أ/مصطفى: دكتور راغب السرجاني، شرفنا بلقائك في برنامج خدعوك فقالوا ونحن وكل المشاهدين معتزين بظهورك معنا. شكرًا لك وعلى استضافتك لنا في مكتبك المليء بالكتب والتاريخ، مما يجعلني أسألك في البداية سؤال شخصي ولكنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع حلقة اليوم، كونك طبيبًا بشريًا، ما الذي جعلك تتخصص في علم التاريخ؟
د/راغب: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، هي قصة طويلة، فقد كنت منذ طفولتي أقرأ بكثافة حتى أثناء الدراسة كنت أقرأ الكتب الخارجية في كل المجالات، وكان والدي –رحمه الله- يشتري لي الكتب بالكرتونة أو بالكيلو في بعض الأحيان من كثرة نهمي للقراءة، فكنت أنتهي من قرائه الكتاب في يومين أو ثلاثة بجانب دراستي. بجانب هذه الهواية كانت لدي هواية أخرى وهي تعليم الآخرين ما أقرأه، فكنت أتحدث إلى أصدقائي وزملائي في المدرسة والمسجد. وفي عام 1985 كنت في العام الثالث بكلية الطب وبدأت توجهاتي إلى القراءة الإسلامية والشرعية والدعوية. قرأت في مجالات كثيرة وبدأت أنقل هذه المعلومات إلى غيري، عن التفسير والأخلاق والسنة والتاريخ والحديث والعقيدة وغيرها من الأمور الشرعية المختلفة. كل من استمع في هذا التوقيت إلى كلامي قال أن هناك شيء مختلف في أسلوب تدريسي للتاريخ أكثر من تدريسي الأمور الأخرى، اجتمع الكثير على هذا وقالوا لي أن هناك نوع من التميز في الطرح مختلف عن ما يسمعوه. فالتاريخ يعد ثغرة هائلة، فهناك علماء رائعين في التفسير والحديث والعقيدة وجميع الفروع وهناك أيضًا علماء في التاريخ ولكن هناك فجوة ضخمة بين علماء التاريخ والواقع الذي يعيشون فيه. فمعظم علماء التاريخ يدرسون التاريخ كأنه أحداث سبقت وانتهت ولا يدري شيئًا عن الواقع الذي نعيشه، وبالتالي لا يقدر على أن يسقط هذا التاريخ على الواقع أو عنده مشكلة عدم القدرة على التوصيل للجمهور فيتحدث بلغة التاريخ، أو لغة القرن الرابع أو الخامس الهجري وهي لغة جميلة في زمنهم لذلك يجب تحديث هذه الطريقة.
في عام 1986 تقريبًا، حاولت أن أملأ هذه الفجوة وأن أقرأ التاريخ ثم أعيد صياغته بما يتناسب مع الزمن الذي نعيشه كي أوصله للناس، وفي نفس الوقت أقرأ الواقع واسقط التاريخ عليه فتستطيع الناس فهم معلومة مفيدة وتطبيقها. فحولت التاريخ من مجرد أن تنظر مثلًا على هذا المسجد على أنه مسجد به 10 أبواب وبداخله 35 عمود و 100 ثرية وكذا كذا إلى ما هي حركة هذا المسجد في الأمة الإسلامية؟ ومن مؤسسة؟ وما هي شخصيته؟ وماذا كانت نيته التي أعلن عنها وصدقها التاريخ بعد ذلك؟ أكان رجلًا مفسدًا أم رجلًا مصلحًا؟ وماذا كان أثره؟ فهذه نظرة ثانية للأثر الذي أمامك وكتب التاريخ مليئة بالعبر والفوائد. هذا كان بجانب دراستي للطب وأنا مازلت أمارس الطب حتى الآن كأستاذ جراحة مسالك بولية. هناك نوع من الاستفادة التي عادت علي لأن طريقتي في الدراسة الطبية تملي علي دقة المراجع وتفصيل المعلومة وتشخيص المرض ووصف العلاج وتوقع النتائج، وكل هذا هام جدًا في التاريخ، فأسقط كل هذه المعلومات الطبية على التاريخ تخرج ما أتمنى أن يكون مفيدًا للجمهور.
أ/مصطفى: هناك شيء يميز كل علم من العلوم، فما أكثر سمة تُميز التاريخ؟
د/راغب: إذا كنت لأذكر سمة واحدة في التاريخ كله فأنا أخذ هذه السمة من كلام رب العالمين سبحانه وتعالى عندما قال (...فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر:43] فالتاريخ ما هو إلا تكرار للسنن، والسنن الربانية هي السنن التي وضعها الله عز وجل في الأرض والخلق والكون لينقل بها أمة من حال إلى حال أو فرد من حال إلى حال، تنتقل الأمة القوية إلى الضعف بسنن وتنتقل الأمة الضعيفة إلى قوة بسنن، شيء ثابت ثبته الله من رحمته بنا، لأنها إن لم تكن ثابتة لكانت هناك مشكلة خطيرة لأن إنشاء الأمم سيكون بطرق مختلفة في كل زمان فلن يكون هناك أي نوع من الاستفادة بخبرات السابقين. قراءة التاريخ تعرفك أن هناك سنن ثوابت لا خلف لها، فما رأيناه من 100 عام هو نفس ما رأيناه من 1000 عام ونراه الآن وسنراه بعد 1000 عام. هذا التثبيت ممتع ورائع وعندما تقرأه وتفهمه تستطيع أن تفهم الواقع الذي تعيشه وتبدأ في أخذ القرار المناسب في ضوء السنن التي قرأتها سابقًا بل وتقرأ المستقبل. فيمكنك معرفة ما سيحدث غدًا وبعد غد، لا يعلم الغيب إلا الله لكنه وفر لي سنن أقرأ بها المستقبل حتى لا أقوم بعمل نفس أخطاء السابقين وأكرر مشاكل ضخمة واتوهم بكلام يخدعونني به. فمن الممكن أن يخدعونني بأشياء كثيرة جدًا ولكن عندما أقرأ التاريخ أجد أنها ليست كذلك. فالتاريخ يثبت لك واقعية التطبيق للسنن الموجودة في كتاب الله سبحانه وتعالى. ماذا يعني هذا؟ فأحيانًا أرى سنة لا أفهمها بالقياسات المادية البحتة ولا يمكن أن تفهمها إلا أن تعود في قراءة التاريخ، على سبيل المثال (...كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً...) (البقرة:249) هذه سنة لأن الله قال "كم" للتكثير، وتعني أنه يحدث كثيرًا أن يغلب القليل الكثير، عندما أقول لك هذا الكلام بأعراف مادية لن تصدق أو ستقول من الممكن أن تحدث مرة أو مرتين أو صدفة أو قدرًا أو أي تأويل، ولكن عندما تقرأ التاريخ وتجدها تكررت أكثر من مرة في كل مراحل التاريخ عندما يلتقي قلة مؤمنة مع كثرة كافرة أو عاصية أو بعيدة عن المنهج الرباني تنتصر القلة على الكثرة، هكذا أصبحت سنة، لم أفهمها حق الفهم إلا بقراءة التاريخ. هذا هو الدرس الأعظم من دراسة التاريخ، أن التاريخ يعيد نفسه مع اختلاف الأسماء والبلاد ولا يختلف الحدث.
أ/مصطفى: إذا كان التاريخ يعيد نفسه فنحن نمر في مصر وكثير من البلاد العربية بأحداث هذه الأيام. هل هناك شيء يعيد نفسه في هذه الأحداث؟ على الأقل ما حدث في مصر في الفترة السابقة.
د/راغب: في الحقيقة، في الثورة المصرية والثورة التونسية والآن الثورة الليبية، اسأل الله عز وجل أن ينزل نصره على أهل ليبيا، تتكرر سنن بشكل واضح وصريح، من كان موجودًا في ميدان التحرير أو غيره من ميادين مصر أثناء الثورة رأى ذلك رأي العين. كنت أطمئن الناس في الميدان وأقول لهم أن إذا كنا نقرأ عن السنن في الكتب، الآن نرى السنن بأعيننا، فلابد أن يزرع هذا في قلبك نوع من الفهم العميق للأحداث. أنا رأيت في الثورة التونسية والثورة المصرية كذلك 3 سنن ثابتة متكررة رأيناها في كل مراحل التاريخ ورأيناها في الثورة المصرية وكتبت مؤلف "قصة تونس". هذه السنن تصب في معنى واحد سنتحدث عنه لاحقًا.
السُنة الأولي: هي أن النصر يأتي من حيث لا تحتسب، بل يأتي من حيث تكره، وهذا شيء غريب لأنني أقوم بالتخطيط والإعداد والترتيب وكرجل مخلص وحريص على الأمة وغيور على الدين أتمنى أن يكون المسار في اتجاه ولكن الله يسيره في اتجاه آخر، ونحاول أن نرجع المسار لما نراه ولكن بلا فائدة، وندعي الله أن يرجع المسار لما فيه الخير فيسير الله الأحداث في مسار تكرهه. هذا ما رأيناه رأي العين أثناء الثورة المصرية. مصداق هذه السنة ما ذكر في القرآن الكريم، قصة هامة جدًا اختارها الله سبحانه وتعالى من وسط ملايين القصص التي حدثت في التاريخ لأن بها سنة موجودة. فقال في قصة بدر (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) (الأنفال:5) كارهون هذا المسار ويريد الله أن يفرض هذا المسار على المسلمين "أنتم تريدون العير والله يريد النفير" أنتم تريدون القافلة والله يريد الجيش، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون) (الأنفال:7) ففي أيام الثورة المصرية رفعنا منذ اليوم الأول لافتات تقول "سلمية" لا نريد أي صدام أو ضرب أو أي نوع من التعدي على الممتلكات والبشر، ولكن يصعد الأمر بالرغم عن أنوفنا إلى الصدام، أنت لا تريد هذا الوضع وتكرهه ولكن الله يريده أن يتم، أنت لا تريد ما فعله الإعلام المصري أثناء الثورة ولكن الله يريده أن يحدث، أنت لا تريد أن يفعل الخارجون عن القانون ما فعلوه ولكن الله يريده أن يتم، لذلك عندما يقود الله هذا النظام يقوده من حيث تكره لا من حيث تحب.
السُنة الثانية: هي أن دائمًا هناك تباين في القوة، فأنت تعد ومأمور بالأخذ بالأسباب فيأتي الله بالتغيير في وقت لم تستكمل فيه بعد أسبابك، أنت تتمنى أن يمنحك الله الفرصة حتى تعلو وتكون موازيًا لقوة العدو ولكن الله يعجل قبل أن تتم أسبابك، وأنت تتمنى أن تأخذ وقتك لتجهز نفسك، إذا كانت هناك فرصة لمدة عام، فتستطيع أن تجمع من في المدينة الذين يريدون أن يخرجوا في بدر ولا يعرفوا أن هناك قتال، ويمكن أن أجهز جيشي أفضل ويمكن أن أفعل كذا وكذا ولكن الله لا يعطيك هذه الفرصة ويأتي اللقاء في وقت أنت قليل وعدوك كثير. أنت عدتك ضعيفة ومعك بعض الحجارة الموجودة في الشارع ولم تخرج من بيتم حاملًا سكينًا أو معد نفسك وهو مجهز سنج ومطاوي وخيول وجمال وقنابل مسيلة للدموع ورصاص حي ورصاص مطاطي وأقمار صناعية وطيران إلخ. فأنت تقاتل دولة بإمكانيات دولة وأنت لا تستطيع فتريد أن يؤخرها الله ولا يؤخرها. فالأعداد متفاوتة والقلة واضحة في الطرف المظلوم والكثرة واضحة في الطرف الظالم، والعدة ضعيفة في الطرف المظلوم والعدة كبيرة جدًا وقوية جدًا مع الطرف الآخر من قطع إنترنت وإيقاف قنوات فضائية وقطع الاتصالات بينك وبين أخيك! فترى أن الوقت غير مناسب.
السُنة الثالثة: هي أن النتائج التي تحدث تأتي على خلاف أي محلل. أكثر المتفائلين بعد هذه الواقعة يتوقع أن يحدث كذا وكذا ولكن النتائج تأتي عشرات أضعاف هذا التفائل احتسابًا للنتائج، ففي بدر على سبيل المثال إذا كنت أنت ممن في الجيش ستكون أمنيتك أن ترجع سالمًا وأن ينجيك الله في هذه المعركة، وأقصى أمنية ممكن أن تكون موت أبي جهل أو وزيره عتبة بن ربيعة، فبقدرة الله يموت 70 وحلمك لم يكن هذا، أن يموت 70 من الكفار في معركة واحدة! من المستحيل أن يخطر هذا ببالك أصلًا!
الرسول صلى الله وعليه وسلم وهو في مكة في زمن الضيق والقهر والبطش والاستبداد يرفع يده ويقول "اللهم عليم بقريش" وبعد ذلك يقول 7 أسماء "اللهم عليم بأبي جهل، اللهم ليك بعتبة بن ربيعة، بشيبة بن ربيعة ..." أقصى أحلام أشد متفائلين في الجيش الإسلامي هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو أكثر الخلق يقينًا في الله، وأكثر الناس طموحًا لنصرة الدعوة، دعا ربنا بهلاك هؤلاء السبعة فأمات الله 70! عشر أضعاف أكثر المتفائلين. هؤلاء السبعين هم عتاة الإجرام في مكة، ولكن أحد المجرمين لم يمت، هو أبو لهب، فمات في زمن بدر، فكل من أطاح بالنظام على مدار سنوات أطاح الله بهم في لحظات. هذه النتائج ليست نتائج بشرية، ما حدث شيء لا يخطر على ذهن البشر المحللون الذين يمسكون الورقة والقلم ويحسبون حسابات المستقبل القريب أو البعيد.
هذه السنن تصب في معنى واحد، هو أن الله وحده هو الذي أسقط النظام. أن الله وحده هو الذي غير، أن الله وحده هو الذي نصر، عندما فهمت ذلك استطعت أن أفهم ما قاله الله عز وجل في سورة الأنفال (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى...) (الأنفال:17) أنت أمسكت بالحجارة ورميت بها ولكن الله رمى لأنك من الممكن أن تخطيء ويفشل أي إعداد قمت به فلا تستطيع الثقة بأن السيف الذي تمسك به سيصيب، فهذا ترتيب الله سبحانه وتعالى، أراد أن يموت عددًا قليلًا وعدتهم كبيرة حتى لا تقل بعد النصر أنك أنت من فعل هذا بفضل خطتك وإعدادك، ولكنه الله، فحساباتك كانت بعيدة عن النصر ولا يمكن تخيل تحقق هذه النتائج ولكن الله نصرك حتى تقول كلمة واحدة في النهاية "سبحان الله الذي نصر". لذلك تجد في صورة النصر الله يعطينا إيجازًا بسيطَا للغاية لرد فعلنا لرؤية النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (النصر:1-3) سبح بحمد ربك الذي نصر وحقق ما لا يخطر على ذهنك، الذي نصر القلة وأتى بالنصر من حيث تكره، الذي حقق النتائج التي لا تحسبها كبشر واستغفره لأن من الممكن أن يدخل روعك أنك أنت من فعل ذلك ولكن الله هو من فعل.
أ/مصطفى: كأن التاريخ يعيد نفسه في الثورة وسأختم بكلمة من كلامك، وهي أن من يريد أن يعرف ما سيحدث في المستقبل يقرأ ما سبق. "...وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (الفتح:23) " التاريخ يعيد نفسه، كن على ثقة. إذا أردت أن تعرف نتائج أي حدث يحدث الآن أقرأ كتب التاريخ والقرآن الذي حكى الله فيه قصصًا كثيرة من التاريخ، وإذا وجدت حدث مشابه فاعلم يقينًا أن النتيجة ستكون واحدة لأن سنة ربنا وقانونه في إدارة شئون الخلق سواء والأفراد أو الأمم لن تتبدل ولن تتغير.