) ملك فارس، يحملها الصحابي (عبد الله بن حذافة السهمي) رضي الله عنه. - ورسالة إلى (هرقل ملك الروم) يحملها الصحابي (دحية بن خليفة الكلبي) رضي الله عنه. - ورسالة إلى (المنذر بن ساوى) ملك البحرين يحملها الصحابي (العلاء بن الحضرمي) رضي الله عنه. - ورسالة إلى (هوذة بن العلي) ملك اليمامة يحملها الصحابي (سليط بن عمرو العامري) رضي الله عنه. - ورسالة إلى (الحارث بن أبي شمر الغساني) ملك دمشق، يحملها الصحابي (شجاع بن وهب الأسدي) رضي الله عنه فانطلق السفراء برسائل رسول الله إلى ملوك الأرض و زعمائها لإبلاغم بدعوة الإسلام.
***********************************
السفراء السبعة
(من محمدٍ رسول الله)
رسالة المقوقس زعيم مصر:-
وصل الصحابي (حاطب بن أبي بلتعة) رضي الله عنه إلى المقوقس و سلمه رسالة الرسول.... (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلامعلى من اتبع الهدى، أما بعد... فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجركمرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبط، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءبيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباًمن دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمونآل عمران:64 نظر المقوقس إلى كتاب رسول الله يتأمل ما فيه ثم قال لحاطب: _ ما منع صاحبك إن كان نبيا أن يدعو على من أخرجوه من بلده فيسلط الله عليهم السوء ؟ فأجاب الصحابي حاطب بن أي بلتعة بثقة غريبة : _ وما منع عيسى أن يدعو على أولئك الذين تآمروا عليه ليقتلوه فيسلط الله عليهم ما يستحقون ؟! فابتسم المقوقس لهذا الرد و قال لحاطب: _ أنت حكيم جئت من عند حكيم..... لقد كنت أعلم أن نبيا سيظهر في هذا الزمان، ولكني كنت أحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام. ثم أكرم سفارة الصحابي (حاطب بن أبي بلتعة) وحمّله بالهدايا للرسول.
رسالة النجاشي ملك الحبشة (أعظم ممالك افريقيا):-
عبر الصحابي (عمرو بن أمية الضمري) رضي الله عنه بحر القلزم (البحر الأحمر) وقابل الصحابي (جعفر بن أبي طلاب) ابن عم الرسول الذي هاجر من قبل إلى الحبشة, و سلِّم النجاشي رسالة الرسول:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشيالأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فاني احمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن،واشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبةالحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق ادم بيدهونفخه...... وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له،والموالاة على طاعته، وان تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فاني رسول الله وقد بعثتإليك ابن عمي جعفراً، ومعه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فاقرهم ودع التجبر، فانيادعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلَّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبعالهدى". فكتب النجاشي إلى رسول الله صلى اللهعليه وسلم كتاباً يرد عليه: ( بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بنابجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا اله إلا هو الذي هدانيإلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماءوالأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت. وقدعرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه، فاشهد انك رسول الله صادقاًومصدقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله ربالعالمين. وقد بعثت إليك يا نبي الله (باربحابن الأصحم بن ابجر) فإني لا املك إلا نفسي، وإن شئت أن أتيك فعلت يا رسول الله فانياشهد أن ما تقول حق) و أسلم النجاشي و لكنه كتم إسلامه خوفاً على المسلمين المهاجرين في الحبشة و حتى يناصر المسلمين إذا ما احتاجوا إليه من دون أن ينقلب عليه رجال الدين من حوله. و لما مات النجاشي جمع الرسول صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام وقال لهم إن أخاكم قد مات بأرض الحبشة و صلى عليه صلاة الغائب...رحمه الله
رسالة الرسول إلى (المنذر بن ساوة) ملك البحرين و قد كان مجوسياً يعبد النار (والبحرين كان الاسم الذي يطلق على الإقليم الممتد على ساحل الخليج العربي من عمان إلى البصرة):-
وصل الصحابي (العلاء بن الحضرمي) رضي الله عنه إلى البحرين و سلمه كتاب الرسول الكريم الذي يدعوه فيه للإسلام فقرأ المنذر الكتاب ,فكتب المنذر يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إلي في ذلك أمرك) فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلاء: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية (أي من أراد أن يظل على دينه ولا يعتنق الإسلام فهو حر فيما اعتقد وله حق العيش بسلام و أمان عند المسلمين و على المسلمين حمايته و القتال من أجل سلامته مقابل الجزية على الرجال الأغنياء فقط و يستثنى منها الفقراء و النساء والشيوخ والصبيان و المعاقين , و كانت ديناراً واحداً في السنة على الغني الغير مسلم حتى و لو كان يملك مائة أف دينار فيدفع ديناراً واحداً فقط في السنة ليقوم المسلمون بالدفاع عنه و القتال بينما هو جالس في بيته لا يقاتل , بينما يفرض على المسلم الذي يملك مائة ألف دينار مثلاً زكاةً مقدارها 2.5% أي 2500 ديناراً في السنة لتنفق على الفقراء و المساكين و غيرهم ! و قد قال الرسول:من ظلم معاهداً (الغير مسلم) أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة , و قال أيضاً من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً). ثم نظر العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه على المنذر و قال له برفق: _ يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا ، فلا تصغرن عن الآخرة إن هذه المجوسية شر دين ليس فيها تكرم العرب ، ولا علم أهل الكتاب ( أي أن المجوسية دين ليس فيه عزة العربي و لا علم أهل الكتاب من يهود و نصارى) , ينكحون ما يستحيا من نكاحه ( و قد كان المجوس من الفرس و غيرهم يزنون بامهاتهم و بناتهم من دون كل أديان الأرض!) ويأكلون ما يتكرم على أكله ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة ولست بعديم عقل ولا رأي فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب أن لا تصدقه ولمن لا يخون أن لا تأمنه ولمن لا يخلف أن لا تثق به فإن كان هذا هكذا ، فهو هذا النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به أو ليت زاد في عفوه أو نقص من عقابه إن كان ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر. فقال الملك المنذر: _ قد نظرت في هذه الأمر الذي في يدي ، فوجدته للدنيا دون الآخرة ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا ، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت ولقد عجبت أمس ممن يقبله وعجبت اليوم ممن يرده وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله وسأنظر . ثم أسلم الملك المنذر و أسلم معه قومه.
رسالة (هوذة بن علي) صاحب اليمامة ( و اليمامة أرض في منتصف جزيرة العرب):-
وصل الصحابي (سليط بن عمرو العامري) رضي الله عنه إلى أرض اليمامة و سلم ملكها كتاب رسول الله:
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي سلام على من اتبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك شعر هوذة بقوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنبأ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم بالتوسع والانتشار، و لكنه أراد أن يبتز الرسول فوافق على الإسلام مقابل أن يملكه الرسول و يجعله أميراً ولذلك قرر أن يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرسل له برسالة قال فيها: _ ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك.
وقد صادف أن أركون دمشق عظيم من عظماء النصارى كان عند هوذة فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام فلم أجبه قال الأركون لم لا تجبه ؟ قال ضننت بديني وأنا ملك قومي وإن تبعته لم أملك. فقال له الأركون بلى والله لئن تبعته ليملكنك فإن الخيرة لك في اتباعه وإنه للنبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله! فوصل جواب هوذة إلى الرسول بما فيه من ابتزاز فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
_ َلوْ سَأَلَنِي قِطْعَةً مِنَ الْأَرْضِ مَا فَعَلْتُ. وقد كان الرسول لا يولي الإمارة لأحد يطلبها كما قال في أحد أحاديثه: _ إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ. ثم تنبأ الرسول له بالهلكة وقال: _ بَادَ وَبَادَ مَا فِي يَدَيْهِ. وبالفعل تحققت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أقل من سنتين، مات هوذة بن علي وفقد ملكه ولم يسلم قبل موته.
رسالة كسرى(برويز) امبراطور الدولة الفارسية العظمى:-
وصل الصحابي (عبد الله بن حذافة السهمي) رضي الله عنه إلى عاصمة الامبراطورية الفارسية، فلما دخل إيوان كسرى طلبت حاشيته أن يأخذوا الكتاب منه ليوصلوه إلى كسرى الذي لم يكن يسمح لأحد بلمسه, ويجلس بعيداً عن وزرائه لكي لا يلوثوا الهواء من حوله, فأبى الصحابي البطل (عبدالله بن حذافة) رضي الله عنه إلاّ أن يوصل الرسالة شخصياً للامبراطور, فلما رأى كسرى اصرار هذا الرجل سمح له, فدنا منه عبدالله و ناوله الكتاب: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله...... أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين, أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس ) و لكن كسرى كان سطحياً إلى أبعد الحدود, فلم ينتبه إلى مضمون الرسالة و إنما غضب غضباً شديداً لأن اسمه ورد بعد اسم الرسول، فأمسك الخطاب ومزقه، وقال في غطرسة: _ عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي! ثم سب الرسول (و قد كان الفرس يعتقدون أن العرب ما هم إلاّ بدو و أعراب وليسوا إلاّ عبيداً لهم. و للأسف مازالت هذا الاعتقاد مزروعاً في وجدان بعض مرضى النفوس ومنحرفي العقيدة من الفرس إلى يومنا هذا!!) عندما وصلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ مِثْلَ مَا مَزَّقَ الْكِتَابَ. و استجاب الله لدعاء نبيه و ما هي إلا أيام قليلة حتى قام ابن كسرى (شيرويه) بالثورة و قتل أبيه و كل اخوته ليستولي على الحكم, و تمزق ملكه كما قال الرسول, و بعد سنوات قليلة ستتمزق امبروطوريته الظالمة التي دامت آلاف السنين بأيدي هؤلاء (البدو)!
رسالة (هرقل) عظيم الروم:-
كان هرقل هو امبراطور الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) التي تقاسم الفرس في السيطرة على العالم آنذاك, و هرقل هو الاسم المختصر لاسمه الكامل (فلافيوس أغسطس هرقل) الذي حكم الامبراطورية الرومانية منذ 610 م . و في عهده غُلبت الروم من الفرس و استولوا على أراض واسعة من الامبراطورية الرومانية. و قد ذكر القرآن هذا الحدث في سورة الروم: الم . غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الروم 1-5 و قد استهزء كفار قريش من هذه النبوءة التي يتنبأ فيها القرآن القرآن بنصر الروم بعد أن خسروا خسارة كبيرة في أرض الشام و قد كان المسلمون يرجون فوز الروم لأنهم نصارى و أهل كتاب. و فعلاً غلب الروم بعد غلبهم و استطاع (فلافيوس أغسطس هرقل) من إعادة القدس من أيدي الفرس, و أصبح هرقل بطلاً قومياً و دينياً كبيراً بعد أن استطاع النصر على الفرس. و قد أتى إلى القدس (أورسالم) لكي يشكر الرب لأنه استطاع أن ينتصر, فوجده الصحابي (دحية بن خليفة الكلبي) في القدس فسلمه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد... فإنى أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم جميع الآريسيِّين.قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ،ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا آربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمونآل عمران:64. وقف هرقل يتأمل هذه الرسالة العجيبة التي تأتي إلى قيصر أكبر امبراطورية على الأرض من رجل لا يعرف عنه شيئاً في صحراء العرب, فأراد أن يتأكد منه و قد كان هرقل رجلاً متديناً يحج ماشياً إلى القدس, و قد كان يعرف من الكتاب المقدس أن نبياً سوف يخرج في هذا الزمان, فبعث بقادته ليجلبوا له بعض العرب ليسألهم عن هذا الرجل الذي يقول أنه رسول الله, و قد تصادف في هذا الوقت وجود (أبي سفيان بن حرب) ونفر من قريش في مدينة (غزة) للتجارة بعد أن وضعت الحرب أوزارها مع المسلمين و فرغوا لتجارتهم في الشام, فجيئ بهم إلى بلاط القيصر ليستفسر منهم. فأحضر الترجمان ليترجم ما يقولون و سأل التجار العرب: _ أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: _أنا أقربهم نسبا إليه. فقال هرقل: _ أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره. أي جعل أبا سفيان واقفا ووراءه مجموعة من أصحابه، ثم قال لترجمانه: _قل لهم إني سائل- يعني أبا سفيان- فإن كذبني فكذبوه. و اتضح بصورة لا شك فيها أن هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فسأل أقرب الناس إليه نسبا، ليكون على معرفة تامة به، وفي نفس الوقت جعل وراء أبي سفيان مجموعة التجار الآخرين كحكام على صدقه، وعند ذلك سيخاف أبو سفيان أن يكذب، ومن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا، ولكن أ عامل الكذب هذا لم يكن واردا في خاطر أبي سفيان على الإطلاق، فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه، وتعتبرها نوعًا من الضعف غير المقبول فهو في هذه اللحظة , مع أنه يكره الرسول صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة، ومتأكد من أن أصحابه لن يكذبوه أمام القيصر مهما قال, إلا أنه لا يستطيع أن يكذب على محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يحب أن يشوه صورته بالكذب لدرجة أنه في رواية كان يقول: _ ولكني كنت امرأ أتكرم على الكذب، لا أكذب. وبدأ استجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان وفي حضور علية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان من أجل أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب، هل هي نبوة حقيقية أم كذب... و دار حوار عجيب عجيب بين (هرقل امبراطور الروم) و (أبي سفيان سيد مكة) حول ( محمد رسول الله) , وقد بدأ هرقل بالسؤال: كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب. قال هرقل: فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قط قبله؟ (أي هل ادعى أحد من العرب النبوة من قبله؟) قال أبو سفيان: لا لم يدع أحد في تاريخ العرب النبوة. فقال هرقل: هل كان من آبائه من ملك؟ فقال أبو سفيان: لا. قال هرقل: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: أيزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون. قال هرقل: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال أبو سفيان: لا، لا يرتد منهم أحد. قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: لا. (وقد كان محمد يدعى بالصادق الأمين قبل الإسلام) قال هرقل: فهل يغدر؟ قال أبو سفيان: لا. ثم قال: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.(أي أننا لا ندري هل يغدر بصلح الحديبية أم لا) هذا كلام أبي سفيان فهو أراد أن يقول أي شيء سلبي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فكل الإجابات بترفع من الرسول صلى الله عليه وسلم، و يروي أبو سفيان فيما بعد للناس كما ورد في صحيح البخاري: _ ولم تمكنى كلمة أدخل فيها شكا غير هذه الكلمة. أي حاولت على قدر ما أستطيع أن أطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم بأي شيء فلم أستطع إلا بهذه الكلمة، وهرقل لم يعلق على هذه الكلمة، وكأنه لم يسمعها... ثم قال هرقل: فهل قاتلتموه؟ قال أبو سفيان: نعم. فقال هرقل فكيف كان قتالكم إياه؟ قال أبو سفيان: الحرب بيننا وبينه سجال. أي ينال منا وننال منه، هو يقصد بدر وبعدها أحد... قال هرقل: بماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. عند ذلك انتهى الاستجواب الطويل من هرقل، وبدأ هرقل يحلل كل كلمة سمعها وكل معلومة حصل عليها حتى يخرج باستنتاج، وأعلن ذلك الاستنتاج ترجمان هرقل، قال هرقل: _ سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.
ثم قال: _ سألتك إن قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فذكرت أن لا، قلت: لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. _ وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، قلت: رجل يطلب ملك أبيه. _ وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. _وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه. وهم أتباع الرسل. _وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون. وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. _ وسألتك أيضا أيرتد أحد منهم سخطا لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. _ وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. _ وسألتك بماذا يأمر؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. و بعد هذا التحليل العميق من هرقل قال لأبي سفيان بمنتهى الصراحة : _ فإن كان ما تقوله حق فسيملك موضع قدمي هاتين- أي الشام- وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم – (فهو يستكثر أن يكون النبي من العرب!) - فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقائه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه. أيقن هرقل من أول وهلة أن هذا الرجل رسول حقا، وأن ملكه سيتسع حتى يأخذ بلاد الشام (وقد حصل ذلك فعلاً بعد سنوات قليلة!)، وأنه يجب الاتباع له والانصياع الكامل لأمره، بل الرضوخ لقوله تماما، والتواضع الشديد لدرجة أن هرقل يتمنى أن لو غسل قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. و عند ذلك أراد القيصر أن يرى ما يقوله رجال الدين (الذين كانت لهم سلطة أعلى من سلطة الامبراطور نفسه) , فاستدعى هرقل الأسقف الأكبر للامبراطورية الرومانية و اسمه (صغاطر) و عرض له كتاب الرسول, فلما قرأ الأسقف الكتاب قال: _ هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر. قال قيصر: فما تأمرني؟ فقال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه. فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم (أي سيثور علي الأمراء). فخرج الأسقف الأكبر (صغاطر) وخرج للرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله عز وجل وإلى الإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، قال أمام الجميع : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدٌ رسول الله . فقام الناس وقفزوا عليه قفزة واحدة، فضربوه حتى قتلوه، وعرف هرقل بقتل هذا الرجل الكبير، ولم يستطع أن يفعل أي شيء, وعقد هرقل مقارنة سريعة بين كرسي الامبراطورية العظمى آنذاك و بين الإيمان بالله و رسوله, بين الحياة الدنيا المؤقتة و بين الحياة الآخرة الخالدة، فأخذ القرار، واختار الملك والحياة ورفض الإيمان، ولم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه ضن بملكه وضحى بالإيمان. ثم رحل الامبراطور للقسطنطينية عاصمة البيزنطينيين ولما و صل إلى نهاية بلاد الشام نظر من أعلى نقطة فيها و قال: _ السلام عليك يا أرض سورية.... تسليم الوداع. وقد كان ما توقعه هرقل ... فقد كانت هذه آخر مرة يرى فيها سورية (أي بلاد الشام) فقد سقطت من ملكه بأيدي المسلمين بعد هذا الحدث بسنوات قليلة, بل و سقطت عاصمته القسطنطينية (اسطانبول الآن) بأيدي المسلمين العثمانيين بقيادة (محمد الفاتح) رحمه الله ....بينما مات هرقل و لم يؤمن بمحمد, فخسر دنياه و آخرته! ولم يستوعب ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله له (أسلم تسلم!)
رسالة (الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق):- وصل الصحابي (شجاع بن وهب الأسدي) رضي الله عنه إلى دمشق و سلم رسالة رسول الله التي يدعو فيها أميرها للإسلام, وكان هذا الرجل نصرانيا تابعا لهرقل قيصر الروم، وكان رده تقريبا مثل رد كسرى زعيم فارس فقد ألقى الخطاب، وقال من ينزع ملكي منى أنا سائر إليه لأقاتله، وبالفعل بدأ في تجهيز الجيوش؛ لكي يغزو المدينة المنورة، ولكن قبل أن يفعل ذلك أحب أن يستأذن هرقل، فبعث إليه برسالة، وتزامن وصول رسالة الحارث مع وصول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وطلب هرقل من الحارث الانتظار، وقال له: لا ندري ماذا سيحدث بعد ذلك من الأحداث، وأمره ألا يرسل الجيوش وانصاع الحارث إلى أمر سيده هرقل.
ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم رد فعل الحارث قال: _ بَادَ مُلْكُهُ. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فما لبث أن مات، وباد ملكه تماما، بل دخل ملكه بعد ذلك في ملك المسلمين.
*****************************************
إلى مكة
(إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ)
ازدادت قوة المسلمين يوماً بعد يوم, و ازداد عدد المسلمين بشكل هائل, فقد كان صلح الحديبية بحقٍ فتحاً مبيناً للمسلمين, فلأول مرة أصبح المسلمون آمنين من بطش قريش, و صاروا يتنقلون بين الناس آمنين يدعون الناس إلى دين الله, و لأول مرة سمع الناس حقيقة الإسلام من دون تزييف, فقد كانوا يظنون أن الإسلام دين يحض على القتل, وأن رسوله ما هو إلا رجل متعطش للدماء, فلما سمعوا حقيقة الإسلام من المسلمين أنفسهم و لما قرأوا القرآن بأنفسهم و سمعوا أحاديث الرسول من دون تحريف من (الإعلام المزيف), أدركوا أن هذا الدين هو ما فيه منفعة للبشر في الدنيا و الآخرة, فلم يُدعَ رجلٌ يملك شيئاً من العقل و الحكمة إلى الإسلام إلا و أعلن أنه لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله, فتسابق الناس لاعتناق الإسلام, فقد كان عدد المسلمين في المدينة منذ بعثة الرسول حتى صلح الحديبية أي خلال تسع عشرة عام ثلاثة آلاف مسلم, أما منذ صلح الحديبية - في العام السادس للهجرة إلى العام الثامن للهجرة- أي في عامين فقط فقد أصبح عدد المسلمين في المدينة عشرة آلاف مسلم غير النساء و الأطفال, لقد تضاعف عدد المسلمين في عامين لأكثر من الضعفين من عددهم في تسع عشرة عاماً! و في هذا العام نقضت قريش صلح الحديبية و تم قتل قبيلة من حلفاء المسلمين, فأصبحت الإتفاقية لاغية منذ هذه اللحظة و سير الرسول جيشاً من عشرة آلاف مسلم باتجاه مكة. و نظر سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى هذا الجيش المكون من عشرة آلاف مسلم ما بين أبيض و أسود , عربي و غير عربي , غني و فقير , كلهم إخوة متساوون بالحقوق و الواجبات بهذا الدين الذي ألَّف بين قلوبهم بعد أن كانوا قبائل يقتل بعضهم بعضاً, و عند و صولهم لأبواب مكة رأى سلمان جبلا فسأل عن اسمه فقيل له إنه يدعى جبل (فاران) عند هذه اللحظة فقط تذكر سلمان ما ورد في سفر التثنية الاصحاح 33: (جاء الرب من سيناء واشرق لهم من سعير وتلألأ من جبال فاران وأتى من ربوات القدسومعه 10 الاف قديسو من يمينه خرجت شريعة مضيئة كالنار) و لمّا تذكر سلمان هذا من الكتاب المقدس , و كيف أنه و احد من أولئك العشرة آلاف الذين كان يقرأ عنهم طيلة حياته , ابتسم ابتسامة هانت فيها كل سنوات عذابه من أجل الوصول لهذا الشرف.
(ملاحظة خطيرة للغاية! اختفت عبارة ومعه 10 الاف قديس من الأناجيل المعاصرة لأسباب مجهولة – أو لعلها أسباب واضحة!! ولكن من كان سبباً في اختفائها نسي أنها لا زالت موجودة في النسخة الانجليزية من الكتاب المقدس(الانجيل) باللغة الانجليزية بشكل واضح with ten thousands of saints في نفس الاصحاح :
The LORD came from Sinai, and rose up from Seir unto them; he shined forth from mount Paran, and he came with ten thousands of saints:from his right hand went a fiery law for them
و قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة قدم إليه زعيم مكة (أبو سفيان) و أعلن أنه لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله, و في لحظة واحدة تحول من زعيم أكبر قوة تحارب الإسلام و المسلمين إلى صحابي جليل يُتَرضّى عنه إلى يوم القيامة, فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يجبُّ ما قبله (أي يمحي ما قبله من الذنوب). و دخل الرسول صلى الله عليه وسلم و من معه من العشرة آلاف صحابي جليل إلى مكة التي لطالما حاصره و عذبه و حاربه أهلها فكان الحكم الذي حكمه عليهم الرسول هو العفو التام , فلماّ رأى الناس ما بالرسول من مكارم الأخلاق و سُمُوِّ المقصد, فدخلوا جميعهم في دين الله أفواجاً, وحسن إسلامهم ....و أسلمت مكة عاصمة العرب. إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا النصر3-1
**************************************
الوداع
(بل الرفيق الأعلى)
توافد الناس من كل مكان ليعلنوا إسلامهم, و أسلمت ثقيف و هوازن, و أصبحت قبائل العرب المتناحرة منذ قديم متحدة لأول مرة في تاريخها تحت لواء: لا إلاّ الله , محمدٌ رسول الله. و في السنة العاشرة من هجرة الرسول خرج الرسول ليحج لأول مرة في حياته, وخرج معه ما يزيد على مائة ألف مسلم, وفي يوم عرفة ومن على جبل الرحمة و وقد نزل فيه الوحي عل الرسول مبشراً أنه "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" خطب الرسول في الناس ما سُمِّي (بخطبة الوداع), و قد بدأ فيها بقوله: _ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير. أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا. ثم قال: _ أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا – ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها.
وإن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا وإن أول ربا أبدأ به عمي (العباس بن عبد المطلب). ثم أخذ الرسول يوضح للمسلمين أمور دينهم و هو يعيد عليهم : ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. وأوصى بالنساء خيراً و أوضح ما لهن وما عليهن و قال مما قال: _ واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً – ألا هل بلغت....اللهم فاشهد. وبين منبع الدين الذي يجب على المسلمين الأخذ به إلى يوم القيامة: فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه، ألا هل بلغت ... اللهم فاشهد. (لذلك فليسأل كل واحد منّا نفسه في كل عمل يعمله إذا ما كان قد ورد في القرآن أو عمله الرسول أو أجازه في سنته, فإذا كان القرآن لم يجزه و الرسول لم يفعله أو يجزه فالأجدر بنا نحن أن نقتدي به....فهل كان الرسول يحتفل بالموالد أو يتوسل بالأضرحة و المقابر؟!!) و أوضح الرسول ما يدعو إليه الإسلام من السواسية بين الناس و قال: _ أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى, ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى إن أكرمكم عند اللهأتقاكم – ألا هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم... قال: اللهم فاشهد ثم قال: فليبلغ الشاهد الغائب.
وفي ليلة من الليالي, وفي جوف الليل وبينما الناس إما نيام أو في أمورهم وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم و نادى على مولاه (أبي مويهبة): _ يا أبا مويهبة إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع (مكان دفن موتى المدينة) فانطلق معى. فانطلق أبو مويهبة معه، فلما وصل الرسول إلى المقبرة وقف بين أظهرهم وقال: _ السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الاولى. ثم أقبل على أبي مويهبة فقال: _ يا أبا مويهبة إنى قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة. قال أبو مويهبة: بأبى أنت وأمى ! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة. (أي الخلود في الدنيا و الجنة في الآخرة!) فقال الرسول صلى الله عليه و سلم: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربى والجنة. ثم استغفر لاهل البقيع، ثم انصرف. و بعد هذه الليلة مرض الرسول و أصابه صداع شديد. وفي يوم من الأيام و بينما الرسول مريض يربط عصابة على رأسه من شدة الصداع , جمع صحابته الكرام وأخذ ينصحهم و يوجههم و قد نهى الناس في هذا الموقف أن تتخذ قبور الأنبياء و الأولياء و الصالحين مساجد! ثم خطب في الناس و في منتصف الخطبة قال: _ إن عبداً خير الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ماعنده....فسمع الصحابة رجلاً شيخاً ينكب ويجهش في البكاء من بينهم و يقول و الدموع تنهمر من عينيه انهماراً:
_ فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فنظر الناس فإذ به (أبو بكر الصديق), فعجب الصحابة من سبب بكائه و قالوا لأنفسهم انظرواإلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيهمن زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا!! (أي ما علاقة هذا حديث أبي بكر بالقصة التي يرويها الرسول) فنظر الرسول إلى صاحبه نظرة حنونة, نظر إلى صديقه الوفي الذي لطالما ناصره و صدقه و ضحى بكل شيئ من أجله, فأخذ يخفف من روعه و يقول: _ على رسلك يا أبابكر.....ثم نظر إلى صحابته و قال صلى اللهعليه وسلم: _ إن من أمنِّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، وإني لو كنت متخذاً خليلاً منأمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد, إلاّ باب أبي بكر.
وبعدها اشتد المرض بالرسول صلى الله عليه و سلم وعندما لم يستطع الصلاة بالمسلمين أصر أن ينوب أبو بكر عنه إمامة المسلمين في الصلاة و أصر على أن يكون الإمام أبا بكر لا غيره و قال: _ يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى اللهوالمسلمون إلا أبا بكر ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر.
وفي فجر يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول في السنة الحادية عشرة للهجرة و بينما أبو بكر يصلي في المسلمين صلاة الفجر, و إذ برسول الله صلى الله عليه و سلم يفتح الستارة عن حجرته فوجد الصحابة يصلون خلف أبي بكر, فنظر الصحابة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم إليهم ضاحكاً, يبتسم في وجه الصحابة الكرام يبتسم لمن صدَّقوه و ناصروه و هاجروا من أجله و جاهدوا في سبيل الله, يبتسم لهؤلاء الذين لم ولن تأتي الأرض بجيل مثلهم, هؤلاء الذين قال عنهم اللهمن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، ليجزي الله الصادقين بصدقهم( الأحزاب : 23-24).
يبتسم لمصابيح الهدى والنور لكل الناس في كل زمان وكل مكان , يبتسم للمهاجرين الذين تركوا كل ما يملكون من أجا دين الله, يبتسم للأنصار الذين ناصروه و آووه حتى بشرهم الله بالجنة وهم أحياء يرزقون وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(التوبة100). يبتسم لرجال كانوا أعظم جيل عرفته البشرية فمنهم (أبو بكر الصديق) الرجل الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر) وفيهم الفاروق (عمر بن الخطاب) الذي كان كافراً فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يعز الإسلام بأحد العمرين, فأعز الله الإسلام بإسلام عمر, يبتسم و منهم ذو النورين (عثمان بن عفان) الذي تزوج بابنة الرسول (رقية) فلما ماتت تزوج بابنته الثانية (أم كلثوم) فكان الوحيد بين البشر الذي كان له شرف مصاهرة الرسول مرتين, هذا الرجل السامي الأخلاق الذي قال عنه الرسول (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة) , يبتسم لابن عمه الصحابي (علي بن أبي طالب) الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه و سلم (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي), الصحابة الذين كان منهم الصحابي (طلحة بن عبيدالله) الذي شلت يده التي كان يذوذ بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد, هذا الرجل الذي قال عنه الرسول "من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله", هؤلاء الرجال الذين خرجوا من بينهم رجل مثل (الزبير بن العوام) الذي فداه الرسول بأمه وأبيه و قال له (فداك أبي وأمي), يبتسم لرجال كان من بينهم رجل قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم (إن لكل أمة أميناً, وإن أمين هذه الأمة أبوعبيدة بن الجراح), يبتسم للصحابة وفيهم الصحابي (بلال بن رباح) هذا الحبشي الأسود الذي كان عبداً فأتى محمد ودينه فعلم البشر أن الناس سواسية كأسنان المشط فجعله أول إنسان يؤذن للصلاة على وجه الأرض! يبتسم لمن كان منهم الصحابي الجليل (عمرو بن العاص) الذي قال عنه إنه من صالحي قريش وقال في حقه لما أسلم: (أسلم الناسوآمن عمرو بن العاص) لصدق إيمانه بالله ورسوله,هؤلاء الرجال ومنهم سلمان الفارسي رضي الله عنه بطل معركة الأحزاب والذي دار في أنحاء الأرض ليجده ويكون واحداً من صحابته العظام, يبتسم للأنصار الذين كانوا نوعاً خاصاً من البشر لم يشهد التاريخ مثلهم أبداً يعرف العطاء بما تحمله هذه الكلمة من معنى و لا يعرف الأخذ أبداً أبداً, هؤلاء الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق, فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله), يبتسم لهؤلاء الصحابة, الصحابة الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد (جبل أحد) ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصفيه). فرح المسلمون فرحاً شديداً لرؤية الرجل الذي أحبوه أكثر من أمهاتهم و آبائهم , بل أكثر من أنفسهم فكادوا يفتنون وهم يصلون, وأراد أبو بكر أن يرجع ليترك الرسول يأخذ مكانه في الإمامة, إلا أن الرسول أشار عليهم بأن يكملوا صلاتهم وألقى على صحابته نظرة وداعية حانية و أرخى الستار ورجع إلى فراشه. وفي الضحى طلب الرسول أن يرى ابنته (فاطمة بنت محمد) عليها وعلى أبيها السلام, فلمّا أتت وجدته في فراشه لا يستطيع أن يتحرك, وقد كان صلى الله عليه وسلم كلما أتته ابنته أن يقف و يقبل ما بين عينيها ثم يجلسها مكانه, أما الآن فإن أبيها لا يستطيع الحركة فصاحت: _ وكرب أبتاه...وكرب أبتاه...وكرب أبتاه! _ فأخذ الرسول يلاطفها و يهون عليها, فانكبت عليه تقبله و الدموع تبلل خديها الطاهرين. وبينما رأس الرسول على صدر زوجته الطاهرة أم المؤمنين (السيدة عائشة بنت أبي بكر) عليها و على أبيها السلام , أخذ الرسول يوصي وصيته الأخيرة: _ الصلاة الصلاة , وما ملكت أيمانكم.... الصلاة الصلاة , وما ملكت أيمانكم.... الصلاة الصلاة , وما ملكت أيمانكم.......وصار الرسول يكررها حتى خفت صوته. ونظرت السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها إلى زوجها وتذكرت أنه ذكر أن الأنبياء قبل موتهم يخيرون ما بين الجنة وبين الدنيا ليختاروا بينهما فانتبهت إلى رسول الله وقد رفع أصبعَه أو يدَه، وشخّص بصرُه إلى الأعلى، وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى). ولفظ الرسول صلى الله عليه وسلم أنفاسه الأخيرة لتطوى بذلك أروع صفحة من صفحات البشرية بل من صفحات الدنيا. صفحة لم يعرف التاريخ أبداً مثيلاً لها لرجلٍ,بل لإنسانٍ ما عرفت الأرض أحداً بعظمة أخلاقه و سمو رسالته وقوة تحمله. صفحة انقطع فيها الوحي الذي أنزل على ابراهيم و سليمان وموسى وعيسى انقطاعا تاماً إلى الأرض حتى تبيد هذه الدنيا. وأُغلقت صفحة حياة الإنسان (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي) وبدأت القصة التي ليس لها نهاية..... قصة من آمن به إلى يوم الدين.......
***********************
(الصدمة العظمى)
المدينة المنورة تظلم!
صُدمت المدينة...... أومات الرسول الذي بشرت به رسل الأرض من قبل؟! هل مات الرسول الذي بُعث لينتشل البشرية من الظلم والجور والطبقية إلى النور و العدل و السواسية؟! هل مات رسول الله ....رسول الله... الإنسان الذي اختاره الله ليكون رسولاً له ينقل رسالة رب العالمين إلى العالمين؟! هل مات الرسول الذي كان لا يأكل حتى يأكل أصحابه ولا يشرب حتى يشربوا, ويجوع معهم إذا جاعوا ويحفر معهم الخندق حتى يُغطى بالتراب؟! هل مات رسول العالمين الذي كان إرساله ليس رحمة للبشر فقط بل رحمة للعالمين أجمعين كما وصفه الله (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)الأنبياء107 ؟! هل مات الإنسان الذي كان رحم الحمامة التي رآها وقال لأصحابه (من فجع هذه بولدها ردوا ولدها إليها)؟! لا شك أن كل هذه الأسئلة وغيرها كانت تدور في أذهان الصحابة عندما تلقوا خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم...فأصبح الناس مشلولين من هول الصدمة. ورفض (عمر بن الخطاب) تصديق هذا الخبر وقال للناس والثورة تملؤ صوته أن رسول الله لم يمت وأنه سيغيب لفترة ثم يرجع. ولم يكتفِ عمر بهذا بل انطلق بين الناس والثورة قد نالت منه منالها و أخذ يهدد كل من يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مات! ووصل خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر وهو خارج المدينة, وقد خرج أبو بكر خارج المدينة بعد أن اطمأن من صحة صديق عمره عندما رآه يبتسم له في صباح اليوم, فلما وصلته أخبار الوفاة وما في المدينة من صدمة وبلبلة, أسرع إلى المدينة فوجد عمر بن الخطاب هائجاً بين الناس كالمارد الثائر, فأسرع لحجرة ابنته الطاهرة (عائشة) عليها السلام ودخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى حبيبه المصطفى مسجّى، وقد غُطي وجهه الأنور، فجلس على ركبتيه بين يدي أستاذه وحبيبه وصديق عمره رسول الله، وبكى وقبّله بين عينيه وقال والدموع تبلل لحيته: _ طبت حيّاً وميّتاً يارسول الله، طبت حيّاً وميّتاً يارسول الله، أما الموتة التي قد كتبها الله عليك فقد مُتّها ولا ألم عليك بعد اليوم. ثم أخذ ينظر إلى صاحبه الذي رافقه طيلة عمره ويقبل جبينه ويقول و الدموع تنزل بحرقة من عينيه: _ وانبيّاه.... واصفيّاه.... واخليلاه.... وانبيّاه.... واصفيّاه.... واخليلاه .... وبينما أبو بكر غارق في أحزانه على صديقه الذي كان يقول للناس أن أحب الرجال إلى قلبه هو أبو بكر, تذكر شيئاً أهم من الأحزان شيئاً أهم من الدموع, أهم من الشجون على أحب خلق الله على قلبه, تذكر أبو بكر.....الإسلام! فأودع أبو بكر قبلة رقيقة على جبين رفيق عمره، وكفكف دموعه و ربط من جأشه وخرج إلى الجموع المتأججة التائهة...المصدومة, فوجد عمر بن الخطاب والثورة قد زادت في نفسه يثور بين الناس ويهدد كل من يذكر شيئاً عن وفاة الرجل الذي كان يحبه أكثر من نفسه, فقال له أبو بكر: _ على رسلك يا عمر ! اسكت يا عمر!! فلم ينتبه عمر إلى أبي بكر وكلامه, فعينيه أصبحتا لا ترى, وأذنيه لا يستمعان من هول الصدمة, فلما رأى الناس أبا بكر اجتمعوا حوله ليستمعوا إلى ما يقوله (وقد كان الرسول يصطحب أبا بكر وعمر ويشاورهما في كل شيئ فلما سمع الناس خبر الوفاة أرادوا أن يستمعوا إلى ما يقوله أبوبكر فلم يجدوه والتفوا حول عمر الرجل الثاني للرسول فعندما أتى أبو بكر التفو حوله ليستمعوا لقوله), و تمالك أبوبكر أحزانه وداس على قلبه المفعم بالحزن والأسى ووضع مصير الإسلام و مصير البشر إلى يوم القيامة نصب عينيه , وخطب في الناس خطبة كانت من أبلغ وأقصر خطبة في تاريخ البشرية يقولها إنسان عادي غير مرسل قائلاً: _ من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ومَا مُحَمّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أوْ قُـتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ و استمع الناس لهذه الآية من شفتي أبي بكر وكأنهم سمعوها لأول مرة في حياتهم, على الرغم من أنهم يحفظنوها عن ظهر قلب. وما كاد أبو بكر يفرغ من سماع هذه الكلمات القصيرة حتى التفت الناس خلفهم فرأوا مارداً تخور قواه ويسقط على الأرض مغشياً عليه من هول ماسمع... سقط عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على الأرض كأنه صعق بالصاعقة بعد أن أيقن أن الرسول قد مات فعلاً وهو يمر بما يسميه علماء النفس حالياً (مراحل الحزن الخمسة).. الإنكار,الثورة,المجادلة,الحزن ثم تقبل الحقيقة. وانكب أهل المدينة بكاءاً على حبيبهم, وأظلمت مدينة رسول الله التي أنارها بنوره, وبدأت مرحلة جديدة من مراحل البشرية ولكن هذه المرة بدون أنبياء أو رسل بدون وحي يوجه ويرشد....فكان لزاماً أن تُحمل رسالة الأنبياء هذه إلى الأبد بأيدي بشرٍ غير منزلين, وأن يتحمل هؤلاء حمل عبئ هذه الرسالة إلى الناس أجمعين إلى يوم القيامة, فكان أول رجل حمل هذه الراية رجل يسمى (عبدالله بن أبي قحافة) ويناديه الناس بأبي بكر الصديق.....
****************************
الثاني اثنين
(فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟)
هذا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حق صاحبه أبي بكر الذي واساه بنفسه وماله وقد قال عنه أيضاً: _ لو كنت متخذاً من هذه الأمة خليلاً لاتخذته. ولكن الرسول قد مات الآن, وهناك أمة عليها واجب مقدس ... دعوة الناس في جميع أنحاء الأرض إلى الإسلام ليتركوا عبادة العباد لعبادة رب العباد. وحال الدولة الإسلامية الناشئة في قمة الخطورة, وقد تنتهي هذه الدولة قبل أن يتحقق الهدف منها وهو إبلاغ الناس برسالة الإسلام, فالملوك والاباطرة أدركوا منذ أول لحظة أن هذا الدين لا يناسبهم, فهذا الدين سيساوي بين الناس أجمعين وسينهي نظام الطبقية الظالم السائد في هذه الدول وسينهي ظلم الملوك على شعوبها وتسلط الأغنياء على الفقراء, فقرر الملوك في أنحاء العالم إنهاء هذا الدين وإلى الأبد, واتفقت لأول مرة الدولتان الكبريان اللتان يحكمان العالم على هدف واحد....إبادة الإسلام نهائياً. واختار المسلمون أبا بكر الصديق لكي يتحمل عبئ الدفاع عن رسالة الإسلام, رسالة التوحيد, رسالة الحق والعدل, وأحس أبو بكر أن مصير العالم متعلق بين يديه لنشر الرسالة إلى الناس المستضعفين في كل أرجاء الدنيا, وقررت الامبراطوريتان العظمتان الفارسية و الرومانية إرسال الجيوش لاطفاء نور الرسالة السمحاء. ولأول مرة في تاريخ وخلافاً لكل أعراف العسكرية القديمة والحديثة يقرر أبو بكر أن يحارب في آن واحد الجيوش الجرارة للامبراطوريتين الفارسية والرومانية, والمدربة على مختلف فنون القتال المختلفة, وذلك بجيش يتكون من بضع آلاف من أناس لم يكن لهم أي خبرة في الحروب النظامية ولكنهم رجال تعلموا من معلم الخلق أجمعين وهم الذين قال عنهم الله في كتاب يقرأ إلى يوم الدين: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغونفضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهمفي الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهمالكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً فكانت النتيجة التي لا يستطيع أي محلل عسكري أن يفسرها.... تساقطت جيوش الامبراطوريتين اللتان تؤمنان بقدسية الملوك والاباطرة بأيدي هؤلاء الرجال في آن واحد. ولما دخل المسلمون إلى تلك الأراضي وجد الناس ديناً لا يعترف بالطبقية, وجدوا ديناً يكفل لهم البقاء في دينهم السابق والعيش بكرامة وأمان بين المسلمين, فدخلوا في دين الله أفواجاً, بل حدث شيئ أغرب من سابقه, تحول هؤلاء الناس إلى قادة في الجيوش المسلمين ليحرروا الأراضي الأراضي الأخرى من ظلم الملوك والاباطرة وليدعوا الناس إلى ترك عبادة البشر لعبادة رب البشر. وقد أوصى خليفة المسلمين وقائدهم أبوبكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قائد الجيش المتجه إلى الشام (يزيد بن أبي سفيان) رضي الله عنه وعن أبيه فقال له قبل أن يتحرك بالجيش:
يا يزيد إني أوصيك بتقوى الله وطاعته، والإيثار له والخوف منه، إذا سرت فلا تضيق على نفسك، ولا على أصحابك في مسيرك، ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك، وشاورهم في الأمر، واستعمل العدل، وباعد عنك الظلم والجور؛ فإنه لا أفلح قوم ظلمو، ولا نُصِروا على عدوهم، وإذا لقيتم القوم.. "فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير"، وإذا أظفرك الله عليهم فلا تَغلُل ولا تمثل ولا تغدر ولا تجبن و لا تقتلوا ولداً ولا شيخاً ولا امرأة ولا طفلاً، ولا تعقروا بهيمة إلا بهيمة المأكول، ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم، وستمرون على قوم في الصوامع رهباناً يزعمون أنهم ترقبوا في الله، فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم)
وقد لاحظ عمر بن الخطاب أن خليفة المسلمين (أبا بكر الصديق) والذي كانت جيوشه ترهب عروش ابفرس والرومان يخرج كل يوم بعد أن يصلي في الناس صلاة الفجر ويذهب إلى مكان مجهول, وقد كان عمر يريد أن يتعلم من هذا الرجل الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو وضع إيمان الأمة في كفة وإيمان أبي بكر في كفة لرجح إيمان أبي بكر) وفي يوم من الأيام وبعد أن صلى عمر خلف خليفة رسول الله صلاة الفجر, خرج أبو بكر إلى مكان مجهول خارج المدينة, فتبعه عمر خفيةً من دون أن يحس به, فإذا ابوبكر يأتي خيمه قديمه في الصحراء .. فاختبأ له عمرخلف صخره...فلبث ابو بكر في الخيمه شيئا يسيراً..... ثم خرج. فخرج عمر من وراء صخرته ودخل الخيمة ... فإذافيها امرأة ضعيفة عمياء... وعندها صبية صغار... فسألها عمر: _ من هذا الرجل الذي يأتيكم؟
فقالت المرأة العمياء: _ لا أعرفه ..يقول إنه رجل من المسلمين .. يأتيناكل صباح منذ فترة من الزمن!
قال عمر: فماذا يفعل ؟ قالت المرأة العمياء: _ يأتي فيكنس بيتنا ..ويعجن عجيننا .. ويحلب لنا الحليب لي ولأطفالي ... ثم يخرج ..
فخرج عمر وهو يبكي بكاءاً شديداً وهو يقول :
_لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر ... لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر.... وبعد سنتين وبضع أشهر فقط من حكم أبي بكر, وفي نفس اليوم الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم _ أي في يوم اثنين_ لحق أول خليفة للإسلام بصاحبه, لتنتهي قصة أعظم رجل على وجه الأرض من بعد الأنبياء وتبدأ قصة رجل آخر من أعظم رجال التاريخ قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيه يا ابن الخطاب .... والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا(طريقاً) قط إلا سلكفجاً غيرفجك) !
***************************
الفاروق
(الحق بعدي مع عمـر حيث كان)
هذا بعض ما قاله الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عن الفاروق (عمربن الخطاب) هذا المارد الذي شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبي الله موسى عليه السلام في قوته وصلابته واصراره على الحق. كان سفير قريش بين القبائل والملوك قبل الإسلام, وقد كان من أشد أعداء الإسلام والمسلمين في جاهليته, فما كان يصله من أخبار مشوهة عن الإسلام والمسلمين جعلت منه حاقداً على هذا الدين ونبيه, بل وصل به الكره بمحمد ودينه إلى أن يتخذ قراراً لم يجرؤ أحد قبله من الناس على اتخاذه....قتل رسول الإسلام ...قتل محمد وفعلاً استل عمر سيفه وذهب ليقتل رسول الإسلام ليريح الأرض من هذا الرجل الذي يريد أن يغير من عادات البشر ويغر دين آبائهم الذي ولدوا عليه....وفي الطريق إلى الرسول سمع أن اخته (فاطمة بنت الخطاب) رضي الله عنها قد أسلمت هي وزوجها...فلما سمع عمر أن أخته اتبعت هذا النبي, جن جنونه وكاد يفقد عقله, فغير مساره يريد أن يتأكد من صحة هذا الخبر!
وعندما وصل عمر إلى بيت أخته، وقبل دخوله سمع همهمة وأصواتًا غريبة، فأخذ يطرق الباب بغضب وينادي بصوته الجهوريّ لكي يفتحوا له الباب. ففتح زوج اخته (سعيد بن زيد) رضي الله عنه الباب له, فوجد عمر وقد تطاير من عينيه الشرر وبلغ الغضب منه مبلغه....فسأل سعيداً زوج اخته : _ ما هذه الهمهمة (الصوت الخفي غير المفهوم) التي سمعت؟ فرد سعيد: _ ما سمعتَ شيئًا. قال عمر: _ بلى، والله لقد أُخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه. ثم ألقى بنفسه على سعيد يبطش به ويضربه ضرباً مبرحاً، فتدخلت الزوجة الوفية فاطمة رضي الله عنها تدافع عن زوجها، فوقفت بينه وبين أخيها تدفع عمر عنه، وفي لحظة غضب عارمة التفت عمر إلى أخته، ولم يدرك نفسه إلا وهو يلطم اخته لطمة قوية على وجهها، فتفجرت على إثرها الدماء من وجهها. وهنا وقف (سعيد بن زيد) رضي الله عنه يتحدى عمر ويقول أما هذا المارد الجبار: _ نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك. ثم قالت اخته فاطمة والدماء تسيل من وجهها وقد وقفت في تحدٍّ صارخ وأمسكت بوجه أخيها عمر، وهي تقول له: _ وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر. ذهل عمر، ما هذا الذي يحدث؟! هل هذه هي أخته؟ ما الذي جرّأها إلى هذه الدرجة؟! فلما نظر عمر إلى وجه اخته الرقيق وقد تفجرت منه الدماء, استحى لما فعل ورق قلبه. ثم جلس عمر لا يعرف ما الذي يدور من حوله, ما هذا الدين الذي يجعل اخته التي تحبه ويحبها تتحداه وتتمسك به رغم بطشه وقوته, ثم قال: _ أروني هذا الكتاب. فقالت له أخته فاطمة بكل قوة وحنان في آن واحد: _ يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر. فقام عمر وفي هدوء عجيب ليغتسل. و بعد اغتساله أعطته فاطمة رضي الله عنها الصحيفة يقرؤها، وبلسانه وعقله وقلبه قرأ عمر: _ بسم الله الرحمن الرحيم. فوقف عمر يتأمل هذه الكلمات القليلة التي قرأها ثم قال: _ أسماء طيبة طاهرة. ثم أخذ يتابع القراءة: طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلاَ (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[طه: 1- 8]. فتزلزل هذا المارد الضخم، وقد اختفى ما في قلبه من حقد وكره وتحول إلى طمأنينة وسعادة نفسية من عظمة هذه الكلمات التي قرأ, فقال: _ ما أحسن هذا الكلام! ما أجمله! ثماني آيات فقط من (سورة طه)، صنعت الأسطورة الإسلامية... بل الأسطورة الإنسانية.....عمر بن الخطاب. وعند هذه اللحظة خرج رجل خرج رجل من مخبئه في هذا البيت وإذا به الصحابي الجليل (الخباب بن الأرت) _ وقد كان هو من أتى بهذه الآيات من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأها لفاطمة وزوجها فلما سمع عمراً يطرق الباب بشدة أدرك أنه هالك, فاختبأ في البيت_ فنظر إليه عمر مستعجباً من ما يدور من حوله, فقال خباب رضي الله عنه: _ والله يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: "اللَّهُمَّ أَيِّدْ الإِسْلاَمَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ"... فاللهَ اللهَ يا عمر. وعند هذه اللحظة, تعلق قلب عمر بما يُسمى (بجاذبية الإسلام) هذه الجاذبية التي تحول أشد أعداء الإسلام إلى أشد محبيه, والتي تحول رجلاً أتي ليقتل محمد رسول الإسلام إلى رجل يسأل الخباب سؤالاً سيغير من مسيرة الإنسانية, فقال: _ فأين رسول الله؟ فقال خباب رضي الله عنه: _ إنه في دار الأرقم. فذهب عمر إلى بيت (الأرقم بن أبي الأرقم) رضي الله عنه حيث يوجد الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم صحابته الكرام سراً تعاليم الإسلام. فجاء عمر إلى رسول الله وقال له _ يا رسول الله، جئت لأُومِنَ بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله. وشهد عمر بن الخطاب أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ففرح الرسول فرحاً شديداً وقال: _ الله أكبر! وقد كان المسلمون يخافون من بطش سادة قريش, فيجتمعون خفية في دار الصحابي الجليل (الأرقم بن أبي الأرقم) رضي الله عنه الذي أسلم وقد كان يبلغ السادسة عشرة من عمره, وفي اللحظة التي أسلم فيها عمر اتجه لرسول الله مباشرة وقال: _ يا رسول الله، ألسنا (استخدم صيغة الجمع) على الحق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى. قال عمر: ففيمَ الاختفاء؟! فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على أول اقتراح لعمر بن الخطاب, وقرر اتخاذ القرار الأهم في مسيرة المسلمين آنذاك .....الإعلان. ففرق الله بعمر بن الخطاب رضي الله عنه منذ أول يوم من أيام إسلامه, بل منذ أول لحظة من إسلامه بين زمنين في تاريخ الإسلام: زمن الدعوة السرية,و زمن الدعوة العلنية, فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاروق! فخرج المسلمون الأربعون في صفَّين، عمر على أحدهما، ولم يكن آمن إلا منذ دقائق، و(حمزة بن عبدالمطلب) رضي الله عنه عم الرسول على الآخر وكان قد آمن منذ ثلاثة أيام فقط. ومن دار الأرقم إلى المسجد الحرام، حيث أكبر تجمع لقريش، سارت الكتيبة الأولى في تاريخ المسلمين تعلن للبشرية جمعاء.... لقد جاء الإسلام! ومن بعيدٍ نظرت قريش إلى المسلمين, فوجدت سيدين من أهم ساداتها عمر و حمزة وهما يتقدمان المسلمين، فَعَلتْ وجوهَهُم كآبة شديدة. ولكن عمر لم يكتفِ بما فعل, فأراد أن يغيظ أشد عدو للإسلام و ألد أعداء الله ورسوله, فنظر في المسجد الحرام فلم يجد (أبا جهل)، حينها قرر أن يذهب إليه في بيته, فوصل المارد عمر لبيت أبي جهل فضرب عليه بابه، فخرج أبو جهل إليه مبتسماً وقال: _ مرحبًا وأهلاً يابن أختي، ما جاء بك؟! فنظر عمر إليه بعينين ثاقبتين وقال: _ جئتُ لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به. فضرب أبو جهل الباب في وجه عمر من هول ما سمع، وقال: _ قبحك الله وقبح ما جئت به. ففرح عمر فرحًا شديدًا لأنه أغاظ أبا جهل أكبر عدو للإسلام. ولكن هذا لم يكن كافياً بعد, فقد أحس عمر بأنه يريد أن يخبر الأرض كلها أنه أسلم, فذهب إلى رجلٍ يدعى (جميل بن معمر الجمحي) الذي كان بمثابة (وكالة أنباء متنقلة!) وكان أنقل قريش للحديث، لا يسمع حديثًا إلا حدث الناس جميعًا به، فقال له عمر: _ يا جميل، لقد أسلمت. وما هي إلا لحظات معدودة حتى نشر جميل خبر إسلام عمر في أرجاء مكة كلها!
وبعد وفاة الصِّديق رضي الله عنه أصبح عمر خليفة المسلمين الثاني وصار ينادى (بأمير المؤمنين), وحرص على أن يخدم المرأة العمياء كما كان يفعل سلفه الصديق, ولكنه واصل أيضاً دعوة أهل الأرض إلى الدين الخاتم, وما هي إلا سنوات قليلة من حكمه حتى أصبحت الدولة الإسلامية دولة عظيمة مترامية الأطراف وانطلق الصحابة العظام والمسلمون يحررون البشر من عبادة الملوك والأباطرة و يدعون الناس إلى دين الله الذي لا يفرق بين الأبيض والأسود, بين الغني والفقير, فتدافعت الشعوب تدافعاً لتعتنق الإسلام وشاركوا في تحرير الشعوب الأخرى, بينما بقي من بقي في دينه وكفل المسلمون لهم كافة الحقوق من ضمان العيش الكريم وحرية العبادة. وتحققت نبوؤة قيصر لما قال إن الرسول سوف يدخل لأرض الشام, بل حرر المسلمون في عهد عمر مصر التي كانت تابعة للرومان يزرع أهلها للامبراطورية غلالها, ووصل المسلمون لشمال أفريقية بل ووصلوا إلى بيت المقدس(أورسالم) فأبى البطريرك (سفرنوس) بطريرك القدس أن يسلم مفاتيح القدس إلا لأمير المؤمنين شخصياً, فسافر عمر على ظهر دابة من المدينة إلى القدس, فيركب تارة, وينزل تارة ليركب مولاه, ويجعل الدابة تستريح فلا يركب هو ولا من معه. ولما وصل عمر إلى بيت المقدس فتح البطريرك أبواب القدس للمسلمين, فكتب عمر عهدة للمسيحيين كانت وبحق أول عهدة في تاريخ البشرية يكتبها قائد فاتح لأهل البلد يضمن لهم كافة حقوقهم المدنية والدينية على الرغم من اختلاف دين الفاتحين, ويطبقها الناس من بعده مئات (ظل المسلمون يعملون بهذه العهدة أكثر من ألف وثلاثمائة عام حتى سقطت القدس من الخلافة العثمانية المسلمة عام 1917 م من قبل جيوش القائد الانجليزي اللمبي).
وهذا نص العهدة العمرية :
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحيمِ
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء(القدس) من الأمان:
أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم،
ولكنائسهم وصلبانهم،
وسقيمها وبريئها وسائر ملتها،
أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم،
ولا ينتقص منها ولا من حيزها،
ولا من صليبهم،
ولا من شيء من أموالهم،
ولا يُكرَهون على دينهم،
ولا يُضَارّ أحدٌ منهم،
و لا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود -( كان هذا طلب واشتراط أهل القدس المسيحيين أنفسهم, لأن اليهود قتلوا أسرى المسيحيين عند الفرس عندما سقطت القدس بأيدي الفرس قبل عدة سنوات) وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرِجُوا منها الروم،
ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم (الجيش الروماني المحارب) ويخلي بيعهم وصُلُبَهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم،
ومن أقام منهم (من الجيش الروماني) فعليه مثل ما على أهل إيلياء،
ومن شاء أن يسير مع الروم (ليرحل أو يشارك في جيش الروم لمحاربة المسلمين مرة ثانية!)، سار مع الروم وهو آمن،
ومن شاء أن يرجع إلى أهله، رجع إلى أهله، وهو آمن،
وعلى ما في هذا الكتاب:
عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين
إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية(وهي دينار واحد في السنة مقابل حماية المسلمين لهم في الحروب ويستثنى من دفعها الفقراء ورجال الدين المسيحيين والشيوخ والنساء والأطفال والمرضى!) شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكُتِبَ وحُضِرَ سنة خمس عشرة ) (ملاحظة: مازالت النسخة الأصلية لهذه العهدة موجودة وهي مكتوبة بخط الصحابي الجليل (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنه وعن أبيه الصحابي الجليل (أبوسفيان بن حرب) رضي الله عنه وقد أسلم وحسن إسلامه, وهي محفوظة إلى اليوم في كنيسة القيامة في القدس, لتكون شاهداً على سماحة الإسلام وعدله بين أهل الأديان).
***********************************
القادسية
وسقط إيوان كسرى الفرس إلى الأبد!
قبل ذلك بعام وفي عام 14 هـ جمع كسرى فارس (يزدجرد) الجيوش الجرارة, ومرة أخرى لنفس السبب الذي فعلوه هم وغيرهم من الجيوش_ تدمير الإسلام_ فبلغ ذلك القائد المسلم (المثنى بن حارثة الشيباني) الذي كان من الشعوب المحررة فصار يحارب مع المسلمين قائداً فكتب إلى عمر بن الخطاب, فأعلن عمر النفير العام للمسلمين لكي ينقذوا المسلمين في العراق, واجتمع الناس بالمدينة المنورة فخرج عمر معهم إلى مكان يبعد عن المدينة ثلاثة أميال على طريق العراق والناس لايدرون مايريد أن يصنع عمر، واستشار عمر الصحابة في قيادته للجيش بنفسه فقرروا أن يبعث على رأس الجيش رجلاً من أصحاب الرسول ويقيم هو في عاصمة المسلمين (المدينة المنورة), فاختار عمر رجلاً لقيادة الجيش, اختار صحابياً كان أول رجلٍ رمى سهماً في سبيل الله وقد فداه الرسول بأبيه وأمه وقال له: ارمِ فداك أبي وأمي, اختار الصحابي الجليل خال رسول الله (سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه, وأراد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يختار واعظاً لهذا الجيش الذي كان أكبر جيش جمعه المسلمين آنذاك, فبحث عن رجل يملك من العلم والدين والتقوى منزلة عظيمة, فلم يتردد على اختيار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم و الباحث عن السعادة, الباحث عن الحقيقة صاحب فكرة الخندق الخالدة (سلمان الفارسي) رضي الله عنه وأرضاه لكي يكون واعظ أكبر جيش للمسلمين. ثم بعث أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وأرضاه وصية خالدة لقائد جيوش المسلمين (سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه وأرضاه, وصية تكتب بماءٍ من الذهب , وتعتبر منهاجاً للمسلمين إلى يوم القيامة. وقد كان مما جاء في هذه العمرية الخالدة : [ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد.. فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العُدَّة على العدو، وأقوى العدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا ولن نغلبهم بقوتنا, واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله, ولا تقولوا: إن عدونا شرٌّ منا ولن يُسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سُلِّط عليهم شَرٌّ منهم...........ثم قال: _واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على أعدائكم وترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشمهم سيرًا يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزلٍ يرفق بهم؛ فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس وأقم بمن معك كل جمعة (كل أسبوع) يومًا وليلةً؛ حتى تكون لكم راحة تجمعون فيها أنفسكم، وتلمون أسلحتكم وأمتعتكم......... ثم ذكر عمر المسلمين أن يحترموا البلدان التي يدخلونها و غير المسلمين من الأديان الأخرى وأن يحسنوا معاملتهم للغير، فيقول عمر: _ ونَحِّ (أي أَبعِدْ جيوش المسلمين) منازلهم عن قرى أهل الصلح وأهل الذمة ( أي: لا تجعل أماكن نزولك وراحة جيشك بجوار قرى أهل الصلح وأهل الذمة من الديانات الأخرى) , فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحدًا من أهلها شيئًا؛ فإن لهم حرمة ابتُلِيتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فَوَفُّوا لهم، ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح.]
وفعلاً كان ما قاله خليفة المسلمين عمر رضي الله عنه وأرضاه, فانتصر جيش المسلمين المكون من 32 ألف مسلم على جيش الامبراطورية الفارسية المكون من1\4 مليون مقاتل في معركة القادسية الخالدة, فانتهت بذلك أكبر امبراطورية عرفتها آسيا تضم في أراضيها إيران وأفغانستان وباكستان والعراق وأرمينية أوزباكستان وأجزاءاً من تركيا, امبراطورية مبنية على نظام طبقي سخيف يجعل من الإنسان عبداً لكسرى ,الملك الذي كان يظن أن به دماءاً مقدسة تجري في عروقه, امبراطورية هبطت بالجنس البشري لأحط مراحل الحيوانية فاستباحت شيئاً لم يفعله البشر من قبلهم أو بعدهم من زنى الأب بابنته والأخ بأخته والابن بابنته, فجاء الإسلام فمحى هذه الامبراطورية الساسانية المجوسية من على وجه الأرض واحتضن من جاء من أهل فارس مسلماً فكان منهم البخاري والإمام مسلم وابن سينا والخوارزمي, وأما المجوس عبدة النار ومن تظاهر بدخول الإسلام ليدمره من الداخل فلم تقم لهم قائمة منذ (القادسية الأولى) إلى يومنا هذا .
*********************************
قصر المدائن الأبيض
(الله أكبر، أعطيت فارس)
دخل المسلمون عاصمة الامبراطورية الساسانية الفارسية, فانتظر المسلمون قرار أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه الذي كان من أنهى حكم المجوس عبدة النار إلى الأبد (وهذا هو السبب الرئيسي لحقد الحاقدين على الفاروق إلى يومنا هذا) فاختار عمر (سلمان الفارسي) رضي الله عنه ليكون أمير المدائن, فتذكر سلمان أول مرة دخل بها للمدائن عندما أتى إليها هارباً من أبيه ليبحث عن سعادته في وليبحث عن الحقيقة, تذكر كيف دخلها بثياب مهترئة فاشترى له الكاهن المسيحي الطيب شيئاً ليلبسه, وهاهو الآن يدخل إليها أميراً ووالياً, تذكر كيف أراد أن يلقي نظرة على قصر كسرى قبل أن يحذره الكاهن من الحراس الذين يقتلون كل من يقترب من قصر الملك الذي كانوا يعبدونه من دون الله, فنظر سلمان هذه المرة عن قرب إلى هذا القصر الامبراطوري العظيم , فلما رآه تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتراب يغطي وجهه وهو ماسك بمعوله ليضرب الصخرة التي اعترضتهم وهم يحفرون الخندق ويقول : _ الله أكبر، أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن. فتذكر سلمان رسول الله وهو يبشر بهذا الذي يراه حقيقة أمامه وهم في أشد حالات الضعف يحفرون خندقاً ليحموا أنفسهم من جيوش الأحزاب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يربط بحجرين على معدته من قسوة الجوع...... تذكر الصحابة.... تذكر (سعد بن معاذ) رضي الله عنه الذي دافع عن الإسلام بماله وروحه في الخندق....تذكر كيف فداه المسلمون بأموالهم ليحرروه من العبودية....كيف قاسمه (أبو الدرداء) رضي الله عنه ماله وبيته...تذكر (كورش) الذي حرره من سجن أبيه وضحى بنفسه من أجله... تذكر الكاهن الطيب الذي أوصله للشام ...تذكر كاهن عمورية وسره الذي أخبره به ليغير من مسيرة حياته إلى الأبد, تذكر كيف يقوم رسول الله صلى الله عليه بنفسه بغرس الثلاثمائة نخلة بيديه الطاهرتين ليحرره.............تذكر سلمان كل هذا, فاغرورقت عيناه بالدموع و هو ينظر إلى القصر...... قصر المدائن الأبيض!
*******************************
الخاتمة
جاء رجل غريب من الشام إلى المدائن, و كان يحمل حملاً ثقيلاً فوق ظهره, فلما دخل المدينة بحث عن حمّال ليحمل عنه هذا الحمل الثقيل, فوجد رجلاً تبدو عليه مظاهر الفقر ويلبس عبائة رثة يجلس تحت ظل شجرة, فناداه أن يا هذا تعال وساعدني في حملي, فوقف الرجل على قدميه وحمل الحمل الثقيل ومشى خلفه. وفي الطريق مر عليهما رجلان فقالا: _ السلام عليكم يا أمير المدائن وقف الرجل الشامي في مكانه لا يقدم خطوة ولا يؤخر وقد تجمد في مكانه من هول ما سمع. فنظر من خلفه فرأى رجلاً طويل الساقين غزير الشعر يحمل حملاً فوق ظهره.... يبتسم ابتسامة تجسدت فيها كل معاني السعادة البشرية ويقول له: _ لا أضعه حتى أبلغ بيتك!